السؤال: في البحث (ورقة مفتاحية حول حقوق الإنسان في الإسلام)؛ تحدّثتم عن (استبعاد الفقهاء نصوصاً كثيرة عن الساحة الحقوقيّة والقانونيّة، لمجرّد ما يسمّونه: اللسان الأخلاقي في النصّ)، فلو تحدّثونا عن القبليات الكلامية والفقهيّة لهذا الأمر، وعن أمثلة ومصاديق لهذا الاستبعاد. (رائد الصدر، السعودية).
الجواب: لو أخذنا رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام، ونظرنا في حضورها الفقهي ـ بصرف النظر عن السند ـ فهذه الرسالة من أهمّ الوثائق التي تمسّك بها المشتغلون بقضايا الحقوق في الإسلام، وصاغوا منها ـ عبر جهود مشكورة ـ مجموعةً كبيرة من الأفكار، سؤال: هل نجد لهذه الرسالة حضوراً في الممارسة الفقهيّة للاجتهاد عند الفقهاء؟ لو أخذنا عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر، ونظرنا في حضوره عند الفقهاء ما قبل العصر الأخير، كم نجد له من حضور، رغم أنّه شكّل إنجازاً ضخماً عند المشتغلين بقضايا الحقوق والحرّيات والعمل السياسي والإداري؟ لو أخذنا كتب ثواب الأعمال وعقاب الأعمال وأمثالها سنجد ظاهرةً من هذا النوع. أمّا متناثر الروايات فهو كثير جدّاً في هذا السياق.
ينطلق الفقهاء المسلمون ـ لو أردنا أن نحلّل بواعث تمييزهم هذا ـ من طبيعة اللسان البياني، فهم يرون أنّ النبي والأئمّة والصحابة لهم نوعين من البيان: البيان القانوني الذي يكونون فيه بصدد شرح الإلزامات القانونية والحقوق والواجبات، والبيان الأخلاقي الذي يكونون فيه بصدد التوجيه الروحي والوجداني والحث والترغيب على شيء بصرف النظر عن إصدار نصّ قانوني، وهناك فرق بين أن يصرّح رئيس البلاد أو أعضاء المجلس النيابي بمواقف عامّة توجيهيّة لوسائل الإعلام وبين أن يصدروا قرارات رسمية أو مرسوم جمهوري أو قوانين تحال إلى الجهات المختصّة. هذا النوع من التفكيك شعر به الفقهاء عند تعاملهم مع النصوص الدينية أيضاً. وقد تعزّز ذلك في تقديري عندما انفصلت تاريخياً شخصيّة علماء الأخلاق والتربية الروحية عن شخصيّة الفقيه، فالفقيه ورجل القانون يحمل ـ بحكم طبيعة عمله ـ لغةً صارمة دقيقة واضحة مليئة بالمصطلح ومحدّدة الزوايا، ومعيّنة المعالم والمفردات، أمّا عالم الأخلاق فهو يحمل لغةً وجدانية مدوّرة الزوايا عاطفيّة، يمكن التسامح كثيراً في أسلوبها البياني، ولا يصحّ أن نحاكمه في لغته كما نحاكم الفقيه، تماماً كالشاعر والأديب إذا أردتُ التشبيه.
هذه الأمور كوّنت أصل الفكرة التي تميّز بين اللسان القانوني الحقوقي واللسان الأخلاقي التوجيهي، وإنّني أعتقد بصحّة هذه الفكرة تماماً، لكن ما كنت أريده هو أنّ الفقهاء في جملة من الموارد ضحّوا بعدد من النصوص لأنّهم رأوا فيه لساناً أخلاقياً، مع أنّ المراد مسألة قانونيّة، وفي تقديري أنّه حصل عكس ذلك في بعض الموارد أيضاً، فظُنّ أنّ اللسان قانوني وهو لا يهدف إلى عناصر قانونية إلزاميّة أو محدِّدات وضعيّة حقوقية. وما يدفع لإعادة النظر في هذا الموضوع نقطة أعتقد أنّها بالغة الأهميّة، وهي أنّ اللغة القانونية هل كانت تستخدم بهذه الطريقة اليوم في النصوص الدينية القرآنية والحديثية في القرن الأوّل الهجري؟ هل العرب تعرف في لغتها لغةً قانونية بهذا الحجم من الصرامة أمّ أنّ اللغة العربية الأولى لا تحوي هذه التدقيقات المتأخّرة. فمثلاً هذه التمييزات بين الحرمة والكراهة، أو فكرة أنّ النص مطلق يستوعب كلّ الموارد، فإذا جاء نصّ يخالفه في مورد جزئي حصل التقييد، هل هناك في لغة العرب إطلاق كلّي، أم أنّ البيان يساق على الأعم الأغلب؟ هذا موضوع خطير جدّاً، يعود إلى تحليل الفترة التي دوّنت فيها اللغة العربية من معاجم ونحو وصرف وبلاغة، كيف تمّ ذلك؟ وهل تركت عقليّة المدوّنين المعاصرة للزمن العباسي ـ وهو زمن الحركة العلمية ـ هل تركت أثراً على كيفية فهمهم للغة وعرضها للمسلمين والعرب وغيرهم فيما بعد؟ القرآن الكريم مثلاً يقول: (أولم نمكّن لهم حرماً آمناً تجبى إليه ثمرات كلّ شيء)، هل حقّاً كانت مكّة تجبى إليها ثمرات الدنيا؟ نحن نشعر بأنّه ليس المراد ذلك، والنصّ فيه كلمة (كلّ) الدالّة عند الأصوليين والنحاة على العموم، ومع ذلك لا نجد قرينة المجاز هنا ولا نحسّ بالتجوّز، ممّا يعني أنّ كلمة (كلّ) تستعملها العرب في الأكثر أو مبالغة في الكثرة. مثلُ هذه المفاهيم من شأنها أن تعيد فهمنا لكلّ بُنية مباحث الألفاظ في أصول الفقه، ولعلّه لهذا وجدنا أنّ بعض الأصوليّين السابقين كانوا يقولون بأنّ صيغة الأمر تدلّ على جامع الطلب الأعم من الوجوب والاستحباب، مستدلّين على ذلك بكثرة مجيئها في الاستحباب. لا أريد أن أستطرد، فهذا الموضوع فيه أفكار كثيرة نتركها لمناسبات أخَر. المهم عندي هو أنّ اللغة العربية ـ كما يرى السيّد علي الحسيني السيستاني في بعض إشاراته السريعة وفقاً لما جاء في كتاب الرافد ـ هي لغة فقيرة قانونياً، لهذا يُبيَّن فيها الشرطُ والمانع والرافع والوجوب بصيغة واحدة؛ لأنّه ليس فيها صيغ قانونية متعدّدة، هي لغة غنيّة في نفسها، لكنّ عدم وجود عقل قانوني عند العرب بحجم تطوّر القانون لاحقاً فرض استخدام صيغة واحدة لمفاهيم متعدّدة، مثل (استقبل القبلة بذبيحتك) الدالّة على الشرطية، و (صلّ الظهر) الدالّة على الوجوب، و (أعد صلاة الظهر لو حصل التفات بجسدك عن القبلة) الدالّة على قاطعيّة الالتفات ومبطليّته، وهكذا.. وكلّها صيغة أمر واحدة. هذا يعني أنّ اللغة العربية قد تستخدم الأسلوب التوجيهي لإفادة مسألة قانونية، وقد نجد الأسلوب الصارم في حقّ مسألة أخلاقية توجيهيّة، الأمر الذي لا يسمح بالبقاء على الممارسة النمطية التي سار عليها الكثير من الفقهاء، بل نحتاج لإعادة النظر في طبيعة التركيب، وممارسة تحليل أكبر لاكتشاف أبعاده القانونية وغيرها معاً، بدل هدر النصّ فوراً بمجرّد الإحساس بوجود بعض خصائص وسمات البُعد التوجيهي فيه.
إنّنا نلاحظ تطبيقات متعدّدة في الممارسات الاجتهادية تحتاج لإعادة النظر، ففي بعض الأحيان وجدنا بعض الفقهاء يقول: لو أنّ الحديث بيّن المفسدة والعلّة في الحكم، فهو شاهد البُعد الأخلاقي والكراهتي، مثلاً لو قال: لا تأكل السمك وتشرب اللبن فإنّه يؤذيك، أو لا تفعل كذا فإنّه يورث الفقر، حملوا ذلك على الأخلاقيّة والكراهة، وكأنّ القانونيّ لا يحقّ له أن يدعم نصّه التشريعي بتوجيهٍ يبعث في نفس المكلّف الحركة نحو التطبيق. ولو جاء نصّ يقول: لا تتظلّل في الحجّ، فإنّ من ترك التظلّل غفرت ذنوبه، فإنّ الفقهاء يفهمون من ذلك أحياناً ـ كما حصل للمجلسي الأوّل رحمه الله بالفعل في إحدى روايات التظليل ـ الترغيب وليس الحكم الإلزامي، أليس يمكن للإمام أن يكون مبيّناً للقانون، ويردف ذلك بتوجيهٍ وإخبار يبعث في النفس حماس التطبيق؟ وهل الأئمّة والأنبياء فقهاء فقط يجيبون عن الاستفتاء ببالغ الاختصار؟ ما المانع أن يكون ذلك قانوناً وفي الوقت عينه هناك لسان ترغيب بالثواب؟ ولو راجعنا لرأينا أنّ أكثر الواجبات والمحرّمات المذكورة في الكتاب والسنّة ورد فيها هذا اللسان أيضاً. إنّنا نلاحظ أحياناً أنّ أحد عوامل هذا الأمر هو وجود نصوص واضحة في الإلزام في مقابل شبه إجماع فقهيّ تاريخي على عدم الإلزام، هذا الأمر ساعد أيضاً على الحمل على اللسان الأخلاقي في بعض النصوص؛ توفيقاً بين الأمرين.
على أيّة حال، لا أزعم أنّ الفقهاء لم ينتبهوا لتنوّعات الدلالة والبيانات، بل على العكس كانت لهم أيدي بيضاء في هذا المجال وقصب السبق كان من نصيبهم، لكن ما أدعو إليه هو إعادة النظر في جملة من التطبيقات مع الالتفات لذهنيّة جديدة في الموضوع، تبتعد عن القهر التقعيدي للدلالات نحو مزيد من العفوية والعرفيّة، ولا تحاول أن تسقط شخصيّة رجل الفقه والقانون المعاصر على النبي أو الإمام، لتحكم على طريقة بيانه بالأخلاقية عندما لا تنسجم مع طريقة بيان الفقهاء المعاصرة مثلاً أو تكون قريبةً من روحها. هذا وللتفصيل مجال آخر.