السؤال: ما هو النسخ في الشريعة والقرآن الكريم؟ أرجو أن تبيّنوا لنا ببيان واضح ومفصّل النظرية السائدة في قضايا النسخ عند العلماء المسلمين، كمدخل لفهم هذا الموضوع، وجزاكم الله خيراً (فادي، لبنان).
الجواب: الحديث عن النسخ ـ بوصفه ظاهرة تشريعية ـ وقع بصورة مطوّلة ومتفرّقة محلاً لنظر علماء القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وكان له محلّ في علمَي الأصول والكلام أيضاً، ومن هنا اتخذت له جوانب متعدّدة عولج كلّ جانب منها في علم من هذه العلوم الأربعة (القرآنيات، والحديث، وأصول الفقه، والكلام). وأهميّة البحث عن ظاهرة النسخ تعود ـ فيما يبدو ـ إلى أنّ الباحث لا يتمكّن من الخروج بنتيجة قرآنية تشريعيّة ما لم يكن له اطّلاع على تطبيقات هذه الظاهرة في القرآن الكريم، فهي تماماً كالبحث عن المخصِّص الذي هو شرط في إمكان الأخذ بالعام. وقد دلّت جملة من الروايات على عدم القدرة على تفسير القرآن واستخراج الأحكام منه ما لم تكن عند الإنسان معلومات كافية حول النسخ الوارد فيه. وعلى أية حال، فمجمل ما أفيد عندهم حول هذه الظاهرة يمكن ذكره موجزاً في جهات من البحث:
الجهة الأولى: حقيقة النسخ، فمفردة النسخ من المفردات التي كان لها ـ إلى جانب مدلولها اللغوي الأوّلي ـ مدلول ثانوي اصطلاحي؛ لأنّها عندما دخلت في الظاهرة القرآنية وأخضعت للبحث العلمي اتخذت شكلاً مضمونياً محدّداً يرجع في روحه إلى المعنى اللغوي.
أ ـ أمّا المعنى اللغوي، فالمستفاد من كتب اللغة أنّ النسخ له عدّة معانٍ: الأوّل: الاستكتاب. والثاني: النقل والتحويل ومنه تناسخ المواريث. والثالث: الإزالة أو إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه، أو إزالة الشيء بشيء آخر يتعقّبه على اختلاف تعبيراتهم الواردة، إذ يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ إذا أزالته. وقد قيل: إنّ المعنى الأخير كثر استعمال النسخ فيه عند الصحابة والتابعين، ومن هنا اُطلق على المخصِّص والمقيِّد اسم الناسخ، خصوصاً في التفسير المنسوب إلى ابن عباس؛ فإنّ التقييد والتخصيص نحو من الإزالة ولو الجزئيّة. ولعل المراجع لهذه المعاني الثلاثة يجد أنّها تعود ـ بحسب الروح ـ إلى مضمون واحد.
ب ـ وأمّا المعنى الاصطلاحي، فقد أفيد في صياغة تعريفه بيانات أبرزها ثلاثة:
البيان الاول: ما لعلّه المشهور، وذكره السيد الطباطبائي في تفسير الميزان، من أنّ النسخ عبارة عن الإبانة عن انتهاء أمد الحكم وانقضاء أجله.
البيان الثاني: ما ذكره السيد الخوئي في البيان، وسجّل في تقرير بحثه من أنّه رفع أمرٍ ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه.
البيان الثالث: ما أفاده المحقّق الخراساني في كفاية الأصول، من أنه رفع الحكم إثباتاً ودفعه ثبوتاً.
وهذه البيانات الثلاثة ترجع ـ حسب الظاهر ـ إلى روح واحدة أريد الكشف عنها وإن كان المجال مفتوحاً للملاحظة عليها من ناحية فنيّة، كما تطرّق له جماعة، إلا أنّ المراد هو أن النسخ له بُعدان: بعدٌ ثبوتي، ويتلخّص في أنّ الحكم منذ تحقّقَ في عالم الجعل والإنشاء كان محدّداً بحدوده الزمانية الخاصّة، وبالتالي فإنّه بصورة طبيعية سوف يزول وجوده في ذلك العالم بارتفاع تلك الفترة وانقضائها.. ومجرّد ارتفاعه عن رتبة الفعليّة دون المرتبة الإنشائية لا يكون نسخاً. أمّا البُعد الإثباتي، فيتلخّص في أنّ الذي يبدو إثباتاً في النسخ هو أنّ هناك رفعاً للحكم الذي كان ثابتاً وإلغاءً له. ولهذا توجد مفارقة بين عالمي الإثبات والثبوت؛ فإنّ ما يبديه عالم الإثبات هو عملية رفع للثابت، وأمّا واقع الأمر وعالم الثبوت فهو ارتفاع ذاتي يحسن تسميته بالدفع، فالحكم بالنسبة لي كأنه بالنسخ قد ارتفع، ولكنّه بالنسبة إلى الله كأنّه بالنسخ قد انتهى أمده الذي حدّد له من الأوّل، وهذه القضيّة لابد من الانتباه إليها؛ لأنّ تشوّشها يوجب الوقوع في محاذير عديدة من وجهة نظرهم.
الجهة الثانية: إمكان النسخ، من الطبيعي أنّ عامّة المسلمين ـ إلا من شذّ كما نُقل ـ يرون النسخَ ظاهرةً ممكنةً من الناحية الكلاميّة؛ لأنّ قوام شريعتهم على النسخ؛ فإنّهم يقولون بأنّ شريعة محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم نسخت الشرائع السابقة، ولهذا فإنّ من ناقش في إمكان النسخ نجده عادةً من اليهود وأمثالهم، وقد أثاروا في ذلك الإشكاليّة التالية، حيث قالوا بأنّ الحكيم تبارك وتعالى بتشريعه الحكمَ الأوّل يكون قد لاحظ مصلحةً في ذلك، وعليه فنسخه واستبداله بحكم آخر يستبطن أحد أمرين لا ثالث لهما:
أ ـ أن يكون علمه بالمصلحة في الحكم الأوّل ثابتاً، ومع ذلك شرّع الثاني، وهذا لازمه ارتكابه خلاف الحكمة الإلهية بتشريع غير ما كانت المصلحة فيه.
ب ـ أو يكون ما انكشف له من المصلحة في الحكم الأوّل لا واقعيّة له، وهذا لازمه أنّه كان جاهلاً في الحكم الأوّل جهلاً مركّباً، وأنّه تبيّن له الحال فيما بعد. والقول بنسبة الجهل وخلاف الحكمة إلى الله سبحانه باطل. وعليه فلا يكون النسخ ممكناً في ساحته تبارك وتعالى.
أولاً: بجواب نقضي، وهو أنّ الشواهد الكثيرة قامت بين أيدينا في التوراة على وقوع النسخ، فكيف يفسّر أهل الكتاب ذلك؟ فما يفسّرون به ذلك عندهم نفسّر نحن به النسخ الذي نؤمن به عندنا.
وثانياً: بجواب حَلّي، وهو أنّ الحكم الأوّل منذ تحقّقه في عالم الجعل القانوني وإبرازه للمكلَّفين كان في عالم ثبوته في علم الله مقيّداً بزمان خاص، والبداهة قائمة على دور الأزمنة كالأمكنة في ملاكات ومصالح الأحكام، غايته لم يُبرز المولى لنا التقييدَ الزماني إلا بعد حين؛ وذلك لمصلحة قد تكون في إيهام المكلّف بخلود التكليف مما يجعل له محرّكيّة أعمق ليكون الموقف أشبه شيء بالتورية على حدّ تعبير المحقّق العراقي، لا كذباً؛ لأنّ المتكلّم لم يبرز قيد الخلود، لا أنّه أبرزه فكذب بذلك علينا. وعليه فيكون الحكم الأوّل على صلاحه في دائرته الزمنيّة والحكم الثاني على صلاحه فيما بعد زمن الحكم الأوّل، من دون لزوم الجهل وخلاف الحكمة عليه سبحانه. ومن هنا، تتضح حكمة النسخ، وأنّه أمرٌ ضروريّ في التشريع أحياناً، تبعاً لطبيعة دور الظروف والأزمنة في الحكم، وهذا ما نصّت عليه الآية الكريمة: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 106)، من أصلحيّة الحكم الجديد أو لا أقل مماثلته لما سبق، بناءًَ على كون هذه الآية بصدد الحديث عن النسخ التشريعي.
الجهة الثالثة: أنواع النسخ وأحكامه، فإنّ للنسخ تقسيمان:
التقسيم الأوّل: وهو التقسيم العام، وينقسم فيه إلى قسمين:
1 ـ النسخ التكويني: وهو المسمّى بالبداء في الأدبيات الشيعية ـ وإن كان اصطلاح البداء قابلاً للشمول للنسخ التشريعي أيضاً ـ وهو بحث فلسفي كلامي معروف.
2 ـ النسخ التشريعي: وهو المعبّر عنه بالنسخ بصورة مطلقة، ويعني نسخ تشريعٍ لتشريع آخر، كما تقدّم. وهذا النسخ التشريعي ينقسم بدوره إلى قسمين أيضاً:
أ ـ النسخ بملاحظة الشريعة الواحدة: وهو أن يشرّع المولى ضمن شريعة الإسلام مثلاً حكماً من الأحكام، ثم بعد مضيّ فترة ينسخه في إطار نفس الشريعة، وهو المعبّر عنه بنسخ الحكم.
ب ـ النسخ بملاحظة الشرائع المتعدّدة: وهو المعبّر عنه بنسخ الشريعة. وهو يعني أنّ مجيء الشريعة اللاحقة ـ كالشريعة الإسلاميّة ـ موجبٌ لنسخ الشرائع السابقة وإبطالها، وقد فسّر هذا النسخ عندهم بمعنيين:
المعنى الأوّل: أنّ نفس ظهور الشريعة اللاحقة موجبٌ لعمليّة إلغاء كاملة للشرائع السابقة، بحيث لا يعود من الممكن الأخذ بأيّ حكم من أحكامها على الإطلاق، أي هو نسخٌ على سبيل الكلّية.
المعنى الثاني: أنّ الشريعة اللاحقة موجبة لعدم بقاء الشرائع السابقة على اكتمالها وكلّيتها ولا يمنع ذلك من بقاء شيء منها لم تتعرّض له الشريعة اللاحقة اكتفاءً بوروده في الشريعة السابقة، وهذا المقدار هو المتيقّن والمصحّح لإجراء استصحاب الشرائع السابقة كما بحثوا ذلك في علم أصول الفقه.
التقسيم الثاني: وهو التقسيم الخاصّ ـ أي في دائرة الشريعة الإسلاميّة ـ وله شكلان أساسيّان:
الشكل الأوّل: النسخ في القرآن الكريم، بمعنى نسخ جملة من آياته، ويمكن ملاحظته من ناحيتين:
الناحية الأولى: من حيث نوعيّة المنسوخ في النصّ القرآني، وهناك ثلاثة أنواع له:
النوع الأوّل: نسخ الحكم دون التلاوة، وهو المشهور، ويعني بقاء الآية على ما هي عليه في المتن القرآني تُقرأ وتكتب وتتداول، غايته يكون حكمها مرتفعاً، وهذا النوع لم يشكّكوا في جوازه، وسيأتي وقوعه. ويمكن تسميته عندهم بنسخ الأثر دون العين.
النوع الثاني: نسخ التلاوة دون الحكم، ويعني أنّ الحكم الوارد في الآية يظلّ ثابتاً، غايته أنّ متن الآية يُحذف من النص القرآني ويُعدم بوصفه فقرةً قرآنية، وهذا النوع هو المسمّى في علوم القرآن بنسخ الأعيان دون الآثار، وقد ذهبت إلى جوازه، بل وقوعه، جماعة من أهل السنّة، بل نسبه السيد الخوئي إلى أكثرهم، وقد مثّلوا له بآية الرجم المنسوبة إلى عمر بن الخطاب، وهي الآية التي ذكرت في النصوص بأشكال متعدّدة منها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، ورغم أنّ الشيعة ينسبون هذا النسخ لآية الرجم إلى عمر بن الخطاب إلا أنّه ورد في مصادر الحديث الشيعي أيضاً، فقد روى الشيخ الكليني في (الكافي 7: 177)، والطوسي في (تهذيب الأحكام 10: 3)، بسند صحيح على المعروف، عن عبد الله سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (الرجم في القرآن قول الله عز وجل: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة)، وروى الشيخ الصدوق في (كتاب من لا يحضره الفقيه 4: 26)، عن سليمان بن خالد قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: في القرآن رجم؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة)، وقد حملهما العلماء على أنّهما صدرا بنحو التقيّة.
لكن مع ذلك لم يثبت عندهم هذا النوع من النسخ في غير هذا المورد، وهو أمرٌ لا يمكن القبول به؛ لأنّ الدليل عندهم قام على عدم جواز نسخ القرآن الكريم بأخبار الآحاد الصحيحة فضلاً عن الضعيفة، وهذا المورد الوحيد لم يثبت بأزيد من ذلك.
النوع الثالث: نسخ التلاوة والحكم معاً، وهو المعبّر عنه بنسخ الأعيان والآثار، وقد صار معناه واضحاً، ومثلوا له بما روته عائشة: (كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخت بخمس معلومات..). وهذا النوع من النسخ مرفوض عند كثيرين أيضاً؛ لثبوته بأخبار الآحاد، على أنّ لازمه لو تمّ بعد زمنه ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ هو تحريف القرآن الكريم.
الناحية الثانية: من حيث نوعيّة الناسخ، فإنه يمكن أن يكون بأحد أمور:
أولها: النص القرآني نفسه كما ذكر في جملة من الآيات الكريمة، ولا إشكال إثباتي أو ثبوتي فيه، فإنّه القدر المتيقّن من النسخ، وسيأتي الحديث عن فعليّته وتحقّقه ومقداره، ويشهد له آية: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 106)، بناءً على تفسيرها بالآية القرآنيّة، وأيضاً قوله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (النحل: 101).
ثانيها: الدليل القطعي، كالإجماع المفيد للقطع أو الاطمئنان أو النصّ المتواتر عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وهذا النوع منعه ـ كما قيل ـ الشافعي وأكثر أهل الظاهر وابن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وقبله غيرهم؛ لعدم المحذور العقلي ولا النقلي فيه، وإن أنكر جماعة وقوعه نتيجة عمليّة استقرائيّة.
إلا أنّ الشيخ المفيد ناقش في ذلك بنصّ آية: (ما ننسخ..)، على أساس أنها تضمّنت أنّ الناسخ لابد أن يكون خيراً من المنسوخ وأصلح منه وأقوم، ومن الواضح أنّ غير القرآن الكريم لا يمكن اتصافه بذلك. وبالرغم من أنّ الشيخ المفيد ناقش نفسه بأنّ الأصلحيّة المذكورة في الآية الكريمة إنما هي بلحاظ المحتوى والمضمون، لكنّه أجاب بإنكار ذلك وأنّ ظاهر الآية لغة وعرفاً غيره.
ثالثها: الدليل المعتبر غير القطعي كخبر الواحد الحجّة، وقد التزم المشهور بعدم نسخ الكتاب به؛ لأمورٍ:
منها: الإجماع الإسلامي العام المنعقد على ذلك والمحقّق لتسالم فقهي متصل.
ومنها: ما أفاده صاحب الكفاية من أنّ النسخ كان مورداً لاهتمام المسلمين بشدّة، فعملوا على ضبطه وسطر موارده بدقّة بالغة، وعليه فإذا جاء خبرٌ آحادي فلا يمكن نسخه للكتاب؛ لأنّ مضمونه لو كان من موارد النسخ لسجّل ونقل وتواتر؛ لكثرة الدواعي إلى نقله، ومع عدمه يكون ذلك كاشفاً عن كذب هذا الخبر الناسخ وبطلانه.
ومنها: أنّ النصوص دلّت على طرح مخالف القرآن الكريم، وهذا معناه أنّ النسخ بخبر الواحد لو كان جائزاً لما كان هناك معنى لأخبار الطرح كما هو واضح.
الشكل الثاني: النسخ في السنة الشريفة، وهنا قالوا بأنّ السنّة:
ـ إن كانت نبويّةً فلا مانع من نسخها بسنّة نبويّة أخرى؛ لعدم وجود محذور عقلاً ونقلاً فيه، بل دلّت عليه رواية منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قلت: أخبرني عن أصحاب محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم صدقوا على محمّد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا، قلت: فما بالهم اختلفوا؟ قال: (إنّ الرجل كان يأتي رسول الله فيسأله المسألة فيجيبه فيها بالجواب، ثم يجيؤه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب، فنسخت الأحاديث بعضها بعضاً).
إلا أنّ نسخ السنّة النبوية بنصوص أهل البيت عليهم السلام، عُدّ مشكلاً، وذلك للإجماع والتسالم على انسداد باب النسخ بعد النبي، وللأخبار الدالّة على عرض نصوصهم على الكتاب والسنّة، والتي استظهر منها سنّة النبي، فلو كان هناك نسخٌ كذلك لم يكن معنى لأخبار العرض هذه.
ـ وأمّا إذا كانت سنّةً غير نبوية فلا يوجد ـ بحسب ما رأيت ـ ما يمنع عن نسخها إلا الإجماع والتسالم الموجود عند الإماميّة، وما دلّ على أنّهم لا يشرّعون وأنّهم شرّاحٌ للكتاب والسنّة، ويشهد له أنّهم في موارد التعارض المستقرّ لا يطبّقون فكرة النسخ.
إلا أنّ هذين الحكمين فيما يتعلّق بالسنة الشريفة واجها مناقشة حاصلها:
1 ـ أما فيما يتعلّق بعدم نسخ السنّة النبوية بالخبر غير النبوي، فقد وردت موثقة محمّد بن مسلم بعكسه إذ جاء فيها عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله لا يتّهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ فقال: (إنّ الحديث يُنسخ، كما ينسخ القرآن). فإنّها ظاهرة في قابلية الحديث النبوي للنسخ بنصوصهم بل في تحقّقه، ما لم نقل بأنّ المراد هو أنّ حديث النبي كان قد نسخ وحديثنا يكون كاشفاً عن النسخ السابق.
2 ـ وأما فيما يتعلّق بعدم نسخ نصوصهم بعضها ببعض، فبروايات دلّت على عكسه كصحيحة الكناني قال: (قال لي أبو عبدالله: يا أبا عمرو، أريتك لو حدّثتك بحديثٍ العام، ثم جئتني بعد ذلك فتسألني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر. فقال: قد أصبت يا أبا عمرو..)، ومن الواضح أنه لا توجد خصوصيّة مصحّحة للأخذ بالأحدث إلا النسخ للماضي.
أمّا في شقّها الأوّل، فقد ذكروا أنّ الرواية إن أرادت النسخ الاصطلاحي، فلابد من حملها على النصّ القطعي الصدور عنهم عليهم السلام، وتكون مضيّقةً لدائرة الإجماع القائم، ولا بأس به، وإن أرادت المعنى اللغوي فتحمل على مثل التقييد والتخصيص ولا محذور فيهما.
وأمّا في شقّها الثاني، فذكروا أنّ ظاهرها أنّ الخبر الأوّل إما هو الصادر تقيّةً أو الثاني، فإن كان الأوّل تقية اُخذ بالثاني؛ لفرض أنّه كان بياناً للحكم الواقعي، وإن كان الثاني تقيّةً وجب الأخذ به؛ لفرض أمر الإمام به، لا لأنّه نسخ الحكم الواقعي الموجود في الأوّل، بل لضرورات التقيّة، ومن هنا جاء في ذيل نفس الرواية: (أما والله لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم، أبى الله عز وجل لنا في دينه إلا التقيّة). ولا معنى لربط التقيّة بالمقام إلا بما تقدّم، فيكون الحديث أجنبيّاً عن النسخ.
الجهة الرابعة: دائرة وقوع النسخ في القرآن الكريم، فبالرغم من دعوى كثرة وقوع النسخ فيه، حتى أوصله أبو بكر النحّاس ـ على ما نقل عنه ـ إلى 138 آية منسوخة، إلا أنّ بعضاً آخر قلّل من هذا العدد، حتى ذهب السيد الخوئي إلى عدم وجود آية منسوخة في الكتاب، عدا آية النجوى، بل بعضٌ قليل جداً نفى أصل وجود النسخ في القرآن الكريم. ولعلّ الذي يمكن قوله هنا هو أنّ الآية الكريمة التي يفترض كونها ناسخة إن كانت بحسب لسانها ناظرة إلى الآية المنسوخة، فلا إشكال في النسخ، وإلا فمجرّد ما يبدو من التنافي بين الآيتين بلا خصوصيّة النظر هذه لا يبرّر دعوى النسخ، كيف وقد قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)، وهو يعني أنّ التنافي إنّما هو بدويّ يزول بالتأمّل واستخدام طرق التوفيق العرفيّة بين النصوص، ومن هنا يلاحظ أنّ أغلب ما عُدّ من موارد النسخ إنما هو بحسب الروح راجعٌ إلى مثل ذلك من التخصيص والتقييد وأشباههما على ما بيّنه السيد الخوئي في تفسير البيان.
هذه خلاصة موجزة جدّاً عن الصورة التي قدّمت ـ مدرسيّاً ـ لظاهرة النسخ، وهناك الكثير من الكلام الذي يمكن قوله هنا نتركه لمناسبة أخرى.