السؤال: ماذا يقصد صدر المتألّهين بالتطهّر من الأفكار النظريّة، في هذا النص المنسوب إليه, لو تتكرّمون أرجو أن يكون التوضيح مبسّطاً: (إنّ النفس الإنسانية ما لم تتخلّص من حجب العلم التقليدي المتأتي من كلام العلماء الظاهريين، وما لم تتطهّر من الأفكار النظرية التي يحقّقها المنطق العقلي بأداتي الوهم والخيال، لا يمكنها أن تحرز بصيرةً في العلوم الإلهية، بل في جميع العلوم، ولن تكون على استعداد لتقبّل الفتح الإلهي).
الجواب: يرى العرفاء والمتصوّفة وأنصار الحكمة المتعالية أنّ قنوات المعرفة متعدّدة:
1 ـ فهناك الحواس وما يتصل بها، ومنها تأتي الشهوات المختلفة، ويرون أنّ العيش في عالم المحسوسات ينزل الإنسان إلى مستوى متدنٍّ من المعرفة الحقيقية؛ لأنّ هذا العالم يربطنا بمجال المادّة والماديات، وعالم المادّة عندهم هو أدنى العوالم وأسفلها، ويسمّونه بعالم الفرق والتلاشي، لهذا فمن يكتفي بالحصول على العلم بعالم المادّة من خلال الماديات والحواس فهو من الخاسرين عندهم.
2 ـ وهناك النصوص الدينية التي يعمل المجتهدون والمفسّرون على معرفة الحقيقة من خلالها، فيحاولون اكتشاف المبدأ والمعاد والنبوات وحقائق الوجود والإنسان والحياة من خلال النصوص الموجودة في الكتاب والسنّة وما أثر عن السلف، ويعتبر العرفاء أنّ هذا السبيل مفيدٌ للعوام، ولكنّه لا يبلغ بالإنسان المعرفة الحقيقية، لاسيما وأنّ تفسير النصوص من الأمور الظنيّة التي يوجد فيها مجال الخطأ واحتمال الخلاف.
3 ـ وهناك العقل بما يملكه من الفكر والنظريات، وهو يحاول أن يصل إلى الحقيقة من خلال التأمّل في المفاهيم والأفكار وجمع المعلومات النظرية وترتيبها ومحاكمتها. ويحترم العرفاء هذا العقل لكنّهم يرون أنّه يبلغ بنا مرتبة نحمل فيها صوراً ومعلومات ذهنية عن الواقع الخارجي، فأنا أملك صورة أو مفهوم في ذهني عن المعاد وعن النبوّة وعن الوجود، والصور التي في أذهاننا هذه تحكي عن الواقع الخارجي، وليست هي نفس الواقع الخارجي تماماً، فإذا طابقت الواقع الخارجي كانت صحيحة، وإذا لم تطابقه كانت باطلة.
وعليه، فنحن من خلال الحواس، ومن خلال النصوص، ومن خلال العقل.. لا نحظى سوى بمجموعة من المفاهيم والأفكار التي تترعرع في ذهننا وعقولنا تحكي عن شيء خارج ذواتنا.
4 ـ لكنّ العارف يرى أنّ هذه المعرفة تجعلنا على مسافة بيننا وبين المعلوم، فأن أعلم الكرسي عبر صورة مفهوميّة عنه في ذهني، هو علمٌ يضع فاصلةً بيني وبين المعلوم، وهذه الفاصلة والواسطة هي الصورة الذهنية والمفهوم الذي أحمله عن الكرسي في ذهني، فالكرسي لم يتحد بي ولم أشعر به كشعوري بنفسي، غاية ما في الأمر أنّني امتلكت صورةً ومفهوماً عنه في ذهني.. وهذا ما يسمّى بالعلم الحصولي.
إنّ العرفاء يقولون بأنّ العلم الحصولي (علم اليقين) ـ بكلّ أنواعه ـ هو درجة دانية من العلم، وأنّ فوقه علمٌ يسمّى بالعلم الحضوري (حقّ اليقين)، وفي هذا العلم الحضوري أنا لا أملك معرفةً بالشيء عبر صورة تأتي إلى ذهني عنه، بل أنا أعرفه عبر الإحساس به وكأني أحسّ بنفسي. إنّ علمي بنفسي أقوى من علمي بمن هو خارج ذاتي، فإذا استطعت أن أعلم بمن هو خارج ذاتي كعلمي بنفسي وذاتي فسيكون علمي بالأشياء أعمق وأقوى بكثير من علمي بها عبر مفهوم أو صورة تأتي إلى الذهن عنها.
من هنا، يرى العرفاء أنّ العلم الحضوري هو أساس العلم وحقيقته، وهو العلم الذي لا يخطأ ولا يضلّ ولا ينحرف. وقد اتفق الفلاسفة والعرفاء تقريباً على أنّ العلم الحضوري للإنسان بنفسه وحالاته النفسية موجودٌ، ولم يناقش في ذلك إلا بعض الفلاسفة، لكنّهم اختلفوا في ثلاث حالات أخرى: هل يمكن فيها وجود علم حضوري أم لا يتسنّى فيها إلا العلم الحصولي؟ وهذه الحالات هي:
الحالة الأولى: علم المعلول بعلّته بالعلم الحضوري، فهل أنا أعلم بالله بالعلم الحضوري كما أعلم بوجود نفسي بالعلم الحضوري وإحساسي الباطني بهذه النفس؟ قال الصدرائيون والعرفاء بأنّ الإنسان يعلم بالله بالعلم الحضوري، وكلّ معلول مجرّد يعلم بعلّته بالعلم الحضوري. إذاً لماذا لا أحسّ بالله في نفسي، كما أحسّ بوجود نفسي؟! ولماذا أنكر بعض الناس وجود الله؟! والجواب عندهم هو أنّ العلم الحضوري قد يغفل عنه الإنسان، نتيجة انشغاله بأمور أخرى مثل الأمور المادية والدنيوية والشهوات والملذات، ولهذا هم يقولون للناس كلّما تعاليتم عن المادة والدنيويات وتطهّرتم من الانشغال بها.. صار بإمكانكم ـ أيها الناس ـ أن تنتبهوا لعلمكم الحضوري بالله تعالى وتحسّوا بالله كامناً في أعماقكم (من عرف نفسه فقد عرف ربّه)، وهذا هو أحد معاني برهان الفطرة عندهم.
الحالة الثانية: علم العلّة بمعلولها علماً حضوريّاً، فالله تعالى مثلاً قالوا بأنّه يعلم بمخلوقاته بالعلم الحضوري، وهذا معنى أنّه محيط بها، فهي حاضرة عنده لا أنّ الله لديه عقل ويملك صورةً معلوماتية عنّا، ويتحرّك في علاقته معنا على أساس هذه الصورة المعلوماتيّة. كلا، فالعرفاء يقولون بأنّ الله يعلم بنا من خلال حضورنا لديه، لا بصور ذهنية ومعلومات تصله عنّا كما تصلني اليوم معلومات عن الأحداث التي تقع في غرب الأرض وشرقها.
الحالة الثالثة: علم معلولٍ بمعلول آخر، وهذا كان محلّ نقاش كبير، فهل يمكن لي أن أعلم بوجود الأرض بالعلم الحضوري، ولستُ علّة الأرض ولا معلولاً لها؟ قال الصدرائيون بأنّ هذا ممكن، والعارف بتعاليه الروحي يستطيع أن يتّحد مع الأشياء فيعلمها بالعلم الحضوري.
أ ـ علوم حصوليّة، تكون فيها بين العالم والمعلوم واسطة، هي المفهوم أو الصورة الذهنية.
ب ـ وعلوم حضوريّة، لا فاصلة فيها بين العالم والمعلوم، بل المعلوم يحضر بنفسه عند العالم ويدركه العالم إدراكاً إحساسيّاً باطنياً لا ذهنياً صورياً، تماماً كإدراكنا لوجود ذواتنا.
وهنا يقول العرفاء والصدرائيون بأنّه كلّما غرقنا بالعلوم الحصوليّة، فنشّطنا العقل في مجال فهم ما تعطيه الحواس أو فهم النصوص أو فهم النظريات.. فنحن نستغرق بمعرفة دونية، ونلتهي بنوعٍ من المعرفة يفصلنا عن المعلوم الذي نريد معرفته، وننشغل بالعلم الحصولي عن العلم الحضوري، لهذا فهم يرون العلم حاجباً وحجاباً، أي إنّ الانشغال بالعلم الحصولي بأنواعه يلهي الإنسان عن الاستعداد والترقّي للاتحاد بالمعلوم، وإدراكه إدراكاً حضورياً، فلا بدّ إذاً من التطهّر من هذه العلوم استعداداً لبلوغ مرتبة العلم الحضوري عبر السير والسلوك إلى المبدأ وهو الله تعالى، فهل يصحّ للإنسان أن يعلم بوجود نفسه بالعلم الحصولي وهو قادر على الإحساس الباطني بذاته؟!
لكنّ كلامهم هذا لا يعني بالضرورة أن نبقى في غيبوبة عن عالم المادّة أو عن النصوص أو عن العقل ونشاطه، كيف وصدر المتألّهين الشيرازي (1050هـ) كان يحيا كما يعيش الناس، وكان يفسّر النصوص في كتبه، بل له تفسير لبعض آيات وسور القرآن الكريم وشرح وتفسير آخر لأصول الكافي أيضاً، وكان يعمل بالعقل في اجتهاداته الفلسفية، إذاً فهم لا يقصدون الغيبوبة عن العقل والحسّ والنص، بل يقصدون عدم الغيبوبة عن القلب والحضور والشعور والوجدان والإحساس الباطني، من خلال عدم الاستغراق في غيرها. أرجو أن أكون قد تمكّنت من تبسيط الفكرة التي ينبني عليها النصّ المنقول أعلاه، وأمّا إثبات صحّة نظرياتهم هذه وعدمها ففيه كلام يطول.
وختاماً، أشير بأنّني لم أعثر على هذا النصّ الذي نقلتموه عن الملا صدرا بهذه العبارات، والله العالم.