السؤال: ما معنى أنّ الحديث معتبر؟ وهل الحديث المعتبر حجّة وأساس للعمل؟ وبناءً عليه هل حديث الإكثار من سبّ أهل البدع صحيح سنداً ومتناً؟ وما هو تفسيره؟ وكيف نطبّقه؟
الجواب: أولاً: الحديث المعتبر هو الحديث الذي يتمتع بكلّ الشروط العلميّة والشرعية اللازمة لجعله أساساً في العمل وترتيب النتائج العلميّة والعمليّة عليه، والعلماء يختلفون في الشروط التي يلزم توفّرها في صيرورة الحديث معتبراً، فمنهم من يرى وثاقة سلسلة الرواة المتصلة بالمعصوم، ومنهم من يرى غير ذلك، وما يبدو لي شخصيّاً ـ من خلال البحوث الأصوليّة في هذا المجال ـ هو أنّ الحديث لا يكون حجةً ولا معتبراً إلا إذا أفاد اليقين بالصدور أو الاطمئنان بذلك، إمّا لتواتره أو تكاثر طرقه أو تلاشي احتمال وضعه والخطأ فيه، بطريقة تجعل الاحتمال المعاكس قليلاً للغاية ونادراً، فلا حجيّة لأخبار الآحاد الظنيّة والله العالم.
ثانياً: أمّا الحديث الذي أشرتم إليه، فهو مرويّ عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، حيث ينقله لنا داود بن سرحان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم؛ كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ولا يتعلّمون من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة) (الكافي 2: 375)، وهذا الحديث صحيح السند وفقاً لقواعد تصحيح الحديث، لكنّه عندي غير معتبر؛ لعدم إمكان تحصيل الاطمئنان بصدوره، بل غايته الظنّ؛ لكونه لا يحظى إلا بسندٍ واحد وله طريق واحد، وقد تفرّد بنقله الشيخ الكليني في الكافي، ولم ينقله أحد من القدماء غيره لا بطريقٍ جديد ولا حتى عنه!!، ولو أنّك تأمّلت لا تجد لهذا الحديث ذكراً يُذكر في كتب العلماء والمحدّثين والفقهاء والمفسّرين حتى القرن العاشر الهجري، وليس هناك ما يدعمه ويؤيّده ليرفع احتمال صدوره، وهذا هو العمدة عندي في مناقشة الحديث، وما سيأتي مؤيّد له، إن لم نقل بأنّه يواجه شبهة معارضة الثقافة القرآنيّة.
ثالثاً: أمّا الذين يقولون بحجيّة الخبر الآحاديّ الظنّي فهذا الحديث صحيحٌ عندهم، وهم الذين يطالبون بتفسير الحديث وتطبيقه عمليّاً، وهناك من يثير مناقشات متنيّة بوجه هذا الحديث، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى: إنّ هذا الحديث يحتوي على الأمر بالإكثار من سبّ أهل البدع ليسقطوا من أعين الناس، وهذا معناه أنّه يطالب بالسبّ العلنيّ ما لم تكن تقيّة.
الجهة الثانية: إنّه يأمر بمباهتتهم، وهذا النص يحتمل معنيين: أحدهما من البهتان بمعنى التقوّل عليهم بما لم يقولوه والكذب والافتراء على لسان أهل البدع كي يسقطوا من أعين الناس، وثانيهما من المباهتة (وهو الذي ذهب إليه الفيض الكاشاني في الوافي 1: 245، والعلامة المجلسي في بحار الأنوار 71: 204، والسيد جعفر مرتضى في كتاب أفلا تذكرون: 10، وغيرهم) أي المجادلة والتسكيت، بمعنى إفحامهم وصدّهم بما يوجب تحيّرهم، ومهاجمتهم فكرياً بطريقة تسقطهم وتسقط فكرهم.
أمّا الجهة الأولى، فقد قال القرآن الكريم: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) (النساء: 148)، فالله لا يحبّ الجهر بالسوء من القول إلا في حالة الظلم، وهذا متعلّق السبّ الذي هو جهرٌ بالسوء من القول، ما لم نلتزم بالتخصيص.
وأمّا الجهة الثانية، فيقول سبحانه وتعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8)، وهذا المنطق القرآني مخالف لثقافة البهتان الواردة في الحديث، بناءً على تفسير (باهتوهم) بمعنى البهتان والافتراء والتقوّل عليهم.
رابعاً: ويؤيّد هذا كلّه، وجود نصوص كثيرة تتحدّث عن أخلاقيّات المؤمن، وصفات النبي وأهل بيته عليهم السلام، وهي تشير إلى عدم معروفيّتهم بمثل هذا السبيل (سبيل الجهر بالسبّ)، رغم كثرة البدع التي ظهرت في القرون الإسلاميّة الأولى وفقاً لفهم المشهور، ففي الحديث عن مالك بن أنس جاء يصف الإمام الصادق عليه السلام: (ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد فضلاً وعلماً وورعاً، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائماً، وإما قائماً، وإما ذاكراً، وكان من عظماء البلاد وأكابر الزهاد الذين يخشون ربهم، وكان كثير الحديث طيّب المجالسة كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول الله، اخضرّ مرّة واصفرّ أخرى. حتى لينكره من لا يعرفه، ويقال: الإمام الصادق، والعلم الناطق، بالمكرمات سابق، وباب السيئات راتق، وباب الحسنات فاتق. لم يكن غياباً، ولا سبّابا، ولا صخاباً، ولا طماعاً، ولا خدّاعاً، ولا نمّاماً، ولا ذمّاماً، ولا أكولاً، ولا عجولاً، ولا ملولاً، ولا مكثاراً، ولا ثرثاراً، ولا مهذاراً، ولا طعّاناً، ولا لعّاناً، ولا همّازاً، ولا لمّازاً، ولا كنّازاً) (مناقب آل أبي طالب 3: 396). وجاء في نهج البلاغة عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال ـ وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيّام حربهم بصفّين ـ: (إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به) (نهج البلاغة 2: 186). وقد ذكر السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب في تحقيقه لمصادر أحاديث نهج البلاغة بعد نقله هذا الحديث ما يلي: (سمع أمير المؤمنين عليه السلام حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي يشتمان أهل الشام فدعاهما ونهاهما عن ذلك فقالا: يا أمير المؤمنين، ألسنا محقّين قال: بلى، قال: أوليسوا مبطلين، قال: بلى، قالا: فلم منعتنا من شتمهم، قال: إنّي أكره أن تكونوا سبّابين… روى ذلك قبل الرضي وبعده جماعة من أهل النقل كأبي حنيفة الدينوري في (الأخبار الطوال) ص 155، ونصر بن مزاحم في كتاب (صفين) ص 103، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة م 1 ص 280، وسبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواص) ص 154) (الخطيب، مصادر نهج البلاغة وأسانيده 3: 91 ـ 92).
خامساً: إنّ الذين يصحّحون هذا الحديث بإمكانهم أن يقولوا بأنّ هذا الحديث قد جعل السبّ في سياق خطّة تهدف لترك الناس لأهل البدع، وأمّا السبّ الذي يفتقر إلى هذا الأثر، فإنّه لا يكون مشمولاً بهذا الحديث، فأيّ سبّ لأهل البدع والريب لا يكون ضمن هذا السياق لا يشمله هذا الحديث النبويّ، وهذا معناه أنّ السبّ الذي يفضي إلى مزيد تمسّك الناس بهذا المبتدع، أو سبّ الآخرين لمقدّسات المؤمن، أو تشويه صورة المؤمنين دون نتيجة تُذكر، سوف لن يكون مشمولاً لهذا الحديث أيضاً، قال تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 108)، وجاء في صحيحة أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّ رجلاً من بني تميم أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال: أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: (لا تسبّوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم) (الكافي 2: 360). وفي هذا السياق جاء خبر ابن أبي محمود أنّه قال (… قلت للرضا : يا ابن رسول الله إنّ عندنا أخباراً في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام وفضلكم أهل البيت، وهي من رواية مخالفيكم ولا نعرف مثلها عندكم، أفندين بها؟ فقال: …يا ابن أبي محمود، إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلوّ، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيّتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا، وقد قال الله عز وجل: ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم) (عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 272).
ولهذا كلّه على ما يبدو، ذهب السيد الخوئي إلى تعليق جواز السبّ والبهتان لأهل البدع بما إذا ترتّب على ذلك ردع المنكر ومنعه، فقد جاء في استفتاء له النصّ التالي: (هل يجوز سبّ أهل البدع والريب ومباهتتهم والوقيعة فيهم؟ الخوئي: إذا ترتب ردع منكر على تلك، فلا بأس) (صراط النجاة 1: 447).
جزاكم الله خير الجزاء شيخنا الفاضل
ولفت انتباهي ذكركم لصحيحة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام (ان رجلا من بني تميم ..) الخ الحديث ثم ذكركم رواية العيون عن ابن ابي محمود من غير وصف لها بالصحة . فأحببت الإضافة بأن سندها صحيح لغيره ، لأن للصدوق ثلاث طرق أحدها صحيح لكتاب المسائل لإبراهيم ابن ابي محمود الخراساني صاحب الرضا عليه السلام ، فقد يُظن للوهلة الأولى ان سند العيون فيه جهالة ، فأحببت التنويه .