السؤال: السلام عليكم شيخنا الفاضل، وفّقكم الله في خدمة المؤمنين، وزادكم من علمه الذي قلّ أن نرى نحن الشباب من هو بمثل مقامكم العلمي ودرايتكم الفقهيّة أن يكون على هذا القدر من التواضع والموضوعيّة والنزاهة العلميّة في نقل كلّ الآراء، لدرجة أنّنا نشعر بأنّنا نقرأ موسوعة ثقافية علميّة عند كلّ سؤال فقهي يأتيكم، فكثّر الله من أمثالك. شيخنا الفاضل، سؤالي يخصّ موضوع الخمس لدى الشيعة، لقد سمعت أنه كانت هناك آراء شيعيّة تقول بحلّية الخمس للشيعي في عصر الغيبة، ومن ضمن من كان يقول بهذه الآراء المقدّس الأردبيلي. ما مدى صحّة هذه الأقوال؟ وما قوّة هذه الآراء وسبب انقراضها حالياً؟ وما رأيك شخصيّاً بالموضوع؟ (علي باسم).
وقد نسب هذا القول إلى مجموعة من العلماء، منهم سلار الديلمي ـ وقد يناقش في صحّة النسبة إليه ـ والسيد العاملي صاحب مدارك الأحكام، والفاضل الخراساني، والفيض الكاشاني، والمحدّث البحراني، والحرّ العاملي على تفصيل عنده، وغيرهم من العلماء.
ووقعت نقاشات طويلة في هذه القضيّة التي مستندها عندهم مجموعة من الأحاديث المرويّة عن بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام ـ وعمدتها ستّ روايات معتبرة عندهم ـ ومن جملة هذه المناقشات أوجز لكم ما يلي:
1 ـ ما هو الشيء المحلَّل من قبل الأئمّة للشيعة؟
أ ـ فهناك من ذهب إلى أنّ المحلّل هو المناكح فقط.
ب ـ وهناك من ذهب إلى أنّ المحلَّل هو المناكح والمتاجر والمساكن.
ج ـ ومنهم من ذهب إلى أنّ المحلَّل هو الأنفال لا غير.
د ـ ومنهم من ذهب إلى أنّ المحلَّل هو مطلق ما للإمام من حقوق ماليّة على الناس.
هـ ـ ومنهم من خصّه بخمس أرباح المكاسب، لا مطلق الخمس.
و ـ ومنهم من أنكر التحليل مطلقاً بهذا المعنى، ونفى أن يكون الإمام قد حلَّل شيئاً من حقوقه أبداً، وفسّر التحليل ـ وهو رأي مشهور المتأخّرين والمعاصرين ـ بأنّ المراد منه تحليل الخمس الذي في أيدي الناس (لاسيما غير الشيعة) عندما يصلك، فلو أنّك اشتريت مثلاً من زيد شيئاً وكان زيد لا يخمّس ماله، فالمفروض أنّ كلّ عين من أعيان أمواله هي شركة بينه وبين الإمام؛ لأنّ للإمام فيها الخمس، فإذا أنت حصلت عليها فالمفروض أنّ خمس ما حصلت عليه هو للإمام مثلاً، وهذا حلّله لك الأئمّة، فلا يجب عندما يتاجر الإنسان في معاملة ما مع الآخرين ممّن لا يخمّس.. لا يجب عليه إخراج الخمس من هذا المال فوراً، إلا بعد أن يمرّ عليه الحول ولا يستعمله أو يحتاج إليه، وهذا الفهم للتحليل هو الذي أطاح بالنظرية التي أسقطت الخمس في عصر الغيبة؛ إذ فسّر نصوص التحليل بمعنى مختلف تماماً، وهو الذي اعتمده الكثير من العلماء المتأخّرين، ولهذا أعرضوا عن نظرية التحليل السابقة.
2 ـ المعروف من مذاهب التحليل هو إطلاق التحليل للمساكن والمتاجر والمناكح. وطبعاً يوجد عندهم بحث في معنى تحليل المناكح، فبعضهم فسّره بأنّه تحليل الإماء اللواتي غُنمن في الحرب؛ لأنّه يفترض كون خمسهنّ له عليه السلام، وبعضهم فسّره بمعنى تحليل الخمس في مهور الزوجات لا غير. وقد وقعت مناقشات طويلة في معنى تحليل المتاجر والمساكن سعةً وضيقاً لا نطيل فيها هنا.
3 ـ هل هذا الحكم بالتحليل حكم شرعي أم أنّه حكم صدر من المالك الذي هو الإمام فيكون إباحة مالكيّة لا إباحة شرعيّة؟ بل اختلفوا في أنّها إباحة لهذا المال أو تمليك لهذا المال؟ فالخمس الذي سقط هل هو مباح لك أم أنّك تملكه أيضاً؟ وهذه كلّها أبحاث طويلة أفاضوا فيها.
ووفقاً للقول بأنّ ذلك ليس حكماً شرعيّاً، بل هو إباحة مالكيّة، سعى منكرو التحليل للقول بأنّ نصوص التحليل وردت عن بعض الأئمّة عليهم السلام، وبالخصوص الإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الجواد، فيكون هذا البعض قد أحلّ لشيعة زمنه ما له من الخمس عليهم، تحليلاً من المالك لماله للآخرين، فلا يشمل الشيعة الذين جاؤوا في عصر الإمام اللاحق، ما لم نعثر على نصّ لهذا الإمام اللاحق يحلّل فيه ماله للشيعة أيضاً، والمفروض عدم ثبوت نصّ في هذا الصدد معتبر سنداً يتعلّق بالإمام الثاني عشر، فلا يكون قد صدر تحليل من الإمام الثاني عشر بخصوص ما له من حقّ الخمس على الناس، فيبقى حكم الخمس شرعاً ساري المفعول. وهذا أيضاً عنصرٌ آخر أطاح بنظرية التحليل العامّة من وجهة نظر المعاصرين.
هذا، وأمّا ما أميل إليه بنظري القاصر ـ وهو مجرّد ميل علمي ولا أجزم به الساعة ـ فهو أنّ أصل الخمس في أرباح المكاسب جاء تشريعاً ولائيّاً من قبل بعض الأئمّة لمصالح زمنيّة اقتضتها ظروفهم التاريخية، ومن ثمّ فليست المسألة في بحث التحليل، وإنّما في إثبات أنّ الأئمة المتأخّرين هل ألزموا شيعتهم بذلك أم لا؟ فإذا ثبت فهو، وإلا فلا دليل يلزم بالخمس في عصر الغيبة أساساً، ولا أقلّ من جعل ذلك بيد الحاكم الشرعي، بحكم ولايته بالمقدار الذي يختاره الفقيه من الولاية، بحيث تشمل مثل هذه الصلاحية (صلاحية سنّ ضرائب مالية غير منصوصة في أصل الشرع) أم لا. وما أحتمله وأميل إليه طرحه كاحتمال أيضاً أستاذنا السيد محمود الهاشمي في بعض كلماته المتأخّرة، وإن كان قد ردّه في بحوث أخرى سابقة له، وعلى أيّة حال فلم يقع منه اختيار هذا القول. كما مال إليه اثنان ـ على الأقلّ ـ من العلماء المعاصرين البارزين بحسب ما سمعته منهما شخصيّاً أو بنقل الثقات بطريقة مؤكّدة عندي. والمسألة بحاجة لتفصيل لا يسعه المقام، حيث ترتبط هذه النتيجة تارةً بمرجعيّة النصّ القرآني وفقاً لتفسير مختلف لآية الخمس، وأخرى بنظرية عدم التفويض التشريعي لأهل البيت عليهم السلام، وثالثة بعدم وجود خمس أرباح المكاسب في عصر ما قبل الإمام الباقر عليه السلام، ورابعة بنظرية تاريخية السنّة، وخامسة بكون الخمس في أرباح المكاسب ظاهرة عامّة ابتلائيّة، والتفصيل نتركه لمناسبة أخرى.