السؤال: روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: (إنّ البطنَ لَيَطغى من أَكْلَة، وأقربُ ما يكون العبدُ من الله إذا خفَّ بطنُه، وأبغضُ ما يكون العبدُ إلى الله إذا امتلأَ بطنُه)، وروي عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ أنّه قال: (لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب؛ فإنّ القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء)، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلّم أيضاً: (أديموا قرع باب الجنّة. قيل: وكيف نديم قرع باب الجنّة؟ قال: بالجوع والظمأ). سؤالي: ما هو مدى صحّة هذه الروايات سنداً ومضموناً؟
الجواب: الرواية الأولى وردت في الكافي (ج6: 269) بسندٍ صحيح، كما وردت في محاسن البرقي (ج2: 446) بالسند عينه. وأمّا الحديث الثاني فقد رواه الطبرسي في مكارم الأخلاق، ورواه غيره أيضاً ولكنّه يفتقر إلى سند، كما أنّه لا يُعلم مصدره، فالطبرسي متأخّر نسبيّاً، وقد جاء هذا الحديث في بعض كتب أهل السنّة أيضاً، وذكره ابن أبي الحديد في شرحه، وكذلك الزمخشري في ربيع الأبرار، وابن حمدون في التذكرة الحمدونية، والأبشيهي في المستطرف، وغيرهم، ولكنّ الجميع ذكره بلا بيان مصدره ولا سنده، ولم أقف له على أصل عند السنّة ولا عند الشيعة. وأمّا الحديث الثالث الذي ورد أيضاً خطاباً لعائشة زوج النبي، فقد ذكره الأحسائي في عوالي اللئالي، وكذلك ابن ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة، وهو حديث لم أعثر له على أصل ولا سند، وقد ذكره الملا علي القاري في كتابه (الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة) ناقلاً عدم العثور على أصلٍ له، وكذلك فعل العجلوني في كشف الخفاء.
وهذا النوع من الأحاديث نلاحظ تناقله في كتب الأخلاقيين والمتصوّفة، وقد وردت عشرات الروايات عند السنّة والشيعة في موضوع الطعام هذا، والمقدار الجامع المؤكّد بين هذه الروايات هو النهي ـ ولو بنحو الكراهة ـ عن كثرة الأكل والبطر والتملّي والتخمة ونحو ذلك، وفيها دعوةٌُ للقصد في الطعام وعدم الإفراط فيه، والذي يظهر لي بمراجعة روايات هذا الموضوع ـ والتي نقل جزءاً وافراً منها الحرّ العاملي في كتابه تفصيل وسائل الشيعة (ج 24: 239 ـ 246)، ونقل بعضها في سنن الترمذي (ج4: 18)، وكثيراً منها البيهقي في شعب الإيمان (ج5: 22 ـ 49)، واعتماداً على منهج الوثوق الذي يأخذ بالمقدار المؤكّد من مضمون هذه النصوص ـ الذي يظهر لي هو النهي عن كثرة الأكل والانكباب على الطعام والشراب، وهو المستفاد أيضاً من التلويح القرآني، حيث قال تعالى: (نَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (محمد: 12)، في إشارة إلى الانكباب على الطعام والمتعة تماماً كما هي الأنعام التي تظلّ عادةً مشغولة بالطعام والشراب كالبقر، وليس هناك ما يثبت الترغيب في الجوع، فهذا المفهوم لا يشكّل قدراً متيقناً من النصوص وفقاً لمنهج الوثوق بالأحاديث الذي هو المنهج الصحيح، وحتى الرواية الأولى هنا والتي هي صحيحة السند لا تدعو للجوع كما هي طريقة المتصوّفة، بل تدعو لخفّة البطن، وهو المفهوم المقابل لثقلها الدال كنايةً عن الامتلاء والشبع والتخمة والاشتغال بالطعام دوماً. وما يبدو لي بنظري القاصر هو أنّ ثقافة هجران الدنيا ـ بمعنى الجوع وعدم الأكل على الطريقة الصوفية ـ هي ثقافة مخالفة للنصوص القرآنية الكريمة الدالّة على دعوة الناس للأكل والتمتّع بالطيبات دون طغيان، قال تعالى: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة: 60)، (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 57 ـ 58)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة: 168)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة: 172)، (َهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (الأنعام: 141 ـ 142)، (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف: 160 ـ 161)، (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (طه: 80 ـ 81)، (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 31 ـ 32) وغيرها من النصوص القرآنية والحديثية. ورغم أنّ بعض هذه الآيات له مدلول عام من حيث كلمة (الأكل) أو ورد في حقّ بني إسرائيل، لكنّ الجوّ العام الذي يخرج به الإنسان من قراءة النصّ القرآني هو النهي عن الإسراف والطغيان ومنع الحقوق والتمتع كالأنعام، بحيث يعيش الإنسان هدفيّة التلذّذ بالطعام والشراب والجنس وغير ذلك، دون أن يكون له هدفٌ آخر. وليس في القرآن الكريم دعوةٌ للجوع، بل على العكس هي دعوة للأخذ بطيّبات الدنيا دون إسراف أو طغيان، من هنا نتحفّظ على بعض النصوص القليلة التي غالبها منعدم المصدر أو ضعيف السند، والتي تحثّ على ثقافة الجوع وترك الطعام والشراب، على أساس ما في هذه الثقافة من اقترابٍ من الله سبحانه، فإنّه لو كانت تجربة الفرد ناجحةً على هذا الصعيد، فليس من الضروري أن يكون ذلك ثقافة قرآنية ودينية ثابتة. نعم إذا كان المقصود بثقافة الجوع هو الإتيان بأنواع الصوم، ومنه المندوب الثابت استحبابه، فهذا لا بأس به، لكنّ هذا لا يثبت ثقافة الجوع في وقت الإفطار، فليلاحظ ذلك، مع أنّ بعض أنواع الصوم المستحب يُبنى استحبابه على قاعدة التسامح في أدلّة السنن، كما هو واضح.