السؤال: أرجو التكرّم ـ شيخنا الفاضل ـ بسرد أدلّة من القرآن أو الأحاديث من المعصومين عليهم السلام على أنّ علم الرجال بوضعه الحالي هو المعيار لصحّة الأحاديث.
الجواب: أعتقد أنّه قد يكون السؤال خاطئاً، فليست قيمة علمٍ من العلوم كامنةً فقط في أخذ شرعيّته من الكتاب أو السنّة، فهل لدينا دليل من الكتاب أو السنّة على صحّة العلوم الميكانيكيّة التي بها تسير المركبات البريّة والبحرية والجويّة اليوم؟ وهل لدينا في الكتاب أو السنّة دليل على صحّة العلوم الفيزيائيّة أو الكيميائية أو منهجيّتها أو معياريّتها في التعامل مع ظواهر الطبيعة؟ بل هل لدينا اليوم نصوص من الكتاب أو السنّة تعلّمنا منهج الاجتهاد الذي نجده في علم أصول الفقه بالطريقة القائمة؟ بل هل لدينا اليوم مبرّر من كتاب أو سنّة يصحّح طريقتنا في فهم الأحاديث؟ بل حتى علم اللغة بفضاءاته المتعدّدة هل لدينا نصوص تشرّعه وتصحّح الاحتكام إليه بالطريقة القائمة اليوم؟ وهل كان أهل البيت يُرجعون الناس لمعاجم اللغة وكتب النحو والصرف والبلاغة، كما يرجع المفسّر والمحدّث والفقيه اليوم إليها؟ بل حتى علم الحديث نفسه وقيمة الروايات أمر لا يمكن أن نأخذه من الرواية نفسها؟ لأنّ الرواية لا تثبت نفسها منطقيّاً، وكذلك القرآن الكريم لا يمكن أن نثبت صحّته بإخباره عن صحّة نفسه، لأنّه لا يمكنه أن يثبت نفسه، بل لابدّ أن نثبت صحّته من طرق علميّة وعقلية وفكريّة أخرى تعتمده، لا أنّ نصاً في القرآن يمكن أن يثبت لنا ـ قبل إثبات صحّة القرآن ـ أنّ القرآن صحيح، لمجرّد أنّ هذا النصّ قال بأنّ القرآن صحيح.
لا يجب ـ لكي يكون علم الرجال علماً صحيحاً ـ أن يأخذ صحّته من آية أو رواية بالضرورة، ولا كذلك علم الفلسفة والكلام والتاريخ والعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، ففي بعض الأحيان نجد علماً تعرّضت لبعض موضوعاته النصوص الدينية، وفي أحيان أخر لا نجد هذا الشيء، وهذا أمر طبيعي في كلّ العلوم وعلاقتها بالنصوص الدينية، إنّما السؤال الأساس هو: هل توجد نصوص تحظر علينا التعامل مع علم الرجال بهذه الطريقة أو لا؟ وأين هي هذه النصوص؟ وما هو المعيار الصحيح في التعامل معها؟
إنّ علم الرجال ـ وكلّ العلوم المتّصلة بالإثبات التاريخي ـ هي علوم إنسانيّة تعتمد العقل الإنساني والمنطق البشري في التفكير، وتستعين بالنصوص الدينية فيما أرشدتها إليه، وإلا اعتمدت على نفسها، فالمنطق الإنساني لا يقبل بأخذ موقف معيّن ـ لاسيما لو كان الموضوع مهمّاً وخطيراً ـ من شخص كذاب، أو من شخص شهد من نثق به أنّه كذاب، والمنطق الإنساني يقبل أن نأخذ من شخص صادق ولم يكن فيما ينقله لنا ما يثير الريب في صدقه ودقّته، وعليه فلا يحتاج علم الرجال لكي يكون صحيحاً ـ بعد إثبات سلامته بالطريقة العقلانيّة ـ أن تأتي به آية أو رواية، بل المهم أن ننظر هل جاء ما يعارض استخدام هذا العلم في النصوص الدينيّة أو لا؟ فعلى المستوى الديني يجب النظر في النصوص المانعة عن هذا العلم لكي نُبطل شرعيّته، لا النظر في النصوص الداعية إلى هذا العلم كي نُثبت شرعيّته، وهكذا الحال في أغلب العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة.
بل حتى لو ذهبنا ناحية طريقة تفكيركم في معالجة الموضوع، فقد انتصر الرجاليون والأصوليون في دراسات موسّعة لصحّة منهجهم، فحاولوا أن يثبتوا حجية خبر الثقة من خلال النصوص القرآنية والحديثية كآية النبأ وآية الكتمان وآية السؤال وغيرها من الآيات، كما تابعوا تفاصيل تعاطي أهل البيت مع الرواة والروايات التي كانت تتداول في زمنهم فلاحظوا أنّ أهل البيت ـ وكذلك العديد من التابعين والفقهاء والعلماء من سائر المذاهب ـ أعطوا اهتماماً لنَقَلَة الأحاديث، فوجدنا أهل البيت يحذّرون في عشرات النصوص من الكذابين في الرواية، ومن أشخاص بأعيانهم؛ لأنّهم كذبوا على النبي وأهل بيته، ونجدهم يحيلون الناس إلى أشخاص آخرين، ويصفونهم بالثقات المأمونين في عشرات من الروايات في هذا الصدد، وهكذا وجدناهم يركّزون على متن الحديث وعرضه على القرآن وعلى سائر كلماتهم، مقدّمين منهجاً متنوّعاً في تصحيح النصوص. ولم يرد عنهم نصوص ترفض علم الرجال والنظر في أحوال الرواة رغم شيوع هذه العلوم منذ القرن الثاني الهجري بين عامّة المسلمين، بل قد ألّف الإماميّة أنفسهم وغيرهم العديد من كتب الرجال وما يقترب منها ويتصل بها، ولم نجد نصوصاً ترفض هذا العلم، ولو كان ذِكْرُ الرواة شيئاً لا قيمة له فلماذا جرت عادة المسلمين ـ بمن فيهم الإماميّة ـ في القرون الهجرية الخمسة الأولى، وفيها عصر النصّ أيضاً وفق الحساب الإمامي، على ذكر الأسانيد والاهتمام برواة الأحاديث بمرأى ومسمع من أهل البيت عليهم السلام.
نعم، لا يعني هذا كلّه أنّ تفاصيل طريقة تعامل الرجاليّين اليوم صحيحة، بل قد يناقشهم الإنسان في نظريّةٍ هنا أو هناك، أو في طريقةٍ هنا أو هناك، مناقشةً عقلانية تارة، ومناقشة مستندة إلى النصوص تارة أخرى، وهذا شيء طبيعي يحصل بين علماء الرجال والجرح والتعديل من مختلف المذاهب، فمثلاً بالنسبة لي شخصيّاً لا أقتنع كثيراً بكون كلمات العلماء المتقدّمين دليلاً على الوثاقة أو الضعف، بل إنّني أسمّيها قرائن الوثاقة أو الضعف، وأميّز بين الدليل والقرينة، والسبب في ذلك يرجع إلى أنّ حجية كلمات الرجاليين قائمة على حجيّة الاطمئنان أو الظنّ الاطمئناني، كما كان يذهب إليه بعض العلماء مثل الشيخ المامقاني وغيره، ومن ثم فمجرّد قول الطوسي بأنّ فلاناً ثقة، قد لا يفيد الاطمئنان بوثاقته دائماً، لكن لو جمع الإنسان مجموعة معطيات في هذا الصدد، فقد يحصل له الاطمئنان لو لم يكن وسواسيّاً، والاطمئنان حجة عقلائيّة وشرعيّة معاً.
كما أنّ مرجعيّة علم الرجال، لا تعني أنّ الموقف النهائي من كلّ رواية هو بيد البحث الرجالي فقط، بل لابدّ من ضمّ مختلف العناصر المؤثرة في الوثوق بصدور الحديث، مثل دراسة المتن وتحليله وعرضه على الكتاب والعقل، ومثل رصد المصادر والطرق وتعدّدها وتنوّعها، ومثل دراسة تاريخ ظهور الحديث من حيث القرب من عصر النصّ أو البعد عنه، ومثل دراسة مصالح الرواة ومدى تأثيرها في هذا الموضوع أو ذاك على احتمال وضع الحديث، ومثل الاحتمالات السلبية والإيجابية في صدور هذا الحديث أو ذاك.. فالقضيّة متنوّعة، ولهذا عندما نريد حذف دور علم كعلم الرجال حذفاً تامّاً، فإنّ علينا أن نقدّم نظريّةً بديلة في التعامل مع الحديث، فإمّا أن نقول: يجب إلغاء دور الحديث الشريف تماماً، أو نقول: يجب وضع معيار بديل يُثبت صدور النصوص، ولو بالظنّ الاطمئناني. والسؤال: إذا حذفنا علم الرجال (ومعه علوم التراجم والأنساب والفهارس) من ساحة المشاركة في عمليّات إثبات الصدور بوصفه العلم الذي يوفّر لنا الكثير من المعلومات حول تناقل الحديث، إلى جانب علم الحديث نفسه، ففي هذه الحال كيف نثبت الحديث؟ تصوّروا الآن كلّ كتب الحديث بلا إسناد أصلاً فكيف نثبت الصحّة إلا في حالات نادرة؟ وهل سيكون ذلك أمراً يسيراً؟ وهل يصحّ أن نقول عن الذين يهتمّون بمصادر الحديث وتاريخه ورواته وملابسات الشخصيّات الناقلة بأنّهم عبّاد أسانيد؟ فلو كانوا عبّاد أسانيد فما هي النظرية البديلة التي تسمح لنا منطقيّاً بإثبات الحديث إذا استبعدنا الأمزجة والاستنسابات وموافقة الحديث للميول الذاتية والطائفية والدينية والفئويّة؟! هل مجرّد أن الحديث لا ينافي القرآن يعني أنّه صدر؟ ما هو الدليل على ذلك؟ هل مجرّد صحّة المضمون تُثبت صحّة الصدور؟ ما الدليل على هذه القفزة غير المنطقيّة؟ وأمّا أحاديث العرض على الكتاب ودورها في هذا الموضوع، فقد تحدّثوا عنها بإسهاب في البحوث الأصوليّة، وفيها كلام كثير من ناحية دورها في إثبات الحديث غير المخالف للكتاب، ويكاد يكون موقفهم متفقاً عليه ـ إلا القليل ـ في عدم قدرة نصوص العرض على إثبات صدور الحديث غير المخالف للكتاب، إلا بوصف عدم المخالفة واحدة من قرائن الوثوق، وحصر دور أخبار الطرح بالجانب الإبطالي للحديث المخالف للكتاب دون الجانب الإثباتي في الحديث الموافق للكتاب، وقد تعرّضنا لهذا في بحثنا حول نقد المتن في الحديث الشريف، واخترنا هذا الرأي أيضاً.
إذن، علم الرجال (وإخوانه) علمٌ إنساني بشري، لم نجد معارضة صريحة من النصوص في حقّه، لكنّه لا يشكّل نهاية مطاف الحكم على الأحاديث، وإنّما نعتبره رافداً أساسيّاً من روافد القرائن الاحتمالية التي تعزّز ثقتنا بصدور الحديث تارةً أو تضعف ثقتنا بصدوره تارةً أخرى، ولهذا فعندما يقول النجاشي بأنّ فلاناً ثقة فقد نوثقه؛ لا لأنّ النجاشي قال ذلك ونحن متعبَّدون بقول النجاشي، فإنّ قول النجاشي ليس سوى اجتهاد منه قد يمتزج ببعض العناصر الحسيّة في بعض الأحيان، بل لأنّ قوله ـ لو انضمّ إلى عناصر أخرى ـ قد يوجب لنا الوثوق بوثاقة فلان، وهكذا لو قال النجاشي: فلانٌ ضعيف أو كذاب، فنحن لا نترك رواية هذا الشخص تعبّداً فقط بقول النجاشي وكأنّه قول إنسانٍ معصوم، بل لأنّ كلام النجاشي يُربك وثوقنا بوثاقة فلان، فلا نستطيع إثبات وثاقته بعد ذلك بسهولة، بل قد نستطيع إثبات كذبه لو ضممنا إلى شهادة النجاشي معطيات إضافيّة، ومن هذا النوع ما لو كان الراوي مهملاً أو مجهول الحال، فإنّ القوّة الاحتماليّة في صدقه تظلّ أقلّ ممّا لو شهدوا له بالصدق، فتحتاج أكثر إلى تظافر الطرق والعناصر الأخرى المؤثرة.
ومن هنا قلنا في موضع سابق بأنّ كتاب الغضائري يظلّ ـ حتى لو لم تثبت نسبة النسخة التي بين أيدينا إليه كما هو الأرجح ـ يظلّ قرينةً احتماليّة، تشكّل قيمتها جزءاً من قيمة القرينة الاحتمالية التي في شهادة النجاشي؛ لأنّ احتمال نسبة الكتاب إليه هي النصف مثلاً، فنحن لا نملك شهادة من الغضائري في التضعيف، لكنّنا نملك احتمالاً واقعيّاً في وجود شهادة من الغضائري في التضعيف، وهو احتمالٌ ليس فرضيّاً كما هو واضح، ومن هنا نلاحظ موقف الغضائري ـ لا بوصفه معارضاً لقول النجاشي، فيؤخذ بقول النجاشي ويترك الغضائري؛ لعدم ثبوت النسبة، كما هي طريقة مسلك حجيّة خبر الواحد.. بل ـ من باب أنّ شهادة النجاشي لو كانت تمثل في قوّتها الاحتمالية السبعين في المائة، فإنّ ما وصلنا من كتاب الغضائري يمثل عشرين في المائة مثلاً، فعليّ أن آخذ بعين الاعتبار كلّ هذه العناصر في سياق تحصيل الوثوق بالنتيجة، فلاحظ جيداً. هذا هو ما أجده صحيحاً في تفسير معياريّة علوم الإسناد في التعامل مع الحديث.