السؤال: يتحدّث كثيرون أنّ اللعن قد ورد في القرآن الكريم في عشرات الآيات الكريمة، وهذا دليل على شرعيّة اللعن، وردٌّ صارخ على من يدّعي حرمة اللعن أو كراهته، فهل اللعن الوارد في القرآن الكريم يعطي ذلك؟ (نبيل المسقطي، الكويت).
الجواب: إنّ اللعن في لغة العرب يعني الطرد من الرحمة على سبيل السخط، فالملعون هو المطرود من رحمة الله والمغضوب عليه، ويطلق عليه في اللغة أيضاً اللعين، وتسمّى المرأة اللعين أيضاً، ورجل لعنه أهله إذا أبعدوه وطردوه فهو لعين طريد، وهذا أمرٌ متفق عليه بين الجميع فيما أعلم، كما ذكر بعض اللغويين أنّ اللعن إذا صدر من الناس كان معناه السبّ أو الشتم أو الدعاء عليه بالطرد، وهذه بعض كلمات اللغويين في ذلك:
أ ـ قال الفراهيدي: (اللعن: التعذيب، والملعن: المعذّب، واللعين المشتوم المسبوب. لعنته: سببته. ولعنه الله: باعده. واللعين: ما يتخذ في المزارع كهيئة رجل. واللعنة في القرآن: العذاب. وقولهم: أبيتَ اللعن، أي: لا تأتي أمراً تلحى عليه وتلعن. واللعنة: الدعاء عليه) (العين 2: 141 ـ 142)، فلاحظ كيف جعل الدعاء في آخر الاستخدامات اللغويّة.
ب ـ وقال الجوهري: (اللعن: الطرد والإبعاد من الخير. واللعنة الاسم، والجمع لعان ولعنات. والرجل لعين وملعون، والمرأة لعين أيضاً. واللعين: الممسوخ. والرجل اللعين: شيء ينصب وسط المزارع تستطرد به الوحوش… والملاعنة واللعان: المباهلة… ورجل لعنة: يلعن الناس كثيراً، ولعنة بالتسكين: يلعنه الناس) (الصحاح 6: 2196).
ج ـ وقال ابن فارس: (لعن: اللام والعين والنون أصل صحيح يدلّ على إبعاد وإطراد. ولعن الله الشيطان أبعده عن الخير والجنّة. ويقال للذئب: لعين، والرجل الطريد لعين. ورجل لعنة بالسكون يلعنه الناس، ولعنة كثير اللعن) (معجم مقاييس اللغة 5: 252 ـ 253).
د ـ وقال ابن منظور: (اللَّعْنُ: الإِبْعادُ والطَّرْد من الخير، وقيل: الطَّرْد والإِبعادُ من الله، ومن الخَلْق السَّبُّ والدُّعاء، واللَّعْنةُ الاسم، والجمع لِعانٌ ولَعَناتٌ. ولَعَنه يَلْعَنه لَعْناً: طَرَدَه وأَبعده. ورجل لَعِينٌ ومَلْعُونٌ، والجمع مَلاعِين) (لسان العرب 13: 387).
هـ ـ وقال الفيروزآبادي: (لعنه كمنعه: طرده وأبعده فهو لعين وملعون، ج: ملاعين، والاسم: اللعان واللعانية واللعنة مفتوحات. واللعنة بالضم: من يلعنه الناس. وكهمزة: الكثير اللعن. لهمج: لعن كصرد، وامرأة لعين فإذا لم تذكر الموصوفة فبالهاء. واللعين: من يلعنه كلّ أحد كالملعن كمعظم والشيطان والممسوخ والمشؤوم والمسيب وما يتخذ في المزارع كهيئة رجل والمخزي المهلك. وأبيت اللعن أي: أن تأتي ما تلعن به. والتلاعن: التشاتم والتماجن) (القاموس المحيط 4: 267).
أولاً: الطرد والإبعاد، وهذا هو المعنى الأصليّ له، كما أقرّ بذلك الجميع فيما نعلم.
ثانياً: الدعاء بالطرد والإبعاد، وهو يكون من الناس، وهذا المعنى متفرّع كما هو واضح على المعنى الأوّل، وهذا هو المعنى المتداول اليوم بين الناس عندما نقول: اللعن كذا وكذا فإنّهم يقصدون اليوم أن تدعو عليه بالطرد من الرحمة.
ثالثاً: السبّ والشتم والكلام الماجن، وهذا وما يفتح على علاقة عنوان اللعن بالسبّ في بعض الموارد بما لا نتعرّض له الآن.
والمشكلة الأساسية انّ ترسّخ مفهوم اللعن بمعنى الدعاء بالطرد في التداول العربي والمتشرّعي اليوم لكلمة اللعن، جعلت اللعن ـ بمعنى نفس فعل الطرد ـ غريباً عن أذهاننا، مع أنّه هو المعنى الأصلي الذي كان يستخدمه العرب، ولهذا فقبل أن نقرأ النصوص القرآنية علينا أن ننتبه جيّداً لهذه القضيّة، حتى لا نُسقط ما بات متداولاً لغويّاً على النصوص القرآنية مكان المعاني المستخدمة زمن نزول القرآن الكريم، ففي اللغة لو طرد شخص آخر من المنزل بعد شجار وغضب، فإنّه يقال: لعنه، مع أنّه لم يستخدم كلمة اللعن على لسانه أبداً، وهكذا لو طردت مؤسّسة بعض الموظفين على خلفيّة مشاكل ومخاصمات فإنّ اللغة تقول: لقد لعنتهم، رغم أنّ ما بات متداولاً اليوم بيننا يستغرب هذه الاستخدامات، حيث لا نستعملها في حياتنا، بل بات ينصرف ذهننا عندما نقول: لعنه صاحب المنزل، إلى أنّه قال له: لعنك الله، مع أنّ هذا ليس هو المعنى الحصري، بل ولا الأوّلي للكلمة، وإنّما معناها الأوّلي هو الطرد والنبذ وإنزال الغضب عليه.
وقد استند كثيرون ـ وعلى رأسهم المحقّق الكركي (940هـ)، في كتابه المعروف بـ (نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت: 43، 56 ـ 57، 72، وغيرها من الموارد) ـ لنصوص القرآن الكريم التي ورد فيها تعبير اللعن ومشتقّاته، من حيث إنّها تؤسّس لثقافة اللعن في الإسلام جوازاً، بل قد يكون وجوباً.
إذا أتينا إلى الآيات القرآنية الكريمة، سنجدها في موضوع استخدام مفردة اللعن ومشتقّاتها على مجموعتين:
المجموعة الأولى: الآيات التي تخبر أنّ الله لعن الكافرين أو الظالمين أو سيلعنهم أو هو يلعنهم دائماً، سواء بتعبير اللعن أم بغيره من التعابير، وهذه المجموعة لا ربط لها بمسألة جواز أو عدم جواز لعن الإنسان لشخص آخر من بني البشر بمعنى أن يقول له: عليك اللعنة، أو لعنك الله، أو لعن الله فلاناً أو..؛ لأنّ الله عندما يلعن الكافر فهو لا يقول: (اللهم العنه)، ولا يقول عليك اللعنة، بل هو يقوم بوضعه في النار، أو يسلبه التوفيق في الدنيا مثلاً، فنفس عمليّة الوضع في النار مثلاً هي اللعن الإلهي لهذا الكافر، وبهذا يفترق اللعن الإلهي عن لعننا المعروف، فلعننا قد يكون دعاءً وطلباً من الله أن يلعن شخصاً، أمّا لعن الله فهو نفس طرده لهذا الشخص من الرحمة ونفس تعريضه للعقاب والعذاب في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً، ومن هذه المجموعة أغلب الآيات القرآنيّة التي ورد فيها تعبير اللعن، مثل:
1 ـ قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا) (الأحزاب: 64)، فمقتضى الدلالة اللغوية التي علمناها من كتب اللغة هي أن يكون تفسير هذه الآية على الشكل التالي: إنّ الله غضب على الكافرين وطردهم من رحمته وأعدّ لهم النار ليكونوا هناك مطرودين، فتكون النار تعبيراً عن طردهم والغضب عليهم.
2 ـ قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) (النساء: 47)، فهذه الآية واضحة في أنّ الله يهدّد بأنّ من لا يؤمن بما نزل على محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قبل فوات الأوان، فسوف ينزل عليه ما نزل على أصحاب السبت الذي قلبوا قردةً وخنازير، فكيف لعن الله أصحاب السبت؟ إنّه أرسل عليهم العذاب ومسخهم قردةً وخنازير، لا أنّه دعا عليهم أو قال: (لعنكم الله) مثلاً، وقد شرح لنا القرآن الكريم قصّتهم وكيف نزل عليهم غضب الله وطردوا بذلك من رحمته ورأفته، وعليه فمعنى الآية: احذروا قبل أن يأتيكم طردي وغضبي كما أتى أصحاب السبت فمسختهم قردةً وخنازير.
3 ـ قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة: 13)، فالله لعنهم بسبب نقضهم الميثاق، أي أخرجهم من رحمته، فجعل قلوبهم قاسية وسلب منهم التوفيق جزاءً على ما فعلوا، وأين هذا من اللعن الذي نحن نمارسه بوصفنا بشراً من خلال قولنا: اللهم العن فلاناً؟! وهل هناك تلازم عقلي أو عقلائي أو شرعي بين أن ينزل الله الغضب على قوم فيُقسي قلوبهم وبين أن نلعنهم نحن ونستخدم هذا التعبير في حقّهم؟!
4 ـ قوله عزّ من قائل: (إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (النساء: 117 ـ 118)، فالله لعن الشيطان، وذلك عندما أحلّ عليه غضبه وطرده من رحمته بقوله: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (الحجر: 34 ـ 35)، وقوله: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) (ص: 77 ـ 78)، فهو مطرود دوماً من الرحمة والرضا والجنّة ومبعدٌ عن الخير والصلاح، ومغضوب عليه، وأنّ عذابه الأعظم سيؤخّره الله له إلى يوم القيامة، وأين هذا من اللعن بوصفه فعلاً بشريّاً لسانيّاً؟! وما ربط حقّ الله بفعل هذا في إبليس بنا نحن في لعننا لإبليس نفسه؟!
5 ـ قوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة: 60)، فأسوأ الناس هم الذين لعنهم الله، فطردهم من رحمته وغضب عليهم وجعلهم قردةً وخازير، وأودعهم أسوأ الأمكنة والمقامات.
6 ـ قوله سبحانه: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (الأعراف: 44)، فبعد هذا الحوار ومزيد الفجور والظلم من الكافرين، جاء من يعلن ويُعلم (الأذان هو الإعلام) بأنّ غضب الله قد حلّ على الظالمين، فكلّ هذه الآيات إخبارات، وليس فيها إنشاءات تشريعيّة، ولا أيّ حثّ على أن يلعن الناسُ الكافرينَ والظالمين بهذا اللعن القولي الدعائي الذي نستخدمه اليوم، بل هي إخبارات بأنّ الله لعنهم، أو بأنّ شخصاً أخبر بأنّ الله لعنهم، فليلاحظ هذا الأمر جيّداً كي يكون الاستدلال الفقهي متيناً.
7 ـ قوله سبحانه: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (هود: 18 ـ 22)، فالآية تفيد وضوح استحقاق هؤلاء للعنة الله وغضبه وطرده لهم من رحمته ومضاعفة العذاب عليهم، بل لو سلّمنا أنّ جملة (ألا لعنة الله..) ليست ابتدائية من كلامه سبحانه، بل هي تكملة كلام الأشهاد، الذين هم الملائكة أو غيرهم يوم القيامة، فهي تخبر عن قولهم هذا يوم القيامة، وليس لهذا علاقة بالحكم الشرعي المتعلّق بقولنا هذا في حقّ الآخرين في الدنيا، إذ لا ترابط بين الأمرين.
8 ـ قوله تعالى: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) (هود: 60)، نعم لقد لحقتهم اللعنة الإلهية في الدنيا بنزول العذاب عليهم وانقطاع استمرارهم في الحياة، كما ستلحقهم في الآخرة أيضاً، هذا ما تفيده الآية: جملٌ خبريّة تخبر عن حال قوم عاد، وأنّ الله لعنهم في الدنيا عندما أرسل عليهم الريح العاتية، وسيلعنهم في الآخرة بوضعهم في النار والجحيم.
9 ـ قوله سبحانه: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (هود: 99)، وحال هذه الآية تماماً كحال سابقتها فلا نعيد.
10 ـ قوله تعالى: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (القصص: 39 ـ 42)، وهي أيضاً كالآيتين السابقتين، فلا نطيل، ولا شاهد في هذه الآيات الثلاث ـ خلافاً لما نقله بعضهم ـ على أنّ المراد هو لحوق لعن الناس لهم إلى يوم القيامة، بل هو مجرّد احتمال، بل الأفضل ان يكون عذابهم هو اللعنة التي لحقتهم في الدنيا، تماماً كما تقول: لحق فلان لعنة، أي حلّت به فأنهت أمره، ولا أقلّ من تردّد الاحتمالات بما يمنع عن الاستدلال بأنّ القرآن أفاد اللعن بمعناه اللساني، فيكون النصّ محتملاً لوجوه لا يترجّح واحدٌ منها، وهذا يجري في الآيات جميعاً تقريباً.
11 ـ قوله تبارك اسمه: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 88)، وهذه أيضاً جملة خبريّة تخبر أنّ الله طردهم من رحمته بسبب كفرهم، فجعل قلوبهم قاسية مغلقة، فلا علاقة لها بباب الإنشاءات التشريعيّة التي تفيد جواز أو استحباب أو وجوب اللعن حتى في حقّ الكافر.
12 ـ قوله جلّ جلاله: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) (النساء: 46 ـ 52)، وهنا ثلاثة استخدامات لكلمة اللعن، فالأولى هي تماماً مثل الآية السابقة فلا نعيد، والثانية تقدّم الحديث عنها في الآية تحت رقم (2)، فلا نعيد أيضاً، والثالثة واضحة أيضاً في الإخبار وقد اشتملت على تعبيرين، وأنّ من يلعنه الله ويطرده من رحمته وينزل به العذاب فلن تجد من ينصره، وهذا شاهد يؤكّد أنّ اللعن هنا هو فعلٌ إلهيٌّ لن يوقفه أحد.
13 ـ قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) (الأحزاب: 57)، وهذه أيضاً إخبارٌ بأنّ الله لعن هؤلاء المؤذين لله ورسوله وطردهم من رحمته في الدنيا كما طردهم منها في الآخرة، وكانت قمّة الطرد والإضافة عليه في العذاب المهين الذين ينتظرهم، فطردهم معناه عدم دخولهم الجنّة، تماماً كطرد إبليس منها.
14 ـ قوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمّد: 22 ـ 23)، وهي أيضاً واضحة في الإخبار، وأنّ اللعن الإلهيّ يكون في الدنيا بحجب القلوب وقسوتها، وصيرورة السمع والبصر ممنوعين عن النشاط كنايةً عن عدم تفاعلهم مع قول الحقّ لقسوة قلوبهم ووجود الحاجب في نفوسهم، وقد صار معناها جليّاً وفقاً لما تقدّم.
15 ـ قوله سبحانه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة: 64)، وهذه الآية أيضاً إخبار عن أنّهم بسبب ما قالوه عن الله تعالى واتهامه بالبخل فقد طردهم من رحمته وأبعدهم عن الخير، وقد بيّن الله ذلك بأنّه قد زادتهم الآيات النازلة كفراً، وأنّهم يقعون في العداوة والتباغض إلى يوم القيامة، وأنّ الله يطفئ نارهم وغير ذلك أيضاً.
16 ـ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (النور: 23 ـ 25)، وهي أيضاً إخبار عن أنّ من يقذف المحصنات المؤمنات ملعونٌ في الدنيا والآخرة، وسوف يرى فعل الله فيه في هذه الحياة وفي تلك أيضاً، ومن الممكن أن يكون المراد بـ (لعنوا) أي قال الآخرون في حقّهم جملة: (اللهم العنهم)، لكن لما كان فعل اللعن لغةً دالاً بشكل أوّلي على الطرد لا على الدعاء بالطرد، لزم حمل الكلمة على الفعل، أي (طُردوا)، حتى تأتي قرينة على أنّ المراد هو اللعن اللساني بمعنى الدعاء، وحتى لو دلّت على اللعن اللساني، فهي لا تدلّ على تحديد من هو اللاعن، فقد يكون الملائكة، وعليه فلن تكون الآية دليلاً اجتهاديّاً على شرعيّة اللعن بالنسبة إلينا نحن البشر، ولهذا لا يجيز الفقهاء لعن القاذف إذا كان شيعيّاً مثلاً؛ لأنّه شيعيّ عاصٍ، والمعروف بينهم أنّهم يذهبون إلى عدم جواز لعن الشيعي ولو كان عاصياً.
17 ـ قوله سبحانه: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) (الأحزاب: 60 ـ 61)، وهذه الآية الكريمة تعني ـ بحسب الدلالة اللغويّة ـ أنّ هؤلاء لا يجاورونك في المدينة إلا قليلاً، بل هم مطرودون، فأينما ثقفوا أخذوا وقتّلوا تقتيلاً، فاللعن هنا جاء مناسباً تماماً لعدم الجوار في المدينة، أي أنّ الله سوف يغريك بهم فتطردهم من المدينة، ولن يكونوا بعدها مجاورين لك، بل هناك ما هو أزيد وهو قتلهم. فهذه الآية الكريمة لا علاقة لها باللعن بالمفهوم الذي نتداوله اليوم، وإن ذكره بعض المفسّرين، بل لها علاقة بالفعل الذي يؤدّي إلى طرد المنافقين من المدينة المنوّرة، أو بتعبير أدقّ التهديد بطردهم.
هذه هي المجموعة الأولى من نصوص اللعن في القرآن الكريم، وهي المجموعة الواضحة في دلالتها على الجهة الإخباريّة دون بيان موقف شرعي أو الإشارة إلى ذلك، وقد قلنا بأنّ استخدام الله لكلمة اللعن هنا لا يفيد أنّ هذا الاستخدام من قبلنا جائز في حقّ الآخرين أو حرام أو واجب؛ لأنّه استخدام لغوي للكلمة بمعنى الطرد، وفعل الله بأحد شيئاً لا يساوق جواز أن أدعو على هذا الشخص بأن يفعل الله به ذلك، فالله قد يعذّب الأب المؤمن لمعصيةٍ ارتكبها، لكن لا يجوز لي أن ألعن أبي المؤمن لهذه المعصية، وأدعو عليه بالطرد من الرحمة، رغم أنّه قد يكون مستحقّاً ذلك واقعاً وفي علم الله، ما لم يأت دليل يسمح لي بذلك، ولهذا ورد النهي القرآني عن طلب المغفرة للذين أشركوا ولم يرد أمر بطلب التعذيب لهم بعد ذلك في تلك الآيات، نعم من نحرز أنّه الآن في النار يمكن أنّ نقول ـ لغةً وبنحو الإخبار ـ بأنّه ملعون، وهذا غير الدعاء باللعن. كما أنّ التلفظ بالآيات القرآنية ـ بنحو القرآنية والإخبار ـ غير تجويز اللعن بنحو السبّ أو بنحو الهجاء أو بنحو الدعاء عليه، فهما عنوانان مختلفان، ولهذا وقع خلافٌ بين الفقهاء في أنّه هل يجوز لي في أثناء قراءة سورة الفاتحة في الصلاة أن أقصد عنوان الدعاء من قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) زيادةً على عنوان القرآنيّة أم لا؟ وهذا معناه أنّ عنوان القرآنيّة مغايرٌ لعنوان الدعاء، فهنا الأمر كذلك، فتأمّل جيّداً. وخلاصة القول: إنّ النصوص القرآنيّة الإخبارية التي من المجموعة الأولى لا علاقة لها فيما يبدو لي، لا من قريب ولا من بعيد، بمسألة اللعن المتعارف اليوم.
المجموعة الثانية: وهي المجموعة التي يحتمل دلالتها على اللعن بمعناه المتداول اليوم والذي أسمّيه: (اللعن اللساني الدعائي)، وهي عدّة آيات كريمة:
1 ـ قوله تعالى: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (الأحزاب: 67 ـ 68)، فهذه الآية واضحة في أنّ مجموعةً في النار تسأل الله تعالى أن يلعن المجموعة التي أضلّتها في الدنيا وحرفتها عن الصراط المستقيم، وهذا لعنٌ لسانيٌّ دعائيّ واضح لا شبهة فيه، لكنّه لا يفيد جواز اللعن في الدنيا أو تحديد حكمٍ تكليفيّ له؛ إذ ليست الآية في مقام بيان حكمٍ شرعي دنيويّ، فقد يكون اللعن في الدنيا حراماً، ولكن مع ذلك يخبرنا الله أنّ هؤلاء في الآخرة سيقولون هذا، فأيّ ربط بين الأمرين، علماً أنّه لو سلّمت الدلالة فهي خاصّة بالمضلَّلين في حقّ المضلٍّلين، لا مطلقاً، وخاصّة بغير المسلم كما هو واضح من سياق هذه الآيات، وخاصّة بإفادة جواز اللعن لا استحبابه ولا وجوبه؛ لأنّ غاية ما تدلّ عليه أنّه يجوز لهؤلاء أن يلعنوا أولئك، لا أنّه يجب عليهم ذلك أو يستحبّ أو غير ذلك.
2 ـ قوله سبحانه: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 38)، وهذه الآية غاية ما فيها يشبه ما تقدّم في الآية السابقة فلا نعيد.
3 ـ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) (البقرة: 161 ـ 162)، ومن الواضح أنّ هذه الآية الكريمة تتحدّث عن حالة ما بعد وفاتهم، أي أنّ لعنة كلّ الناس تقع على هؤلاء يوم القيامة، فلاحظ الموقع الإعرابي اللغوي لكلمة (خالدين)، والسياق السابق واللاحق في نفس الآية الشريفة لا يعطي أكثر من ذلك، بل لو بقينا وهذه الآية فلا يعلم أنّ مرادها اللعن اللساني، بل قد تكون بمعنى أنّ الله يطردهم من الجنّة، والملائكة أيضاً يزجرون هؤلاء ويعنّفون بهم ويطردونهم من الرحمة، وكذلك الناس جميعاً في الآخرة، فأهل الجنّة ينبذونهم، بل أهل النار يفعلون بهم ذلك، في إشارة إلى عدم حصول أيّ توالف أو تقريب لهم من الخير والنجاة والجنّة وغير ذلك، وأين هذا من البحث عن شرعيّة اللعن في الدنيا على مستوى النصّ القرآني؟! وما ربط هذه الآية الكريمة بالموضوع حينئذٍ؟! فالآية ليست في مقام إنشاء حكم شرعي باللعن عليهم، بل هي في مقام الإخبار بأنّ مصيرهم هو لعنة الله والملائكة والناس، وهذا هو الحال يوم القيامة.
4 ـ قوله جلّ جلاله: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) (آل عمران: 86 ـ 88)، وهذه الآية كسابقتها في الحديث عن الجزاء وعن النار وعن الخلود، فلا نعيد، فغاية ما تفيد لعن الجميع لهؤلاء يوم القيامة، ويصعب الحصول على تعميم أزيد من ذلك فيها، وأين هذا من الحكم الشرعي والوظيفي الدنيوي في هذه القضيّة؟!
5 ـ قوله عزّ من قائل: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (النور: 6 ـ 9)، وهذه الآية استدلّ بها بعضهم هنا، وهو استدلال يبدو لي غريباً وغير واضح أبداً، فغاية ما تدلّ عليه الآية الكريمة التي تتحدّث عن فقه الملاعنة، أنّ الذي يتهم زوجته بالزنا وليس له من يشهد له إلا نفسه، أن يشهد أربع شهادات بأنّه صادق فيما يدّعي، ثم يشهد شهادةً خامسةً يقول فيها بأنّ لعنة الله عليه إن كان كاذباً، وهي أيضاً ـ أي الزوجة المتهمة بالزنا ـ تفعل ذلك بالعكس، لتدرأ عن نفسها عقوبة الزنا، أي تشهد أربع شهادات بأنّه كاذبٌ فيما يقول، ثم تجعل الخامسة أن تدعو على نفسها بغضب الله إن كان الزوج صادقاً في ادّعائه، ولهذا استخدمت الآية تعبير الغضب هناك واللعنة هنا، وهذا ما يؤكّد ما قلناه وقاله اللغويّون من أنّ اللعن في الاصل هو الطرد على وجه السخط والغضب. وعليه، فهذه الآية الكريمة تدلّ على لعن الإنسان نفسه لعناً تقديريّاً في حالةٍ خاصّة ذات طابع قضائي خاصّ، وليس لها مثيل في الفقه الإسلامي القضائي القرآني أبداً، فكيف نفهم منها جواز لعن الإنسان لنفسه في غير هذه الحال؟! بل كيف نفهم منها جواز لعن الإنسان لغيره؟! فضلاً عن أن نفهم منها وجوبه أو استحبابه.
6 ـ قوله تعالى: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (العنكبوت: 25)، وهذه الآية مهما فسّرناها ـ باللعن الفعلي أم بالدعاء اللساني ـ تخبر عن حالهم بأنّهم يفعلون ذلك ببعضهم في الآخرة، وأين هذا من أن نحكم بجواز اللعن في الدنيا من المسلم للكافر أو للمسلم الآخر؟ بل الآية في مقام بيان رداءة حالهم يوم القيامة حيث ينبذون بعضهم بعضاً أو يدعون على بعضهم بعضاً، وهل يفهم من هذه الصورة المأساوية البليغة أنّ القرآن هنا يريد أن يحكم ـ ولو بالدلالة الالتزاميّة ـ بجواز لعنهم في الدنيا أو باستحبابه أو بوجوبه؟! وهل يستنتج الفقهاء هذا من مثل هذه الآية الكريمة؟! ولو صحّ الاستنتاج فهي خاصّة بعبدة الأوثان أو بمطلق الكافر كما هو واضح، ولا تفيد جواز لعن غيرهم، فضلاً عن الاستحباب.
7 ـ قوله تبارك اسمه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة: 159)، فقد يتصوّر أنّ هذه الآية تفيد وجود لاعنين بمعنى اللعن المتداول اليوم، لكنّها غير واضحة، فإذا سرنا مع الدلالة اللغوية فهي تعني أنّ الله يطردهم من رحمته، كما أنّ هناك من هو طاردٌ ولاعنٌ يمارس فعل طردهم من الرحمة، وقد يكون ذلك من الملائكة، وقد تكون الآية ناظرة إلى يوم القيامة. على أنّها لو دلّت على الفعل اللساني الدعائي لكانت خاصّة بالذين يكتمون الدين والبينات لا مطلقاً، كما أنّها لا تبيّن حدود اللعن، بل قد يكون القدر المتيقّن منها غير المسلم؛ لأنّها وقعت في سياق أهل الكتاب. والخلاصة: إنّ غاية ما تفيده هذه الآية الكريمة أنّ هناك أشخاصاً لا نعرف هويّتهم ـ فقد يكونون من الملائكة ـ يمارسون فعل اللعن بمن صفته كتمان الدين، وهذا اللعن لا شاهد على كونه دعائيّاً لسانيّاً، بل قد يكون فعليّاً بواسطة تأثيرهم في طرده من الرحمة الإلهيّة، فكيف يمكن أن نستدلّ بهذه الآية الكريمة على جواز اللعن فضلاً عن استحبابه؟!
8 ـ قوله تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 78 ـ 79)، هذه الآية الكريمة تحتمل اللعن بمعنى الدعاء عليهم بالطرد من الرحمة، وتحتمل أنّهم طردوا من قبل هذين النبيّين عمليّاً من خلال اللسان، فأنت عندما تقول لشخص: اخرج من المجلس، فأنت تلعنه بلسانك، فلو تجاوزنا إشكاليّة هذين الاحتمالين، فغاية ما تفيده الآية الكريمة هو الإخبار عن لعن هذين النبيّين لبني إسرائيل بسبب عصيانهم، بعد توصيفهم في مطلع الآية بـ (الذين كفروا)، فلا تدلّ على ما هو أوسع من لعن الكافر، كما أنّ اللعن على لسان داوود ليس ـ بالضرورة ـ بمعنى أنّه قال: اللهم العنهم، بل قد يكون بمعنى أنّه قال: اللهم أنزل عليهم عذابك، تماماً كما حصل مع أنبياء آخرين لعنوا قومهم بتعابير مختلفة أي توجّهوا إلى الله بالدعاء لينزل الله عليهم العذاب والطرد من الرحمة، كما فيما نقله القرآن لنا في قصّة نوح عليه السلام، فهذا ليس شيئاً جديداً مختلفاً، بل إنّما عبّرت الآية عن مضمون الدعاء بأنّه لعن؛ لأنّه دعاء بالعذاب والطرد من الرحمة. والحاصل أنّ هذه الآية أبعد ما تفيد هو صدور اللعن من قبل نبيّين في حقّ بعض الكافرين من بني إسرائيل، وبناء على استصحاب شرع من قبلنا قد يمكن إثبات جواز لعن الكافرين بهذه الآية الكريمة، لكن لا يمكن إثبات جواز لعن غيرهم من المسلمين مثلاً. كما أنّ الآية حيث كانت إخباراً عن حصول هذا اللعن، فهي لا تبيّن لنا مورده، فقد يكون بعد اليأس عن هدايتهم كما حصل مع نوح، فلا نفهم منها دلالةً إطلاقيّة حتى نستند إليها في بيان موقف شرعيّ عام، فهي تفيد جواز لعن الكافر في الجملة لا بالجملة، ما لم نأخذ السياق التعليلي اللاحق.
9 ـ قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) (الإسراء: 60)، فهذه الآية تفيد أنّ هناك شجرة ـ مهما كانت، وهل هي شجرة آدم التي أمر آدم بالابتعاد عنها فصارت مطرودة فكانت له وللبشر فتنة، أم هي بنو أميّة كما دلّت عليه بعض الروايات عند السنّة والشيعة، أم هي شجرة الزقّوم القابعة في قعر جهنّم كما عليه الكثير من المفسرين وأنّها فاقدة لكلّ خير وليس فيها إلا السوء ولهذا كانت ملعونة، أم هي الكفار، أم هي اليهود خاصّة، أم غير ذلك ممّا قاله المفسّرون ـ أنّ هناك شجرة جرى لعنها في القرآن الكريم، وهنا:
أ ـ تارةً نرجع الجارّ والمجرور (في القرآن) إلى اسم المفعول الذي هو (الملعونة)، فيصير المعنى: الشجرة التي لُعنت في القرآن الكريم، ولهذا تاه المفسّرون في البحث عن لعنتها في الكتاب الكريم، حتى جعلها بعضهم دليل تحريف القرآن المجيد، إذ ذكر بأنّه لا توجد شجرة في القرآن الذي بين أيدينا قال عنها الله بأنّها ملعونة أو لعنها.
ب ـ وأخرى نرجعه إلى فعل (جعلنا)، فيكون المعنى: وما جعلنا في القرآن الشجرةَ الملعونةَ إلا فتنة، بمعنى أنّنا لم نذكر هذه الشجرة ـ التي هي ملعونة في نفسها ـ لم نذكرها في القرآن إلا فتنة، وبهذا لا يكون هناك لعنٌ لهذه الشجرة في القرآن أساساً، بل تكون ملعونة في حدّ نفسها، لكنّها مذكورة في القرآن، لا أنّه مذكورٌ لعنها في القرآن الكريم فلاحظ وتأمّل، فإنّني لا أريد الدخول في تفسير هذه الآية؛ لأنّ الكلام يطول بنا جدّاً، ولهذا آخُذُ التفاسير المحتملة بما يتصل بموضوع بحثنا فقط (مستبعداً التفسير التقديري الذي اختاره كثيرون، والذي يقول: الشجرة الملعون آكلها، وهي الزقوم):
ـ فعلى التقدير الأوّل، يصبح القرآن لاعناً لهذه الشجرة، واللعن القرآني لابد أنّه لعنٌ لساني، فلو فسّرناها ببني أميّة لصارت شجرتهم ملعونة في القرآن الكريم، ويمكن أن يفهم من ذلك ـ بضمّ الآية إلى الحديث ـ أنّه يجوز لعن بني أميّة، لكن لا يفهم ما هو أزيد من ذلك، ومن هو خارج بني أميّة إلا بدليل آخر، هذا على تقدير أنّ المراد بالشجرة هو بنو أميّة لا غير ذلك من الاحتمالات، وهذا على تقدير التلازم بين أن يلعن القرآن لسانياً شخصاً ما ونعلنه نحن.
ـ وأمّا على التقدير الثاني، فلا تكون هناك شجرة قد لعنت في القرآن أساساً، نعم تكون هناك شجرة لعنها الله وطردها، لكن لم يجر لعنها لسانيّاً في القرآن الكريم، ومعه فيصعب استفادة الحكم الشرعي حينئذٍ من هذه الآية فيما يتعلّق باللعن، بل تصبح هذه الآية مثل آيات المجموعة الأولى التي هي ذات طابع خبري صرف.
وعليه، فليس في القرآن الكريم أيّة آية لها علاقة بالحكم الشرعيّ لمسألة اللعن، إلا الآيتين الأخيرتين من المجموعة الثانية بالمقدار الذي بيّناه، لا أزيد، فهي على أبعد تقدير ـ بصرف النظر عمّا بيّناه من بعض المناقشات ـ تفيد جواز لعن الكافرين في الجملة، لا استحبابه، فضلاً عن وجوبه. وأمّا جواز لعن بني أميّة فلن يكون دليله قرآنيّاً محضاً، بل هو بتوسّط الحديث الذي بيّن لنا أنّ المراد بهذه الشجرة الملعونة هو شجرة بني أميّة، فمن يأخذ بهذه الأحاديث يمكنه الاعتماد هنا على هذه المعطيّات بوصفها دليلاً مركّباً من الكتاب والسنّة معاً لا دليلاً كتابيّاً محضاً، كما هو واضح. فليس لعن غير الكافر (في بعض الموارد له) مذكوراً في القرآن الكريم. ومن ثمّ فلابدّ ـ لاستفادة جواز اللعن في أيّ دائرة أخرى ـ من الرجوع إمّا إلى أصل البراءة عندما لا يكون هناك دليل ناهٍ، وهو لا يفيد حينئذٍ إلا الجواز دون الاستحباب أو الوجوب، أو الرجوع إلى الأدلّة الحديثيّة والروائيّة الأخرى. ولا يقتصر ـ لإفادة الجواز المبدئي أو الاستحباب ـ على النصوص التي ورد فيها تعبير (اللعن)، بل يمكن أن يُرجع للنصوص التي ورد فيها مضمون فكرة اللعن، كأنّ يقول الإمام مثلاً: اللهم لا تغفر ذنب فلان، أو اللهم أذقه حرّ النار، كما هو وارد في مضمون بعض الروايات فعلاً، فهذه أيضاً لابدّ من إدراجها في نصوص اللعن لكي نعرف من مجملها الموقف الشرعيّ وحدوده في إطار دليل السنّة الشريفة، مع الأخذ بعين الاعتبار قواعد نقد الحديث ومعايير تصحيحه، ومدى وجود دليل معارض، مما تراجع تفصيلاته في محلّه.