السؤال: ما هو المراد من تاريخيّة السنّة؟ (الشيخ علي الجمالي، العراق).
الجواب: قد سبق لي أن أجبت عن معنى التاريخيّة، وأنّه يقع على أربعة أنحاء، ويمكنكم مراجعة السؤال رقم 11 من قسم الأسئلة القرآنية والحديثية في الموقع الالكتروني الشخصي. أمّا عن تاريخية السنّة فقد أوضحت المعنى الذي أراه هو الصحيح لها في كتابي حجية السنّة في الفكر الإسلامي قراءة وتقويم، وهو أنّها (فهم النصّ الديني فهماً يأخذ بعين الاعتبار فرضيّة علاقته بالظروف الزمانيّة والمكانيّة التي صدر أو نزل فيها، بحيث يلعب فهم هذه الظروف دوراً في وعينا بالمراد النهائي للمتكلّم)، فكلّ مقاربة بين النصّ بوصفه عنصراً مقتطعاً نواجهه في اللحظة الحاضرة وبين ملابسات صدوره أو نزوله، بالمعنى الأعم بكثير من مصطلح (أسباب النزول) في القرآنيّات أو (أسباب الصدور) في علوم مصطلح الحديث والدراية.. كلّ مقاربة من هذا النوع تترك أثراً على وعينا الكلّي أو الجزئي بالنصّ فهذا يعني أنّنا وضعنا أقدامنا في الأراضي التابعة للتاريخيّة، ولهذا فإنّني أرى أنّ التاريخية فهمٌ مارسه العلماء المسلمون بشكل واسع بمختلف مذاهبهم تقريباً، على اختلافٍ بينهم شدّة وضعفاً، وسعةً وضيقاً، لكنّ اتجاهه المعاصر لا يمثل ابتكاراً في الفكرة بقدر ما يمثل من وجهة نظري تفعيلاً جادّاً وحقيقيّاً لها، وفقاً لمناهج اللسانيات والتأويليّة المعاصرة. والمنهج التاريخي يتنوّع في النتائج التي يقدّمها لنا، فهو يعطينا النتائج التالية:
أ ـ إلغاء الحكم كليّاً: ولذلك أمثلة مثل القول ـ كما قال ذلك غير واحد كالدكتور نصر حامد أبو زيد ـ بأنّ تعدّد الزوجات إنّما جاء نتيجة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والشخصي الذي كانت عليه المرأة آنذاك، وأنّ الإسلام كان بصدد إلغاء التعدّد مطلقاً لكن بشكل تدريجي، فهو يقصد من الأربع عدم الزيادة لا تقرير جواز أكثر من الواحدة، وهذا يعني أنّه بمرور الأيام سوف يصبح الزواج غير متعدّد انسجاماً مع السياسة التدريجيّة المذكورة، أو كما قال الدكتور عبد الكريم سروش بأنّ الجهاد الابتدائي أو جهاد الدعوة من تشريعات ما يسمّيه: مرحلة التأسيس، لا الاستقرار، فليس له معنى اليوم؛ لذهاب مرحلة التأسيس كليّاً.
ب ـ تضييق الحكم وتقييده: ومثال ذلك ما يذهب إليه بعض الفقهاء المعاصرين من أنّ الروايات الواردة في الحث على الإكثار من النسل ليست مطلقةً، وإنما صدرت في ظرفٍ كان المسلمون فيه قلّةً قليلة يحتاجون للعديد، حيث كانت الكثرة العددية في الحروب مصدراً للقوّة والعزّة، أما وقد كثر المسلمون فلا معنى لهذه النصوص حينئذٍ، لاسيما وأنّ الكثرة العددية لم تعد هي المعيار النهائي في موازين القوى في الحروب، فإنّ القراءة التاريخية لهذه النصوص قيّدت استحباب الإكثار من النسل في حال حاجة المجتمع إلى ذلك، فألغت في الحكم طبيعة الإطلاق، لكنّها لم تلغه من أصله.
كما يذهب بعض الفقهاء المتأخّرين إلى أنّ روايات استحباب تناول الملح قبل الطعام إنما جاءت متناسبةً مع الظروف المناخيّة للبلاد الحارّة، حيث كان يعيش النبي وأصحابه وأهل بيته، وإلا كانت لهذه الكميّة من الملح لو تناولها الإنسان في البلاد الباردة مَضَرَّة، فالحكم خاصّ بهذا القيد.
ج ـ توسعة الحكم: ومثال ذلك ما يذهب إليه بعض الفقهاء المعاصرين، من أنّ أدلّة اشتراط الرؤية في ثبوت الهلال إنما جاءت على أساس الوضع التاريخي آنذاك؛ إذ لم يكن هناك من سبيل لليقين بدخول الشهر إلا ذلك، وإنما العبرة باليقين، فلو تطوّرت العلوم لما ظلّت الرؤية السبيل الوحيد لإثبات الشهور، بل صار اليقين بدخول الشهر هو الشرط الحقيقي، فيحمل شرط الرؤية على الاعتبار التاريخي، وهذا ما يوسّع وسائل إثبات الشهور من خصوص الرؤية إلى غير ذلك مما يعطي اليقين.
د ـ توسعة الحكم وتضييقه معاً: وهذا ما نمثل له بمثال الاحتكار، حيث إنّ القراءة التاريخية وسّعت من دائرته ليتعدّى العناصر الستّة التي ذكرها الفقه الإسلامي، فلم تلغِ الاحتكار بل وسّعت تأثيره ودائرته، كما أنّها قيّدت من حرمة احتكار التمر والزبيب ـ مثلاً ـ بحالة كونها من العناصر الأساسية للمجتمع، فلو خرجت عن هذه الحال، مثل الزبيب في أكثر أو كلّ البلدان اليوم، لسقطت حرمة احتكارها، وعلى الخطّ عينه مثال الشطرنج، وكذلك الحال في العناصر التسعة للزكاة، فإنّ القول بتاريخيّتها ليس معناه إلغاء الزكاة، بل بالعكس معناه توسعتها لكلّ ما هو من أعمدة الاقتصاد المعاصر، وتضييقها عن العناصر التسعة حيث لا تكون من أعمدة الاقتصاد المعاصر، فتكون نتيجة التاريخيّة هي التضييق والتوسعة معاً في فهم فريضة الزكاة في العصر الحاضر وغيره.
من هنا، نتوصّل إلى نتيجة هامّة، وهي أنّه من غير الصحيح القول بأن التاريخيّة تساوق دوماً إلغاء الأحكام؛ فهذا خلل في فهمها؛ ومحاولة تهويل في حقّها؛ لأنّ من يُلغي عنوانية الشطرنج ـ آخذاً بعين الاعتبار الوضع التاريخي للشطرنج ـ يستطرق إلغاءه لإثبات عنوان آخر، وهو عنوان القمارية. ومن يُلغي عنوانيّة لبس السواد في الحكم بكراهته يستطرق إلغاءه لإثبات عدم التشبّه بالسلاطين ولباس غير المؤمنين في قوله: إنّ تحريم لبس السواد أو كراهته جاء للحدّ من التشبّه بالعباسيين، وهكذا، لا أنّ الأمر إلغاء تام وعدم بقاء حجر على حجر. من هنا لا يصحّ اعتبار التاريخية فزّاعة، تثير الذعر حول زوال الشريعة وأحكامها، بل إنّني اعتبر أنّه كلما تطوّر الوعي التاريخي في فهم النصوص الدينية نكون قد اقتربنا أكثر من روح الشريعة ومرادها من أحكامها، وابتعدنا عن الحرفيّة والظاهريّة القاتلة، ولهذا أعتبر نفسي من المدافعين عن منهج الفهم التاريخي بهذا المعنى العامّ له، لا بمعنى خصوص انتهاء أمد الأحكام الشرعيّة وأنّها جاءت لأزمنة سالفة.
نعم، مشكلة الفهم التاريخي، لا سيما بصورته المعاصرة، أنّه ما يزال هلاميّاً غامضاً، فلم تُمارس عملية التقعيد عليه، فكيف نستكشف الطريقية من عنوان رؤية الهلال، ولا نستكشف الطريقية من عنوان الوضوء لمطلق تنظيف اليدين؟! إنّ هذا الموضوع هو النقص الذي ما يزال حاصلاً في المدرسة التاريخيّة في فهم النصّ الديني، وهي مدرسة عريقة كما قلت، وليست وليدة اليوم أبداً، وقد بينت ذلك في أكثر من موضع. نعم صارت اليوم أوسع بكثير من الماضي، كما اتخذت معاني جديدة، واعتمدت على مناهج علمية مختلفة في العلوم الإنسانيّة.
من هنا يلزمنا بشدّة أن ندرس مناهج أو عناصر الفهم التاريخي للنصّ الديني، حتى لا نقع في الفوضى التي قد تدخلنا في الاستنسابات الشخصيّة التخمينيّة التي لا حجيّة لها، وهذا ما أشتغل عليه شخصيّاً منذ زمن، وأحاول تجميع العناصر المتعدّدة التي يمكنها أن تشكّل قواعد الفهم التاريخي بحيث يصبح فهماً أكثر انضباطاً، ولهذا قلت أكثر من مرّة بأنّ الدراسات العليا في المعاهد الدينية تحتاج جداً لمعالجة هذا الموضوع في الدروس الاجتهادية وعدم التخوّف منه، فإنّ به ـ لو أجزتم لي هذا التعبير ـ ضرباً من إحياء الشريعة في كلّ العصور، بدل كلّ مشهد التناقض بين الشريعة والواقع الذي نراه، والذي في ضوئه أكثرنا تارةً من العناوين الثانوية، وأخرى من الاحتياطات الوجوبيّة، وثالثة من الإحالة على وليّ الأمر وحاكم المسلمين ليحلّ بعقله البشري كلّ المشاكل العالقة تحت نظريّة المصلحة أو غيرها.
ولهذا لا مانع من وقوع الاختلاف بين التاريخيّين في فهم هذا الحكم هنا أو هناك، تماماً كما يقع الاختلاف بين غيرهم، ولا مانع من أن يقعوا في خطأ الاستنتاج التاريخي لفهم نصّ أو حكم ديني هنا أو هناك بنحو الأخطاء المورديّة الجزئيّة، ولهذا فإنّني لا أوافق على بعض النتائج التي ذكرتُها في الأمثلة السابقة قبل قليل، لأنّني أجدها لا تعتمد على معطيات دقيقة ومنهجيّة، لكن المهم هو أن يأتي الفقيه إلى فهم النصّ واعياً بالسياقات الزمكانية وعياً شموليّاً، غير غائب عنها، ثم يقعّد القرائن والشواهد قدر الإمكان في البحث الأصولي، ويشتغل على الموضوع بوعي جديد إن شاء الله.