السؤال: استخدم القرآن الكريم كلمة (كلا) كثيراً، فماذا تعني هذه الكلمة في موارد استخدامها؟ (صادق، إيران).
الجواب: وقع كلام في معنى كلاّ، التي وردت في القرآن الكريم 33 مرّة أغلبها في الجزءين التاسع والعشرين والثلاثين، فذهب جماعة إلى أنها بمعنى الردع، إمّا على نحو النفي أو على نحو النهي، وذهب آخرون إلى أنها بمعنى (حقّاً) فتكون مفعولاً مطلقاً دائماً، وذهب جماعة إلى أنها حرف تنبيه لا محلّ له من الإعراب، فتكون بمعنى (ألاَ)، وقد يقال بانها تأتي بالمعاني الثلاثة.
وعلى التقديرالأول تكون متصلة بما قبلها، أما على التقديرين الآخرين فتتصل بما بعدها لا محالة([1]).
وسوف أحاول ـ إن شاء الله ـ للتوضيح، استعراض موقف الإمام الطبري (310هـ) في تفسيره (جامع البيان)، والعلامة الزمخشري (538هـ) في تفسيره المعروف (الكشّاف)، وهما ممّن ذهب إلى تفسير (كلا) بمعنى الردع أو النفي، محاولين تأويل كلّ الآيات كي تنسجم مع هذا المعنى كما سنلاحظ، ومن خلالهما نطلّ على الموقف من تفسير موارد ذكر (كلا) في القرآن الكريم، فنذكر الآية ثم قول الطبري والزمخشري، ثم نذكر تعليقا سريعاً حول مدى صحّة قولهما، وهل هناك من احتمال آخر، أما الجزم بالمعنى فالله العالم به ومن أَعْلَمَهُ سبحانه.
الآية الأولى: قولـه تعالى: ]أطّلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً * كلا سنكتب ما يقول ونمدّ له من العذاب مدّاً[ (مريم: 78 ـ 79).
ذكر الطبري في تفسيره: (يعني تعالى ذكره بقولـه: كلاّ ليس الأمر كذلك، ما اطّلع الغيب، فعلم صدق ما يقول، وحقيقة ما يذكر، ولا اتخذ عند الرحمن عهداً بالإيمان بالله ورسوله، والعمل بطاعته، بل كذب وكفر..)([2]).
وقال الزمخشري في تفسيره: ( (كلا) ردع وتنبيه على الخطأ، أي هو مخطئ فيما يصوّره لنفسه ويتمنّاه فليرتدع عنه..)([3]).
التعليق: الظاهر أنّ المعنى الذي أشار اليه المفسِّران هو المفهوم عرفاً والمتناسب مع سياق الآيات، أي أنّ الله أراد الردع عن توهّم هذا الانسان بأنه اطّلع الغيب أو أخذ عهداً من عند الله.، غايته أنّ النفي أنسب كما فعله الطبري، والنهي فيه تكلّف، حيث لم تكن الآيات إلا في سياق بيان الحقّ من الباطل والصحيح من الخطأ، لا الفعل الجائز أو ذاك الذي لا ينبغي.
الآية الثانية: قولـه تعالى: ]واتخـذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّاً * كلاّ سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدّا[ (مريم: 81 ـ 82).
قال الطبري (… وقولـه: (كلاّ) يقول عزّ ذكره: ليس الأمر كما ظنّوا وأملوا من هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله، في أنها تنقذهم من عذاب الله، وتنجّيهم منه، ومن سوء إن أراده بهم ربّهم)([4]).
وقال الزمخشري: (و(كلاّ) ردعٌ لهم وإنكار لتعزّزهم بالآلهة، وقرأ ابن نهيك: (كلا) ]سيكفرون بعبادتهم[ أي: سيجحدون كلا سيكفرون بعبادتهم، كقولك: زيداً مررت بغلامه، وفي محتسب ابن جني: (كلاً) بفتح الكاف والتنوين، وزعم أنّ معناه: كلّ هذا الرأي والاعتقاد كلا، ولقائل أن يقول: إن صحّت هذه الرواية، فهي كلا التي هي للردع، قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قواريراً..)([5]).
التعليق: ظاهر (كلا) هنا بمعنى النفي، أي كلا لن يكونوا لهم عزّاً.
الآية الثالثة: قولـه تعالى: ]حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون * لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت كلاّ إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون[ (المؤمنون: 99 ـ 100).
قال الطبري: (وقولـه (كلاّ) يقول تعالى ذكره: ليس الأمر على ما قال هذا المشرك، لن يرجع إلى الدنيا، ولن يُعاد إليها..)([6]).
وقال الزمخشري: (كلاّ، ردع عن طلب الرجعة، وإنكار واستبعاد..)([7]).
التعليق: الظاهر أن (كلاّ) هنا تفيد معنى النفي، أي إنّ الرجوع منفي، وما قاله مجرّد كلام لن يتحقق منه شيء، ذلك أن وراءه برزخ إلى يوم يبعثون.
الآية الرابعة: قولـه تعالى: ]ولهم عليّ ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلّا فاذهبا بآياتنا إنّا معكم مستمعون[ (الشعراء: 14 ـ 15).
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: (كلاّ) أي لن يقتلك قوم فرعون..)([8]).
وقال الزمخشري: (جمع الله له الاستجابتين معاً في قوله: (كلاّ فاذهبا)؛ لأنّه استدفعه بلاءهم فوعده الدفع بردعه عن الخوف، والتمس منه الموازرة بأخيه فأجابه بقولـه: (فاذهبا) أي اذهب أنت والذي طلبته وهو هارون، فإن قلت: علام عطف قولـه: (فاذهبا)؟ قلت: على الفعل الذي يدل عليه (كلاّ)، كأنه قيل: ارتدع يا موسى عمّا تظنّ، فاذهب أنت وهارون..)([9]).
التعليق: تحتمل الآية احتمالين: احدهما: إن كلاّ، نهي لموسى عن خوفه وقلقه، أي: لا يجدر بك الخوف والقلق، فإني معك. ثانيهما: إنها (كلاّ) نفي للاحتمال المسبّب للخوف، أي: لن يقتلوك فلا تخف فأنا معكم. والظاهر ـ ولو بقرينة الأقربية ـ عود كلاّ إلى القتل، وهو ما يقوّي الاحتمال الثاني، فتكون (كلاّ) هنا مفيدة للردع بمعنى النفي.
الآية الخامسة: قولـه تعالى: ]فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلاّ إنّ معي ربّي سيهدين[ (الشعراء: 61 ـ 62).
قال الطبري: (وقولـه (كلاّ إنّ معي ربّي سيهدين)، قال موسى لقومه: ليس الأمر كما ذكرتم، كلاّ لن تدرَكوا، إنّ معي ربي سيهدين، يقول: سيهدين لطريق أنجو فيه من فرعون وقومه..)([10]).
ولم يتعرّض الزمخشري في هذه الآية لـ(كلاّ) شارعاً بالحديث عن (سيهدين) ([11]).
التعليق: الظاهر والمفهوم عرفاً هو نفي إدراك فرعون وجنوده لقوم موسىC، وقولـه: (إنّ معي ربي سيهدين)، تعليلٌ لهذا النفي، أي لن يدركنا فرعون لأنّ ربي سيدلّني على طريق الخلاص من هذا الموقف، وهذا الطريق هو ما شرحته الآية 63 من الشعراء، وهو ضرب البحر.
الآية السادسة: قولـه تعالى: ]قل أروني الذين ألحقتم به شُركاء كلاّ بل هو الله العزيز الحكيم[ (سبأ: 27).
قال الطبري: (كلاّ، يقول تعالى ذكره: كذبوا ليس الأمر كما وصفوا، ولا كما جعلوا وقالوا من أنّ لله شريكاً، بل هو المعبود الذي لا شريك له..)([12]).
وقال الزمخشري: (وكلاّ، ردعٌ لهم عن مذهبهم بعدما كسده بإبطال المقايسة..)([13]).
التعليق: يبدو أنّ الآية تنسجم مع معنى نفي الشركاء عن الله تعالى، أي: كلا، لا شركاء لله، بل هو العزيز الحكيم، أو نفي إراءتهم للشركاء، والمعنى: أروني شركاءكم، كلاّ، لن تتمكّنوا من أن تروني إيّاهم.
الآية السابعة: قولـه تعالى: ]يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤيه * ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه * كلاّ إنّها لظى[ (المعارج: 11 ـ 15).
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: كلا ليس ذلك كذلك، ليس ينجيه من عذاب الله شيء..)([14]).
وقال الزمخشري: (كلاّ، ردّ للمجرم عن الودادة، وتنبيه على أنّه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب..)([15]).
التعليق: تفسير الآية بما ذكره الطبري والزمخشري جيد، فإنها بصدد نفي فائدة البنين والزوجة والعشيرة و.. في النجاة عند الله تعالى، وتأكيد في المقابل على العذاب وجهنم بقوله: إنها لظى.
الآية الثامنة: قال تعالى: ]أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم * كلاّ إنّا خلقناهم مما يعلمون[ (المعارج: 38 ـ 39).
قال الطبري: (يقول عز وجل: ليس الأمر كما يطمع فيه هؤلاء الكفار من أن يدخل كلّ امرئ منهم جنّة نعيم..)([16]).
وقال الزمخشري في تفسيره: (كلاّ، ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنّة، ثم علّل ذلك بقوله: (إنا خلقناهم مما يعلمون) إلى آخر السورة)([17]).
التعليق: لوحظ ـ وسوف يلاحظ ـ أنّ الزمخشري يحاول تفسير الردع في (كلاّ) بمعنى النهي، والأمر ليس كذلك دائماً، بل معنى النفي أوجه في عدد من الآيات، كما هو الحال هنا، إذ الأوجه ما ذكره الطبري من نفي ما توقّعه الكافرون وطمعوا به من دخول الجنة لا نهياً لهم عن طمعهم كما توحي به دائماً عبارات الكشّاف.
الآية التاسعة: قال عز وجل: ]ذرني ومن خلقت وحيداً * وجعلت له مالاً ممدوداً * وبنين شهوداً * ومهّدت له تمهيداً * ثم يطمع أن أزيد * كلاّ إنه كان لآياتنا عنيداً[ (المدّثر: 11 ـ 16).
قال الطبري: (كلاّ، يقول: ليس ذلك كما يأمل ويرجو من أن أزيده مالاً وولداً، وتمهيداً في الدنيا..)([18]).
وقال الزمخشري: (كلاّ، ردعٌ له وقطع لرجائه وطمعه، (إنّه كان لآياتنا عنيداً)، تعليل للردع على وجه الاستئناف..)([19]).
التعليق: الظاهر من معنى الآية الردع عن طمع الزيادة، ووضع الكافر في حالة من اليأس إزاء ذلك، وهناك احتمال آخر وجيه جدّاً وهو أن تكون (كلاّ) نفي للزيادة المطموع بها، أي: إنه يطمع أن أزيده، كلاّ، لن أزيده، والسبب هو أنه كان لآياتنا عنيداً.
الآية العاشرة: قال تعالى: ]وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة… وما يعلم جنود ربك إلا هو ما هي الا ذكرى للبشر * كلا والقمر * والليل إذا أدبر[ (المدّثر: 31 ـ 33).
قال الطبري: (يعني تعالى ذكره بقولـه: (كلاّ)، ليس القول كما يقول من زعم أنه يكفي أصحابه المشركين خزنة جهنم حتى يجهضهم عنها)([20]).
وقال العلامة الزمخشري: (كلاّ، إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى، لأنهم لا يتذكرون، أو ردع لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيراً..)([21]).
التعليق: من الواضح أن التفسيرين فيهما تحميل وتطويع للآية، إذ لم يذكر فيها أساساً ما قاله الطبري، واحتمال الإنكار لمن أنكر ما جاء بعد كلاّ (إنها لإحدى الكبر) هو الآخر مجرد احتمال ليس عليه أدنى شاهد. والاظهر في معناها أن تأتي مرتبطة بما بعدها بمعنى حقاً، لا (ألا) لأن حقّاً (أشدّ) من (ألاَ) فتناسب القسم الوارد بعدها بقوله (والقمر).
الآية الحادية عشرة والثانية عشرة: قال سبحانه: ]… بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشّرة * كلا بل لا يخافون الآخرة * كلاّ إنه تذكرة * فمن شاء ذكره[ (المدّثر: 52 ـ 55).
قال الطبري: (قوله: (كلا بل لا تخافون الآخرة) يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يزعمون من أنهم لو أوتوا صحفاً منشّرة صدّقوا، بل لا يخافون الآخرة، يقول: لكنهم لا يخافون عقاب الله، ولا يصدّقون بالبعث والثواب والعقاب.. ويعني جلّ ثناؤه بقولـه: (كلاّ إنه تذكرة) ليس الأمر كما يقول هؤلاء المشركون في هذا القرآن من أنّه سحرٌ يؤثر، وأنه قول البشر، ولكنه تذكرة من الله لخلقه، ذكرهم به..)([22]).
وقال الزمخشري: (ردعهم بقولـه (كلا) عن تلك الإرادة، وزجرهم عن اقتراح الآيات.. ثم ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال: (إنّه تذكرة) يعني تذكرة بليغة كافية بهم أمرها في الكفاية)([23]).
التعليق: إنّ مجيء (كلاّ) مرتين يمكن أن يكون للتأكيد بلا حاجة إلى افتراض متعلّق ثانٍ لكلاّ الثانية، ويكون المعنى نفي ما أرادوه من الصحف المنشّرة، وعليه فما تأوّلـه الطبري لكلاّ الثانية وكذلك الزمخشري غير ضروري.
الآية الثالثة عشرة: قال سبحانه: ]فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الانسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر * إلى ربك يومئذٍ المستقر[ (القيامة: 7 ـ 12).
قال الطبري: (يقول جلّ ثناؤه: ليس هناك فرار ينفع الإنسان؛ لأنه لا ينجيه فِراره ولا شيء يلجأ إليه من حصن ولا جبل ولا معقل، من أمر الله الذي قد حضر، وهو الوزر)([24]).
وقال الزمخشري: (كلاّ، ردع عن طلب المفرّ، لا وزر، لا ملجأ..)([25]).
التعليق: إنّ (كلاّ لا وزر) تعني: لا لا وزر، فتفيد التأكيد، ويكون المعنى نفي للمفرّ، ثمّ (لا وزر)، أما قول الزمخشري كعادته أنه ردع عن طلب المفرِّ، ففيه تحميل لا ضرورة له، لاسيما وأنّ الآية جاءت خطاباً للإنسان كلّ إنسان، لا فقط الكافر حتى يقال: إنّ الله نهاه عن قوله مثلاً وقرّعه ووبّخه بذلك.
الآية الرابعة عشرة والخامسة عشرة: قال سبحانه: ]لا تحرّك به لسانك لتعجل به، إنّ علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إنّ علينا بيانه * كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة * وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة * كلا إذا بلغت التراقي[ (القيامة 16 ـ 26).
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لعباده المخاطبين بهذا القرآن المؤثرين زينة الحياة الدنيا على الآخرة: ليس الأمر كما تقولون أيها الناس من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم، ولا تجازون بأعمالكم، لكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم الدنيا العاجلة، وإيثاركم شهواتها على آجل الآخرة ونعيمها، فأنتم تؤمنون بالعاجلة، وتكذّبون بالآجلة.. (كلا إذا بلغت التراقي) ليس الأمر كما يظنّ هؤلاء المشركون من أنهم لا يعاقبون على شركهم ومعصيتهم ربهم، بل إذا بلغت نفس أحدهم التراقي عند مماته وحشر بها..)([26]).
وذكر الزمخشري أنّ: (كلاّ، ردع لرسول الله2 عن عادة العجلة وإنكار لها عليه، وحثّ على الأناة والتؤدة، وقد بالغ في ذلك باتباعه قولـه: (بل تحبّون العاجلة) كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كلّ شيء، ومن ثم تحبّون العاجلة… (كلا إذا بلغت التراقي) ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل ارتدعوا عن ذلك، وتنبّهوا على ما بأيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم..)([27]).
التعليق: ما أفاده الزمخشري في تفسير (كلا بل تحبّون العاجلة) في غير محلّه، ذلك أنّه احتمال محض لا شاهد عليه، بل الشاهد على عكسه؛ إذ كيف يبالغ الله بعجلة النبي 2 في قراءة القرآن وهي عجلة لله تعالى، بأن يذكر حبّ البشر للدنيا ورفضهم للآخرة فإنّ هذا الترقي في غير محلّه أصلاً. وأما ما أفاده الطبري من أنّ ذلك نفي لما يقوله المنكرون للبعث، فهو أبعد؛ إذ لا شاهد عليه إلا المقطع السابق من السورة، وقد تمّ فصله بمقطع جديد، من غير المؤكّد أنه متصل به، فربط المطلبين لا شاهد له، فهو أشبه بإعادة الضمير على البعيد. وهكذا تفسير الزمخشري للمقطع الثاني (كلا إذا بلغت التراقي) ذلك أنه من غير الواضح وجود نهي هنا، فالمقام ليس مقام أمرٍ ونهي. والذي يبدو أن (كلا) الأولى بمعنى (حقّاً)، والثانية تحتمل حقاً، وربما ترجع إلى (ويذرون الآخرة) فتكون بمعنى الردع بقرينة ما بعدها.
الآية السادسة عشرة والسابعة عشرة: قولـه تعالى: ]عمّ يتساءلون * عن النبأ العظيم * الذي هم فيه مختلفون * كلاّ سيعلمون * ثم كلّا سيعلمون[ (النبأ: 1 ـ 5).
قال الطبري: (وقولـه (كلاّ) يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون الذين ينكرون بعث الله إيّاهم أحياء بعد مماتهم، وتوعّدهم جلّ ثناؤه على هذا القول منهم، فقال: (سيعلمون) يقول: سيعلم هؤلاء الكفّار المنكرون وعيد الله أعداءه، ما الله فاعل بهم يوم القيامة، ثم أكّد الوعيد بتكرير آخر، فقال: ما الأمر كما يزعمون من أنّ الله غير محييهم بعد مماتهم، ولا معاقبهم على كفرهم به، سيعلمون أنّ القول غير ما قالوا إذا لقوا الله، وأفضوا إلى ما قدّموا من سيء أعمالهم..)([28]).
وقال الزمخشري: (كلاّ، ردع للمتسائلين هزؤاً، و(سيعلمون) وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون أنّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حقّ؛ لأنه واقع لا ريب فيه، وتكرير الردع مع الوعيد تشديد في ذلك، ومعنى (ثم) الإشعار بأنّ الوعيد الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ)([29]).
التعليق: أما ما أفاده الإمام الطبري فلا قرينة من اللفظ تشهد عليه؛ ذلك أنّ سياق الآيات السابقة لا يوحي بالإنكار بقدر ما يوحي بالاختلاف حول هذا الموضوع والتشكيك فيه والتساؤل عنه، وهذا ما يجعل تفسير (كلاّ) بنفي ما يزعمون من إنكار الإحياء بعد الإماتة بعيداً عرفاً. وأما ما أفاده الزمخشري، فهو أبعد، ذلك أنّ قيد (الهزؤ) غير موجود في الآيات حتى يضاف بلا قرينة. والأنسب في تفسير الآيات الأخذ بالرأي القائل بتفسير (كلاّ) بمعنى حقّاً، ذلك أنّ هذا المعنى لا يحتاج إلى تقدير زائد في الآيات، وتكون المحصّلة: انهم سيعلمون بالتأكيد النبأ اليقين الذي اختلفوا حوله، ألا وهو البعث.
الآية الثامنة عشرة: قولـه تعالى: ]وأمّا من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهّى * كلاّ إنها تذكرة * فمن شاء ذكره[ (عبس: 8 ـ 12).
قال الطبري في تفسيره: (يقول تعالى ذكره: (كلاّ) ما الأمر كما تفعل يا محمد، من أن تعبس في وجه من جاءك يسعى وهو يخشى، وتتصدّى لمن استغنى..)([30]).
وذهب الزمخشري كالمعتاد إلى التفسير بالردع قائلاً: (كلاّ، ردع عن المعاتب عليه، وعن معاودة مثله..)([31]).
التعليق: تفسير (كلاّ) في الآية بمعنى الردع عن ذاك التصرّف، بعدم التلهّي عن الذي جاءك يسعى بغيره.. وجيه، وهو موافق للوجدان العرفي، والآية لا تأبى هذا المعنى ظاهراً.
الآية التاسعة عشرة: قال تعالى: ]من أيّ شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدّره * ثم السبيل يسّره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شاء أنشره * كلاّ لمّا يقض ما أمره[ (عبس: 18 ـ 23).
قال الإمام الطبري في تفسيره: (وقولـه (كلاّ لما يقضِ ما أمره) يقول تعالى ذكره: كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر، من أنه أدّى حقّ الله عليه، في نفسه وماله، لمّا يقضِ ما أمره، لم يؤدّ ما فرض عليه من الفرائض ربّه)([32]).
وقال الزمخشري: (كلاّ، ردعٌ للإنسان عمّا هو عليه..)([33]).
التعليق: تفسير الامام الطبري فيه تقدير لم يذكر في الآية، ولا دليل عليه، فإنّ قول الإنسان أنه أدّى فرائض الله أمرٌ لم تشر إليه الآيات، وقوله تعالى: ]لمّا يقض ما أمره[ لا يعني وجود ادّعاء من هذا النوع، بل الآية بصدد التعليق على حجم النعم التي جاءت في الآيات السابقة من الخلق وغيره الأمر الذي يستدعي الإشارة إلى أنّ الانسان غير قادر على الوفاء بهذه النعم ومقابلتها بالعمل. فالأظهر في المعنى ـ إذا أردنا استبعاد معنى (حقّاً) و(ألا) ـ أن يقال: إنّ كلاّ ردع عن (أكفره) الواردة في بداية المقطع، فكأنّ الآيات ذكرت كفر الإنسان، ثم أعقبته ببيان التدبير والخلق والرزق الإلهي، ثم ختمتها برفض الكفر الإنساني وبطلانه، فيا أيها الإنسان الكافر، بعد أن عرفت تصرّف الله في خلقك ومسيرتك لا يحقّ لك أن تكفر به وتجحد نعمه.
الآية العشرون: قال تعالى: ]يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم * الذي خلقك فسوّاك فعدلك * في أيّ صورة ما شاء ركبك * كلاّ بل تكذّبون بالدين[ (الانفطار: 6 ـ 9).
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: ليس الأمر أيّها الكافرون كما تقولون، من أنكم على الحقّ في عبادتكم غير الله، ولكنكم تكذّبون بالثواب والعقاب، والجزاء والحساب)([34]).
وفسّر الزمخشري الآية بقوله: (كلاّ، ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتسلّق به، وهو موجب الشكر والطاعة، إلى عكسها الذي هو الكفر والمعصية..)([35]).
التعليق: يحتمل في تفسير الآية أن يقال: كلاّ، بمعنى الردع، أي لا تغتر أيّها الإنسان بربك وتظنّ أنه لن يعاقبك، وأنّ اعتقاداً مثل هذا غير صحيح، ذلك أنك بذلك تكذب بالثواب والعقاب (الدين) والحال أننا جعلنا عليك رقباء يدققون في أعمالك.
أما احتمال (حقّاً) في هذه الآية فيبدو أنه يشتمل على حزازة؛ ذلك أنّ قوله (حقاً بل) غير لطيف بحسب المذاق العرفي، بخلاف ما لو حملناه على الردع فسيكون المعنى، ليس لك الاغترار بل أنت تكذّب بالدين.
الآية الواحدة والعشرون: قال سبحانه وتعالى: ]ويل للمطففين.. ألا يظنّ أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لربّ العالمين * كلاّ إنّ كتاب الفجّار لفي سجّين[ (المطففين:
1 ـ 7).
قال الإمام الطبري لدى تعرّضه للآية: (يقول تعالى ذكره: كلاّ، أي ليس الأمر كما يظنّ هؤلاء الكفار، أنهم غير مبعوثين ولا معذبين، إنّ كتابهم الذي كتب فيه أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا (لفي سجين)..)([36]).
أما العلامة الزمخشري فقال: (كلاّ، ردعهم عمّا كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر البعث والحساب، ونبّههم على أنّه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه، ثم أتبعه وعيد الفجّار على العموم، وكتاب الفجّار، ما يكتب من أعمالهم..)([37]).
التعليق: يبدو أنّ الآية لا تنسجم مع تفسير الإمام الطبري، فقد أرجع (كلاّ) إلى مقدّر مفهوم من (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون) فجعلها نافية لعدم البعث والعذاب، مع أنّ سياق الآية لا يوحي بأنّ القرآن بصدد محاججتهم على موضوع البعث بقدر ما هو بصدد الإشارة إلى البعث كوعيد لهم بالعذاب على فعل التطفيف، ولهذا لو حملنا (كلاّ) على الردع لكان الأنسب هو ما أشار إليه الزمخشري من ردعهم عن التطفيف والتلاعب بالوزن والكيل. لكنّ إرجاع كلاّ إلى التطفيف مع كونه محتملاً، يبدو أنه يسمح بظهور (كلاّ) في (حقاً) والله العالم.
الآية الثانية والثالثة والرابعة والعشرون: قال عزّ من قائل: ]إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأوّلين * كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنّهم لصالوا الجحيم * ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون * كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين[ (المطففين: 13 ـ 18).
قال الطبري في جامعه: (وقولـه (كلاّ بل ران على قلوبهم) يقول تعالى ذكره مكذّباً لهم في قيلهم ذلك: كلاّ، ما ذلك كذلك، ولكنه ران على قلوبهم..)([38])، و(يقول تعالى ذكره: ما الأمر كما يقول هؤلاء المكذّبون بيوم الدين، من أنّ لهم عند الله زلفة، إنهم يومئذ عن ربهم لمحجوبون، فلا يرونه..)([39])، ولم يتعرّض الطبري لـ(كلاّ) الثالثة الواردة في الآية 18.
وقال الزمخشري: (كلاّ، ردع للمعتدي الأثيم عن قولـه: (ران على قلوبهم) ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها.. وقرئ بإدغام اللام في الراء وبالإظهار، والإدغام أجود، وأميلت الألف وفخّمت، (كلاّ) ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم..)([40])، و(كلاّ (في كلاّ إن كتاب الأبرار لفي علّيين) ردع عن التكذيب..)([41]).
التعليق: أما (كلاّ) الأولى، فإنّ الردع فيها ممكنٌ جداً، لكن يكون المعنى: كلا، إنّ آياتنا ليست أساطير الأولين، بل إنّ القائلين بهذا الكلام قد ران على قلوبهم ما كسبوا. أما (كلاّ) الثانية، فيحتمل أن تكون تأكيداً للأولى، فتأخذ معناها وهو احتمال جيد عرفاً. أما (كلاّ) الثالثة، فما ذكره الزمخشري فيها من أنها ردع عن التكذيب ليس بظاهر عرفاً، فالأنسب جعلها بمعنى (حقاً)؛ ذلك أنّ ما بعدها مطلب مستأنف مقابل لما قبلها.
الآية الخامسة والعشرون: قولـه تعالى: ]فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربّه فأكرمه ونعّمه فيقول ربّي أكرَمَن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربّي أهانن * كلاّ بل لا تكرمون اليتيم[ (الفجر: 15 ـ 17).
هنا ـ وللمرّة الأولى ـ يشير الطبري إلى اختلاف أهل التأويل في المعنيّ بـ(كلاّ) فيها، فيقول: (اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقولـه (كلاّ) في هذا الموضع، وما الذي أنكر بذلك)([42]). وهذا النص يشرح الاختلاف فيما جرى إنكاره في الآية بـ(كلاّ)، جاعلاً دلالة كلّا على الإنكار مفروغة. ويضيف الإمام الطبري قائلاً: (فقال بعضهم: أنكر جلّ ثناؤه أن يكون سبب كرامته من أكرم كثرة ماله، وسبب إهانته من أهان قلّة ماله.
ذكر من قال ذلك:
حدّثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وأمّا إذا ما ابتلاه فقدَرَ عليه رزقه فيقول ربي أهانن) ما أسرع ما كفر ابن آدم؟ يقول الله جلّ ثناؤه: كلا إنّي لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلّتها، ولكن إنما أكرم من أكرمت بطاعتي، وأهين من أهنت بمعصيتي.
وقال آخرون: بل أنكر جلّ ثناؤه حمد الإنسان ربه على نعمه دون فقره، وشكواه الفاقة، وقالوا: معنى الكلام: كلاّ، أي لم يكن ينبغي أن يكون هكذا، ولكن كان ينبغي أن يحمده على الأمرين جميعاً، على الغنى والفقر.
وأولى القولين في ذلك بالصواب: القول الذي ذكرناه عن قتادة، لدلالة قوله: (بل لا تكرمون اليتيم) والآيات التي بعدها، على أنه إنما أهان من أهان بأنه لا يكرم اليتيم، ولا يحضّ على طعام المسكين، وسائر المعاني التي عدّد، وفي إبانته عن السبب الذي من أجله أهان من أهان، الدلالة الواضحة على سبب تكريمه من أكرم، وفي تبيينه ذلك عقيب قوله: ]فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربّه فأكرمه ونعّمه فيقول ربّي أكرمن * وأما اذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربّي أهانن[ بيان واضح عن الذي أنكر من قوله ما وصفنا)([43]).
أما الزمخشري فقد أوجز هنا على خلاف الطبري، فقال: (كلاّ، ردع للإنسان عن قولـه، ثم قال: بل هناك شرّ من هذا القول، وهو أنّ الله يكرمهم بكثرة المال، فلا يؤدّون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالتفقّد والمبرّة..)([44]).
التعليق: يبدو أن تفسير الطبري للآية أوجه التفاسير؛ إذ لم يأت كلامٌ عن الحمد على الأمرين حتى يقحم في دلالة (كلاّ)، والآية كأنها تريد نفي المعادلة التي أسّسها الإنسان لنفسه بربط الإكرام والإهانة بكثرة المال وقلّته. والاحتمال الآخر في دلالة الآية، بقرينة (بل لا تكرمون اليتيم…) أن يقال برجوع النفي إلى الآية الأخيرة بمعنى: كلاّ، إنّ ما تقولونه من أنّ الله أهانكم عندما قتر المال عليكم غير صحيح، بل إنما قتره عليكم لأنكم أنتم فعلتم ذلك بأنفسكم، إذ لم تكرموا اليتيم ولم تتحاضّوا على طعام المسكين، وذهبتهم تأكلون المال أكلاّ لمّا.. وكأنّ الآية بصدد بيان قانونٍ اقتصادي اجتماعي، يقول: إنّ عدم إكرام اليتيم وإطعام المساكين و.. يؤدّي بطبيعته إلى الفقر، لا أنّ الله يريد إهانة الإنسان بالفقر أو إكرامه بالمال والله العالم.
الآية السادسة والعشرون: قال تبارك وتعالى: ].. بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضّون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلاً لمّا * وتحبّون المال حبّاً جمّاً * كلاّ إذا دكّت الأرض دكّاً دكّاً[ (الفجر: 17 ـ 21).
قال الطبري: (ويعني جلّ ثناؤه بقولـه (كلاّ): ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. ثم أخبر جلّ ثناؤه عن ندمهم على أفعالهم السيئة في الدنيا، وتلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم الندم، فقال جلّ ثناؤه: ]إذا دكّت الأرض دكاً دكاً[ يعني: إذا رجت وزُلزت زلزلة، وحرّكت تحريكاً بعد تحريك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التاويل)([45]).
وقال الزمخشري: (]كلاّ[ ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أتى بالوعيد وذكر تحسّرهم على ما فرّطوا فيه حين لا تنفع الحسرة؛ و(يومئذ) بدل من ]إذا دكّت الأرض[ وعامل النصب فيهما يتذكر، ]دكاً دكاً[ دكاً بعد دكّ، كقولـه: حسبته باباً باباً، أي: كرّر عليها الدك حتى عادت هباء منبثاً)([46]).
التعليق: أن تكون (كلاّ) هنا بمعنى الردع عن أفعالهم هذه من حبّ المال وجمع التراث وعشق الدنيا، في محلّه، فهذا المعنى مقبول، لا يبدو أن فيه إشكالاً نحويّاً أو عرفياً.
الآية السابعة والعشرون: قال تعالى: ]اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم * كلا إن الإنسان ليطغى[ (العلق 1 ـ 6).
قال الطبري: (وقولـه (كلاّ) يقول تعالى ذكره: ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان أن ينعم عليه ربه بتسويته خلقه، وتعليمه ما لم يكن يعلم، وإنعامه بما لا كفؤ له، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك، ويطغى عليه، أن رآه استغنى)([47]).
وقال الزمخشري: (]كلاّ[ ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه ]أن رءاه[ أن رأى نفسه، يقال: في أفعال القلوب: رأيتني وعلمتني، وذلك بعض خصائصها. ومعنى الرؤية: العلم، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين، و]استغنى[ هو المفعول الثاني)([48]).
التعليق: ما ذكره الطبري والزمخشري فيه تأويل وتقدير لا شاهد له من الكلام أصلاً، فليس هناك حديث سابق عن طغيان الإنسان أو كفره أو جحوده، ولو كان فهو فيما بعد (كلاّ) لا فيما قبلها، ولهذا فالأنسب جعل (كلاّ) في الآية بمعنى (حقاً)، وهي أشدّ وأفضل من (ألا) إذ في سياق الآيات هناك حاجة للتشديد، فالله يذكر النعم الكثيرة، ويريد في المقابل أن يبين عظم فعل الإنسان في طغيانه.
الآية الثامنة والعشرون: قال تعالى: ]أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى * كلا لم ينته لنسفعاً بالناصية[ (العلق: 9 ـ 15).
قال الطبري: (وقولـه ]كلا لئن لم ينته[ يقول: ليس كما قال: إنه يطأ عنق محمد، يقول: لا يقدر على ذلك ولا يصل إليه. وقولـه ]لئن لم ينته[ يقول: لئن لم ينته أبو جهل عن محمد ]لنسفعاً بالناصية[ يقول: لنأخذن بمقدّم رأسه، فلنضمنه ولنذلنه؛ يقال منه: سفعت بيده: إذا أخذت بيده. وقيل: إنّما قيل: ]لنسفعا بالناصية[ والمعنى لنسوّدن وجهه، فاكتفى بذكر الناصية من الوجه كله، إذ كانت الناصية في مقدم الوجه. وقيل: معنى ذلك: لنأخذن بناصيته إلى النار، كما قال: ]فيؤخذ بالنواصي والأقدام[)([49]).
وقال الزمخشري: (]كلاّ[ ردع لأبي جهل وخسوء له عن نهيه عن عبادة الله تعإلى وأمره بعبادة اللات، ثم قال ]لئن لم ينته[ عما هو فيه ]لنسفعاً بالناصية[ لنأخذ بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار)([50]).
التعليق: احتمال الردع عن ما سبق من نهي من يريد الصلاة والتكذيب والتولّي، و… واردٌ جداً، فيكون المعنى: لا يفعلنّ هذا، واذا ما فعل فسوف نسفعه بالناصية.
الآية التاسعة والعشرون: قال تعالى: ]فليدع ناديه * سندع الزبانية * كلا لا تطعه واسجد واقترب[ (العلق: 17 ـ 19).
قال الطبري: ( وقولـه ]كلا[ يقول تعالى ذكره: ليس الأمر كما يقول أبو جهل، إذ ينهى محمداً عن عبادة ربه، والصلاة له (لا تطعه) يقول جل ثناؤه لنبيه محمد2: لا تطع أبا جهل فيما أمرك به من ترك الصلاة لربك (واسجد لربك واقترب) منه، بالتحبّب إليه بطاعته، فإنّ أبا جهل لن يقدر على ضرّك، ونحن نمنعك منه)([51]).
وقال الزمخشري: (]كلاّ[ ردع لأبي جهل ]لا تطعه[ أي: اثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقولـه: ]فلا تطع الكافرين[ [القلم: 8] ]واسجد[ ودم على سجودك، يريد: الصلاة ]واقترب[ وتقرّب إلى ربك، وفي الحديث: (أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد)([52]).
التعليق: تفسير الزمخشري لـ(كلاّ) بأنها ردع لأبي جهل غير واضح، فإنّ القرآن بصدد التحدّي لأبي جهل، ولهذا أمره على نحو التحدّي أن يدع ناديه، فكيف يكون (كلاّ) على نحو النهي له مع أنّ الامر قد سبق قبل آيتين بدعوة جماعته على نحو التحدّي. وأما إن أريد إرجاع (كلاّ) إلى جملة أفعال أبي جهل الواردة في السورة من قولـه: ]أرأيت الذي ينهى..[ فهو غير واضح عرفاً ويحتاج إلى قرينة، خلافاً لما فسّره به الطبري. ولعلّ الأنسب أن يقال بأنّ (كلاّ) جاءت في مقام التأكيد للنهي عن الطاعة، فكأنه قال: لا لا تطع، فتكون أقرب إلى دعوى من قال بأنها متصلة بما بعدها لا بما قبلها.
الآية الثلاثون والواحدة والثانية والثلاثون: قال سبحانه: ]الهكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم[ (التكاثر 1 ـ 6).
قال الطبري: (قوله: (كلاّ سوف تعلمون)، يعني تعالى ذكره بقوله كلاّ: ما هكذا ينبغي أن تفعلوا، أن يلهيكم التكاثر، قولـه ]سوف تعلمون[ يقول جلّ ثناؤه: سوف تعلمون إذا زرتم المقابر، أيها الذين ألهاهم التكاثر، غِب فعلكم، واشتغالكم بالتكاثر في الدنيا عن طاعة الله ربكم. وقولـه (ثم كلا سوف تعلمون) يقول: ثم ما هكذا ينبغي أن تفعلوا أن يلهيكم التكاثر بالأموال، وكثرة العدد، سوف تعلمون، إذا زرتم المقابر، ما تلقون إذا أنتم زرتموها، من مكروه اشتغالكم عن طاعة ربكم بالتكاثر. وكرّر قولـه (كلا سوف تعلمون) مرتين؛ لأنّ العرب إذا أرادت التغليظ في التخويف والتهديد، كرّروا الكلمة مرتين.
وروي عن الضحاك في ذلك: ما حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك (كلا سوف تعلمون) قال: الكفار (ثم كلا سوف تعلمون) قال: المؤمنون. وكذلك كان يقرؤها.
وقولـه: (كلا لو تعلمون علم اليقين) يقول تعالى ذكره: ما هكذا ينبغي أن تفعلوا، أن يلهيكم التكاثر أيها الناس، لو تعلمون أيها الناس علماً يقيناً، أن الله باعثكم يوم القيامة من بعد مماتكم، من قبوركم. ما ألهاكم التكاثر عن طاعة الله ربكم، ولسارعتم إلى عبادته، والانتهاء إلى أمره ونهيه، ورفض الدنيا إشفاقاً على أنفسكم من عقوبته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل)([53]).
وقال الزمخشري: (]كلاّ[ ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همّه ولا يهتم بدينه ]سوف تعلمون[ إنذار ليخافوا فيتنبهوا من غفلتهم. والتكرير: تأكيد للردع والإنذار عليهم. و(ثم) دلالة على أنّ الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشد، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك: لا تفعل، والمعنى: سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدّامكم من هول لقاء الله، وإنّ هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم. ثم كرّر التنبيه أيضاً وقال ]لو تعلمون[ محذوف الجواب، يعني لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين، أي كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور التي وكلتم بعلمها هممكم: لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه، ولكنّكم ضلال جهلة)([54]).
التعليق: تفسير (كلاّ) بمواردها الثلاثة في هذه السورة بمعنى الردع عن التلهّي بالتكاثر والاهتمام بشأن المال والولد، وجيه، ويبدو لا إشكال عليه.
الآية الثالثة والثلاثون: قال سبحانه وتعالى: ]يحسب أن ماله أخلده * كلا لينبذن في الحطمة[ (الهمزة: 3 ـ
4).
قال الطبري: (وقولـه ]كلاّ[ يقول تعالى ذكره: ما ذلك كما ظنّ، ليس مالُه مخلّده، ثم أخبر جل ثناؤه أنه هالك ومعذّب على أفعاله ومعاصيه التي كان يأتيها في الدنيا، فقال جلّ ثناؤه: ]لينبذنّ في الحطمة[: وأحسبها سمّيت بذلك لحطمها كل ما ألقي فيها، كما يقال للرجل الأكول: الحطمة)([55]).
وقال الزمخشري: (كلاّ، ردع له عن حسبانه. وقرئ (لينبذان) أي هو وماله. ولينبذن، بضم الذال، أي هو وأنصاره. ولينبذنه ]في الحطمة[ في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها. ويقال للرجل الأكول: إنه لحطمة)([56]).
التعليق: الظاهر أن (كلاّ) هنا يمكن أن تكون بمعنى النفي، أي لا، إنّ ماله لا يخلده ولن ينفعه، بل إنه في المقابل سوف يلقى في نار جهنّم أي الحطمة، وتفسير الزمخشري لها بأنها ردع له عن حسبانه جرياً منه كعادته على أخذ جانب النهي أكثر من النفي، فيه شيء من البعد، والله العالم بكتابه.
الهوامش :
[1] ـ راجع حول الآراء والاختلافات حول (كلاّ)) ابن هشام الأنصاري (761هـ) في كتابه القيّم مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: 188 ـ 190.
[2] ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، نشر دار الفكر، بيروت 1988م، م9، ج16، ص122.
[3] ـ الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، جار الله الزمخشري، تحقيق وتعليق ودراسة الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوّض، نشر مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1998م، ج4: 51 ـ 52.
[4] ـ جامع البيان: 123.
[5] ـ الكشّاف: 53.
[6] ـ جامع البيان، م10، ج18، ص53.
[7] ـ الكشاف، مصدر سابق، ص250.
[8] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م11، ج19، ص65.
[9] ـ الكشاف، مصدر سابق، ص381.
[10] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م11، ج19، ص79.
[11] ـ انظر الكشاف، مصدر سابق، 395.
[12] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م12، ج22، ص96.
[13] ـ الكشاف، مصدر سابق، ج5: 122.
[14] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م14، ج29، ص75.
[15] ـ الكشاف، مصدر سابق، ج6: 207.
[16] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م14، ج29، ص87.
[17] ـ الكشاف، مصدر سابق، ج6: 211.
[18] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م14، ج29، ص154.
[19] ـ الكشاف، مصدر سابق، ج6: 255.
[20] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م14، ج29، ص162.
[21] ـ الكشاف، مصدر سابق، ج6، ص260.
[22] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م14، ج29، ص171.
[23] ـ الكشّاف، مصدر سابق، ج6: 264.
[24] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م14، ج29، ص181.
[25] ـ الكشّاف، مصدر سابق، ج6، ص268.
[26] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م14، ج29، ص191 و194.
[27] ـ الكشّاف، مصدر سابق، ج6: 269 و271.
[28] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص2 ـ 3.
[29] ـ الكشاف، مصدر سابق، ج6، ص294.
[30] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص53.
[31] ـ الكشاف، مصدر سابق، ج6، ص315.
[32] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص56.
[33] ـ الكشاف، مصدر سابق، ج6، ص316.
[34] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص88.
[35] ـ الكشّاف، مصدر سابق، ج6، ص331.
[36] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص94.
[37] ـ الكشّاف، مصدر سابق، ج6، ص336.
[38] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص97.
[39] ـ م. ن: 100.
[40] ـ الكشاف، مصدر سابق، ج6، ص337.
[41] ـ م. ن: 338.
[42] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص182.
[43] ـ م. ن: 182 ـ 183.
[44] ـ الكشّاف، مصدر سابق، ج6، ص372.
[45] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص185.
[46] ـ الكشّاف،مصدر سابق، ج6، ص373.
[47] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص253.
[48] ـ الكشاف، مصدر سابق، ج6، ص405.
[49] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج6، ص255.
[50] ـ الكشّاف، مصدر سابق، ج6، ص406.
[51] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص257.
[52] ـ الكشاف، مصدر سابق، ج6، ص407.
[53] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص284 ـ 285.
[54] ـ الكشّاف، مصدر سابق، ج6، ص425.
[55] ـ جامع البيان، مصدر سابق، م15، ج30، ص294.
[56] ـ الكشّاف، مصدر سابق، ج6، ص429.