السؤال: ما هو تقويمكم للحديث الوارد، والذي مضمونه: (نزّهونا عن الربوبيّة وقولوا فينا ما شئتم)، ألا يفسح هذا الحديث المجال للغلوّ في أهل البيت عليهم السلام، وهو ما بدأنا نرى بوادره على لسان بعض الخطباء هذه الأيّام؟ ألن يتورّط العامل بهذا الحديث بالكذب على أهل البيت عليهم السلام إذا قال فيهم ـ وفقاً للحديث ـ ما شاء؟ وأخيراً، أليس من المفروض أن يكون التنزيه عن النقص، فهل الربوبيّة نقصٌ يُتنزّه ـ بضم الياء ـ عنه؟ (عماد، العراق).
النقطة الأولى: ذكر بعض المعاصرين حفظه الله (الإمامة الإلهيّة 1: 430) أنّ هذا الحديث مستفيض أو متواتر، وينبغي لنا ـ لمعرفة ذلك وتحليل وضع هذا الحديث من زاوية الصنعة الحديثية والبحث التاريخي ـ أنّ نرصد صيغ هذا الحديث في الموروث الإسلامي، فهناك عدّة أحاديث تلتقي مع هذا الموضوع المشار إليه فيما نقلتم، وهي:
1 ـ ما جاء بصيغة: (نزّهونا عن الربوبيّة وقولوا فينا ما شئتم، ولن تبلغوا)، وهذا لم يرد في مصادر الحديث عند أحد من المسلمين بهذا التعبير، وإنّما هو شائع على الألسن، واستخدم في بعض الكتب في القرنين الأخيرين، فقد ذكره الشيخ أحمد آل طعان القطيفي (1315هـ)، في كتاب (الرسائل الأحمدية 3: 361)، وذكره الشيخ محمد حسين المظفر (1381هـ)، في كتاب (علم الإمام: 76) وغيرهما. فليس له مصدر فضلاً عن سند، ومن هنا يحتمل جدّاً أنّه نقلٌ بالمعنى لسائر الروايات الأخرى التي سوف تأتي قريباً إن شاء الله. ومثل هذا النص، الجملة التالية: (لا تقولوا فينا ربّاً وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا)، حيث ذكرها العلامة المجلسي في (بحار الأنوار 25: 347)، كخلاصة لمجموعة الروايات، وليست هي رواية مستقلّة أساساً، رغم أنّه تمّ تداولها في كلمات بعضهم على أنّها رواية مستقلّة فلاحظ. ومن هذا النوع أيضاً ما جاء بصيغة: (نزّلونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم)، وقد ذكرها المولى أحمد النراقي (1245هـ)، في كتاب (رسائل ومسائل 3: 113)، والملا هادي السبزواري (1289هـ) في كتاب (شرح نبراس الهدى: 226)، والميرزا هاشم الآملي (1412هـ) في كتاب (المعالم المأثورة 2: 249)، وبعض المعاصرين أيضاً، ولم تنسب إلى مصدر حديثي أو تاريخي؛ لأنّ هذه الكتب متأخّرة زمنيّاً جدّاً، وليست كتب حديث ولا تاريخ ولا رواية، ولا أصحابها معروفون بذلك، بل هم بين فقيه وفيلسوف، لهذا يترجّح أن تكون نقلاً بالمعنى لسائر الروايات الآتية. ومن هذا النوع أيضاً، ما جاء بصيغة: (اسلبوا منّا الربوبيّة وقولوا فينا ما شئتم من الفضائل والمحاسن)، وقد أوردها الوحيد البهبهاني (1205هـ) في كتابه الفقهي (الحاشية على مدارك الأحكام 3: 321)، ومثله حديث: (أنفوا عنّا الربوبية وقولوا ما شئتم)، والذي أورده الديلمي (ق 8هـ)، في كتاب (إرشاد القلوب 2: 427)، وغالب الظنّ أنّ هذا نقلٌ بالمعنى للروايات الأخرى، وليس رواية جديدة، حيث لم يذكروا هنا لا مصدراً ولا سنداً، بل إنّ الديلمي قال بأنّ هذا هو ما ورد عنهم عليهم السلام، ممّا يعني أنّ النقل ليس لرواية بعينها، فيحتمل جدّاً أن يكون نظرهما إلى سائر الروايات الواردة هنا.
2 ـ جاء عند الحافظ رجب البرسي (ح 813هـ)، في (مشارق أنوار اليقين: 101) صيغةٌ ثانية، وهذا نصّ كلامه: (وعنهم عليهم السلام أنهم قالوا: نزّهونا عن الربوبية وارفعوا عنّا حظوظ البشرية ـ يعني الخطوط التي تجوز عليكم ـ فلا يقاس بنا أحد من الناس، فإنّا نحسن الأسرار الإلهية المودعة في الهياكل البشريّة، والكلمة الربّانية الناطقة في الأجساد الترابيّة، وقولوا بعد ذاك ما استطعتم، فإنّ البحر لا ينزف، وعظمة الله لا توصف). وجاء في كتاب (مسند الإمام علي 8: 74 ـ 75) للسيد حسن القبانجي المعاصر ما نصّه: (الشيخ فرج القطيفي: وجدت بخطّ الشيخ عبد الله بن أحمد البصري البحراني، على ظهر كتاب شرح التجريد ما يلي: روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال لسلمان الفارسي: يا سلمان نحن أسرار الله المودعة في هياكل البشريّة، ميتنا لم يمت، وغائبنا لم يغب، نزّهونا عن الربوبية وارفعوا عنّا الحظوظ البشريّة، فإنّا عنها مبعدون، وعما يجوز عليكم منزّهون، ثم قولوا فينا ما استطعتم، فإنّ البحر لا ينزف، وسرّ الغيب لا يعرف، وكلمة الله لا توصف، يا سلمان أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب أو نبي مرسل، أو من امتحن الله قلبه للإيمان).
وهذا الحديث من الواضح أنّ أقدم ظهورٍ له ـ بهذه الصيغة ـ كان منذ القرن التاسع الهجري، أي قبل حوالي ستمائة عام فقط، ولم يُنقل له أيّ مصدر عند أحد من العلماء المسلمين، كما ليس له أيّ سند يمكن الاتكاء عليه، ولا أريد أن أعلّق على كتاب (مشارق أنوار اليقين) للحافظ البرسي، والذي وقع محلّ خلاف معروف بين السيد محسن الأمين العاملي والعلامة الأميني صاحب الغدير، وقد انتصر السيد هاشم معروف الحسني للسيد محسن الأمين في ذلك شانّاً هجمات عنيفة على البرسي (الموضوعات في الآثار والأخبار: 217، 221 ـ 222، 223 ـ 224، 228 ـ 229، 293، 299). يضاف إلى ذلك أنّ لسان الحديث واضح في التعابير الصوفيّة والغنوصيّة التي ظهرت بعد القرن الأوّل الهجري، ولم يكن لها وجود في النصف الأوّل من القرن الأوّل الهجري حتى يُنسب الحديث إلى الإمام علي عليه السلام، الأمر الذي يزيدنا شكّاً فيه.
3 ـ الصيغة الثالثة هنا هي ما أورده الصفار، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسن (الحسين) بن برده (بردة)، وأبي عبد الله، عن الجعفر بن الحسين (بشير) الخزاز، عن إسماعيل بن عبد العزيز، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: ضع لي في المتوضأ ماء، قال: فقمت، فوضعت له، فدخل، قال: فقلت في نفسي: أنا أقول فيه كذا وكذا ويدخل المتوضأ، فلم يلبث أن خرج، فقال: يا إسماعيل بن عبد العزيز، لا ترفعوا البناء فوق طاقتنا فينهدم، اجعلونا عبيداً مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم. قال إسماعيل: كنت أقول فيه وأقول (حدّثنا)) (بصائر الدرجات: 361)، ونقله ابن حمزة الطوسي (560هـ)، في كتابه (الثاقب في المناقب: 402)، بلا سند إلى إسماعيل بن عبد العزيز، والظاهر أنّ مصدره البصائر. ولكنّ نفس هذه الرواية أوردها الراوندي في (الخرائج والجرائح 2: 735)، وفيها: (اجعلونا عبيداً مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم إلا النبوّة)، كما نقل المجلسي في (بحار الأنوار 47: 68)، هذا الحديث عن كشف الغمة، من كتاب الدلائل للحميري، عن عبد العزيز مثله. وجاء عند الإربلي (693هـ) في (كشف الغمّة 2: 414)، عن مالك الجهني عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال ـ في حديث ـ: (… يا مالك ويا خالد، قولوا فينا ما شئتم واجعلونا مخلوقين..).
أهميّة هذا الحديث تكمن في الصفار نفسه، فالمجلسي والراوندي والإربلي لم يذكروا مصدرهم لهذا الحديث، فضلاً عن السند، وهم متأخّرون نسبيّاً من حيث الزمن، كما أنّ مالك بن أعين لم تثبت وثاقته، وفاقاً لغير واحدٍ من العلماء كالسيد الخوئي (معجم رجال الحديث 15: 164)، بل لا نعلم سند الإربلي إلى مالك وبينهما خمسة قرون، ولو مع توسّط الحميري.
أمّا الصفار، فإذا تجاوزنا قضيّة ثبوت نسبة الكتاب إليه، إذ ناقش في ذلك مثل السيد محمد باقر الصدر، فإنّ السند يعاني من مشاكل وهي:
أ ـ جعفر بن بشير الخزاز، رجلٌ مهمل في كلمات الرجاليين، وقد أقرّ بذلك النمازي في (مستدركات علم رجال الحديث 2: 148)، بعد أن اعترف بوقوعه في سند هذه الرواية.
ب ـ الحسين بن بردة، رجل مهمل، لم يذكروه، وقد اعترف بذلك الشيخ النمازي في (مستدركات علم رجال الحديث 3: 103). وبضعف هذين الرجلين يضعف الطريق إلى إسماعيل بن عبد العزيز من الجهتين.
ج ـ إسماعيل بن عبد العزيز، ولم يوثقه أحد (انظر: معجم رجال الحديث 4: 65 ـ 66؛ ومستدركات علم رجال الحديث 1: 648 ـ 649)، وقال فيه البروجردي في (طرائف المقال 2: 9) ما نصّه: (.. لم يوجد له مدح حتى يعتمد عليه، فهو كنظرائه غير مقبول الرواية فقاهةً)، وأقرّ الشبستري في (الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق 1: 172) بأنّه مجهول الحال، وهناك أربعة أشخاص اسمهم هذا الاسم وكلّهم هذا حاله، فالرواية ضعيفة بطريقيها إلى إسماعيل، فضلاً عن ضعفها بإسماعيل نفسه.
4 ـ الصيغة الرابعة هنا هي ما ذكره الصفار في (بصائر الدرجات: 527)، وما نقله الحلّي (ق 9هـ)، في (مختصر البصائر: 59، والمحتضر: 65)، وهذا نصّه: (الحسن بن موسى الخشاب، عن إسماعيل بن مهران، عن عثمان بن جبلة، عن كامل التمّار، قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام ذات يوم، فقال لي: يا كامل، اجعلوا لنا ربّاً نؤوب إليه وقولوا فينا ما شئتم، قال: فقلت: نجعل لكم ربّاً تؤوبون إليه ونقول فيكم ما شئنا؟ قال: فاستوى جالساً فقال: ما عسى أن تقولوا، والله ما خرج إليكم من علمنا إلا ألف غير معطوفة).
أ ـ إنّه ينتهي إلى كامل بن العلاء التمّار الكوفي، وقد أقرّ الشيخ النمازي الشاهرودي ـ وهو المعروف بتتبّعه وتوثيقاته ـ في (مستدركات علم رجال الحديث 6: 297) بأنّه معدود في المجاهيل، محاولاً توثيقه بمثل هذه الرواية وأنّها تدلّ على حسنه.
ب ـ عثمان بن جبلة، رجل مهمل لا ذكر له في كتب الرجال فضلاً عن التوثيق (انظر: معجم رجال الحديث 12: 116؛ ومستدركات علم رجال الحديث 5: 212). ويحتمل أن يكون عثمان بن جبلة الموثق عند أهل السنّة، والذي كان ملازماً لشعبة بن الحجّاج، ومعاصراً للإمام الصادق عليه السلام، وهذا يثير شكّاً في هذا الحديث هنا، من حيث احتمال أنّه أراد أن يقول بأنّ الصادق عليه السلام يدّعي كلّ شيء إلا الربوبيّة، فكونه من أهل السنّة كما يحتمل فيه تقوية الحديث يحتمل فيه التضعيف أيضاً في الوسط السنيّ لشخصيّة الإمام الصادق فليلاحظ جيّداً.
5 ـ الصيغة الخامسة نقلها رجب البرسي في (مشارق أنوار اليقين: 257)، وهي من حديث طويل عن سلمان وأبي ذر، عن علي عليه السلام: (..فلا تدعونا (تجعلونا) أرباباً، وقولوا فينا (في فضلنا) ما شئتم (فإنّكم لا تبلغون كنه ما فينا ولا نهايته)..). وقد نقلها العلامة المجلسي في (بحار الأنوار 26: 6)، حيث قال في مطلعه: (أقول: ذكر والدي رحمه الله أنّه رأى في كتاب عتيق جمعه بعض محدّثي أصحابنا في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام هذا الخبر، ووجدته أيضاً في كتاب عتيق مشتمل على أخبار كثيرة..).
ومن الواضح أنّ هذا الحديث بهذه الصيغة (وربما يكون هو نفس الأحاديث السابقة لكن منقولاً بالمعنى) ظهر ـ فيما هو متوفّر بين أيدينا من معلومات ـ في القرن التاسع الهجري، وأنّ العلامة المجلسي ينقله عن كتب عتيقة لا يعرف بنفسه حتى صاحبها، فضلاً عن أن تكون قد وصلته بطريقة موثوقة، هذا كلّه فضلاً عن أنّه لا بيان لمصدر هذا الحديث، ولا سند أساساً له.
6 ـ ورد في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: (وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تتجاوزوا بنا العبوديّة، ثم قولوا ما شئتم، ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى، فإنّي بريء من الغالين) (تفسير العسكري: 50؛ ونقله في الاحتجاج 2: 438).
ومن المعروف أنّ تفسير العسكري مرويّ بطريق ينتهي إلى كلّ من أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبي الحسن علي بن محمد بن سيار (يسار)، وهما رجلان مجهولا الحال، بل مهملان جداً (راجع: معجم رجال الحديث 13: 157، و21: 186)، وهذا القدر من الإهمال يسقط قيمة التفسير كلّه؛ من هنا لم يحظَ هذا التفسير بين الشيعة بكثير أهمية، حيث حمل عليه العديد من العلماء، بل ذهب بعضهم إلى أنه موضوع مكذوب، يقول السيد الخوئي: (إنّ الناظر في هذا التفسير لا يشك في أنه موضوع، وجَلَّ مقام عالم محقّق أن يكتب مثل هذا التفسير، فكيف بالإمام عليه السلام!) (معجم رجال الحديث 13: 157)، كما نُسب إسقاط حجية هذا التفسير إلى كلّ من ابن الغضائري، والعلامة الحلي، والتفرشي، والمحقق الداماد، والاسترآبادي صاحب منهج المقال، والمحقق الأردبيلي، والشيخ محمد جواد البلاغي، والمحقّق التستري، والميرزا الشعراني، والسيد هاشم الخوانساري وغيرهم.
7 ـ ما جاء بصيغة: (.. إياكم والغلوّ فينا، قولوا: إنّا عبيد مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم…) (الصدوق، الخصال: 614، وتحف العقول: 104، ومشارق أنوار اليقين: 3، وعلي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ: 101؛ ونقله في مستدركات سفينة البحار عن غرر الحكم: 159)، وفي السند الذي لا يوجد إلا في الخصال جاء كلّ من القاسم بن يحيى والحسن بن راشد، ولم يوثقا.
8 ـ ما ذكره الحسين بن حمدان الخصيبي (334هـ)، في كتاب (الهداية الكبرى: 431)، في رواية طويلة عن المفضل: (.. وأمّا الغالي فليس، فقد اتخذنا أرباباً من دون الله، وإنّما اقتدى بقولنا إذ جعلونا عبيداً مربوبين مرزوقين، فقولوا بفضلنا ما شئتم، فلن (تـ) ندركوه). ومن الواضح أنّه لو غضضنا الطرف عن ميول الخصيبي، وعن إثبات نسبة هذا الكتاب له، وفي ذلك كلام كثير، فإنّ الحديث لا سند له أساساً.
9 ـ ما جاء في دعاء رجب من قوله: (لا فرق بينك وبينها (وبينهم) إلا أنّهم عبادك وخلقك..) (الطوسي، مصباح المتهجّد: 803)، ولم يذكر الشيخ الطوسي سنداً لهذا الدعاء أساساً، لكنّ السيد ابن طاووس في (إقبال الأعمال 3: 214)، نقله قائلاً: (ومن الدعوات في كلّ يوم من رجب، ما رويناه أيضاً عن جدّي أبي جعفر الطوسي رضي الله عنه فقال: أخبرني جماعة، عن ابن عياش قال: مما خرج على يد الشيخ الكبير أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد رضي الله عنه من الناحية المقدّسة، ما حدثني به خير بن عبد الله قال: كتبته من التوقيع الخارج إليه..).
وهنا، فضلاً عن عدم معرفتنا بالجماعة التي أخبرت الشيخ الطوسي، فإنّ ابن عيّاش هذا من البعيد أن يكون محمد بن مسعود بن عياش الثقة؛ لأنّه تفصله أكثر من طبقتين عن الشيخ الطوسي. كما ومن البعيد أن يكون أبا بكر بن عياش؛ فإنّ هذا من طبقة الإمام الصادق، فكيف يروي عن العمري عن الإمام المهدي؟! ويحتمل أن يكون أبا عبد الله بن عياش، وهو مهمل. لكنّ الأصحّ أنّه أحمد بن محمد بن عبيد الله بن الحسن بن عياش بن إبراهيم بن أيوب الجوهري، الذي قال عنه الشيخ النجاشي بأنّه (سمع الحديث فأكثر واضطرب في آخر عمره… رأيت هذا الشيخ، وكان صديقاً لي ولوالدي، وسمعت منه شيئاً كثيراً، ورأيت شيوخنا يضعّفونه فلم أرو منه شيئاً، وتجنّبته) (رجال النجاشي: 85 ـ 86)، وكذلك قال عنه الشيخ الطوسي الذي يروي عنه بواسطة جماعة، تماماً كما هو السند هنا: (..كان سمع الحديث وأكثر، واختلّ في آخر عمره..) (الفهرست: 79).
10 ـ ما جاء عند النمازي الشاهرودي (1405هـ)، في كتاب (مستدرك سفينة البحار 7: 52 ـ 53)، حيث قال: (إثبات الهداة: عن خرائج الراوندي، عن خالد بن نجيح قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، وعنده خلق فجلست ناحية، وقلت في نفسي: ما أغفلهم عند من يتكلّمون. فناداني: إنّا والله عباد مخلوقون، لي ربّ أعبده إن لم أعبده عذّبني بالنار. قلت: لا أقول فيك إلا قولك في نفسك. قال: اجعلونا عبيداً مربوبين وقولوا فينا ما شئتم إلا النبوّة). وهذا الحديث بهذه الطريقة لا سند له، بل إنّ الموجود عند الراوندي في (الخرائج والجرائح 2: 735) المطبوع اليوم، هو النصّ التالي الذي ليس فيه الجملة محلّ الشاهد، حيث يقول: (منها: ما قال خالد بن نجيح: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وعنده خلق، فقنّعت رأسي وجلست في ناحية، وقلت في نفسي: ويحهم ما أغفلهم عند من يتكلّمون؟! فناداني: أنا والله عبد مخلوق، لي ربّ أعبده، إن لم أعبده عذّبني بالنار. فقلت: لا أقول فيك إلا قولك في نفسك).
هذه هي الروايات التي تصبّ في الفكرة الأساسيّة المباشرة للموضوع، وقد تبيّن أنّها بأجمعها ضعيفة السند، بل جملة منها لا سند له، والمهم فيها خبرا الصفار، وخبر الخصال، فلو حذفنا ما جاء برقم 1، ثم قصرنا النظر على المرويّات التي ظهرت في القرون السبعة الهجرية الأولى، فسوف نرى أنّ ما هو حديث ليس سوى ـ على أبعد تقدير ـ ما جاء برقم: 3 ـ 4 ـ 6 ـ 7 ـ 8 ـ 9 ـ 10، أي سبع روايات، بينها خمس مسندة، وكلّها روايات ضعيفة الإسناد، لم يرد منها شيء من الكتب الأمّ عند الشيعة سوى رواية الصفار ورواية الخصال، ومع كلّ هذا الضعف في الأسانيد، مع وجود هذا العدد القليل من الروايات هل يمكن القول بالتواتر، كما ذكره بعض المعاصرين حفظه الله؟! وإذا كان هذا تواتراً فما هي إذاً الروايات غير المتواترة؟! وإذا كان هذا المقدار من الروايات يفيد اطمئناناً بالصدور فما هو الخبر الآحادي الظنّي إذاً؟! وهل هذه هي طريقة العلماء في العلوم الفقهيّة والتدقيقات الاجتهاديّة بحيث يحصل لهم من هذا المقدار من الروايات الضعيفة كلّها وثوق بالصدور؟! وكيف يحصل اطمئنان بالصدور ويحتمل وضع هذه الروايات من قبل بعض الغلاة؟ أليس هذا أمراً محتملاً يؤثر على قوّة احتمال الصدور في الرواية؟ أليس من الممكن أن تكون هناك مصالح مشتركة للغلاة في تأسيس مثل هذه الأحاديث كي يبرّروا بها كلّ ما سيقولونه عن أهل البيت عليهم السلام؟! فمع وجود هذا الجوّ كيف يحصل تواتر أو اطمئنان بالصدور، فضلاً عن عدم وجود خبر ثقة حتى يؤخذ به هنا من باب حجيّة خبر الثقة؟! لا سيما ومضمون الرواية بالغ الخطورة ويؤسّس لرؤية عقائديّة غير عادية إطلاقاً.
هذا، وقد أقرّ السيد جعفر مرتضى العاملي في (مختصر مفيد 13: 52) بأنّ (هذه الرواية ليس لها ـ فيما اطّلعنا عليه من نصوص وأسانيد ـ سندٌ يصحّ الاعتماد عليه.. فراجع نصوصها في بصائر الدرجات والبحار وغيرهما). كما نقل السيد الزنجاني حفظه الله ـ على ما جاء في تقريرات بحث النكاح (النكاح 2: 625، الهامش رقم 1) ـ الاستنكارَ الشديد للسيد البروجردي رحمه الله لهذا الحديث في لقاءٍ جمعه بالإمام الخميني، وكان الزنجاني حاضراً، قائلاً ـ أي البروجردي ـ ومستنكراً ما نصّ ترجمته: (أين هو هذا الحديث؟ أيّ كلام يقول؟!).
النقطة الثانية: سئل السيد الخوئي عن هذا الحديث فأجاب: (لا يحتاج تنزيههم عن صفات الربّ المختصّة به واتصافهم بجميع ما (عـ) بدى تلك من صفات الكمال التي يمكن أن تنالها البشريّة في قدسيّتها، كما هم منزّهون عن ما لا يليق أن يتصف به المخلوق المعصوم عن الزلل والمعاصي، لا تحتاج تلك إلى ورود رواية حتى نثبته بمضمونها إن كانت معتبرة، أو نطرحها إن كانت ضعيفة غير معتبرة) (صراط النجاة 2: 452). وهذه الذهنيّة موجودة عند بعضنا.
لكن يمكن التعليق هنا، بأنّه إذا أراد نفي صفات الربّ وإثبات العصمة، فإنّ نفي صفات الربّ تعالى عنهم عليهم السلام، ونفي الصفات التي لا تليق بهم مثل المعاصي، لا يساوي الرسالة التي يحملها هذا الحديث وفقاً للتفسير المعروف له، فبين رسالة الحديث وبين هذا المفهوم الذي طرحه الإمام الخوئي رحمه الله بونٌ شاسع، فعندما تقول: إنّ لهم تمام الأمور عدا الربوبيّة، فهذا يعني أنّ لهم المعاجز والكرامات، وهذا لا تثبته الدائرة التي أشار إليها رحمه الله في جوابه، بل إنّ النبوّة أيضاً تكون داخلة، ولا يوجد في أيّ رواية من الروايات السابقة استثناء النبوّة عدا واحدة أو اثنتين كما تقدّم، فهل يمكن بهذا الحديث إثبات النبّوة لهم؟! وهل هذه الدلالة مطابقة للحدّ الذي وضعه السيد الخوئي. إنّ هذا الحديث لا يريد سلب صفات الله عنهم مع إثبات العصمة لهم فقط، بل يريد منحهم تمام الكمالات الممكنة لممكن الوجود، وهذا معنى الدعاء الرجبي من أنّه لا فرق بينهم وبين الله إلا العبوديّة، فجواب السيد الخوئي رحمه الله لا يتطابق مع سؤال السائل وما يفهم عادةً من هذا الحديث. وأمّا إذا أخذنا قيده الذي عبّر فيه عن منحهم تمام صفات الكمال البشري الممكن، فهذا ليس أمراً مفروغاً منه حتى نقول بأننا لا نحتاج إلى رواية فيه، فالولاية التكوينية لهم محلّ بحث بين العلماء منذ القرون الأولى، وكذلك علمهم بالغيب، وكذلك ثبوت الكرامات لهم، وكذلك سهوهم، وكذلك عدم خطئهم في الموضوعات، فهذه كلّها بحوثٌ محلّ جدل بين العلماء، وفي إثباتها ونفيها روايات متعارضة صريحة في النفي والإثبات وفيها ما يُعدّ عندهم من الصحيح سنداً هنا وهناك، ولو كان الأمر كذلك فلماذا عندما سئل السيد الخوئي عن سهو النبي في الموضوعات قال بأنّ القدر المتيقّن هو عدم سهو المعصوم في غير الموضوعات الخارجيّة (صراط النجاة 1: 462)، مع أنّه هنا يقول بأنّنا لسنا بحاجة إلى رواية لإثبات مطلق الكمال الإنساني والبشري الممكن لهم، فهذا من الكمال عندهم، فلماذا لم يدخله هناك في القدر المتيقّن؟! ولماذا في بحث علم المعصوم لم يجزم السيد الخوئي بإطلاق علمه الشامل لحالة الفعلية لا لحالة ارادة العلم فقط، بل بقي يلوح منه التردّد في دائرة العلم عندهم عليهم السلام؟ ولماذا في آخر البحث قال: (ولكنّ الذي يسهل الخطب أنّ البحث في علم الإمام عليه السلام من المباحث الغامضة، والأولى ردّ علم ذلك إلى أهله..) (مصباح الفقاهة 1: 583). إنّ هذا كلّه معناه أنّ غاية القدر المتيقّن هو نفي صفات الله الخاصّة عنهم، وإثبات العصمة في التبليغ وعن الزلل والمعصية لهم، وما سوى ذلك فهي أمور محلّ بحث ونظر بين العلماء منذ قديم الأيام، فنحتاج إلى دليل لإثباتها، وإلى حديث لنفيها. نعم من الممكن أن يكون السيد الخوئي بصدد تقديم تفسير آخر للحديث غير ما هو المتبادر منه أوّليّاً، ولهذا فأنا أحتمل أنّ السيد الخوئي لم يذهب في تفسير هذا الحديث مذاهب من يريد تفسيره بأنّه يعطي للمعصوم كلّ شيء إلا أن يكون هو الله سبحانه، فكأنّه فهم منه الكمال البشري بحيث يكون معصوماً عن الخطأ والزلل والعصيان والفسق والفساد ونحو ذلك والله العالم.
النقطة الثالثة: إنّ الإشكالات التي ذكرتموها في سؤالكم لا ترد هنا ـ بشكل كلّي ـ على الذين يؤمنون بهذا الحديث ومضمونه، وذلك:
أ ـ إنّ تعبير التنزيه عن الربوبيّة الذي أشكلتم عليه، لم يرد في الروايات هنا عدا في خبرين بلا سند ولا مصدر، نقل لنا أحدهما الحافظ البرسي، ونُقل الثاني عن الشيخ فرج القطيفي، وباقي الروايات ليس فيها هذا التعبير، بما في ذلك رواية الصفار والخصال وغيرهما، فهذا الإشكال في حدّ نفسه صحيح؛ ويرد على بعض الروايات، ولكنّه لا يرد على تمام الروايات التي جاءت هنا. وأمّا تخريج بعضهم بأنّ الكلمة العربية لها أكثر من معنى وأنّ معنى نزهونا هنا هو أنزلونا، فهذا غير واضح، فإن قصد أنّ التنزيه موضوعٌ ـ لغةً ـ للتنزيل أيضاً بنحو المشترك اللفظي، فهذا لم يقله أيّ من اللغويين، بل سيصبح معنى التنزيه شبيه معنى (قرء) في إطلاقه على الطهر والحيض، فيكون من الكلمات المتضادّة، وهذا لم يذكره أيّ لغويٍّ، وإن قصد جواز استعمال التنزيه في مضادّه مجازاً، فهذا وإن كان ممكناً في حدّ نفسه، لكنّ المجاز يحتاج لقرينة، بل يحتاج لخصوصيّة مناسبة لاستخدام هذا التعبير المضادّ في معناه للمعنى الأوّلي للكلمة، فما هي هذه الخصوصية البلاغية أو الجمالية في استخدام تعبير من هذا النوع؟
ب ـ إنّ حديثكم عن الغلوّ، يراه الطرف الآخر الآخذ بهذه الرواية وبمضمونها ـ ولو من خلال أدلّة أخرى عنده ـ اعتدالاً لا غلوّاً، فهم يقولون بأنّ علم الإمام مطلق وله الولاية التكوينية على العالم، وهو العلّة الفاعليّة والغائيّة للعالم، وهو المثيب والمعاقب، وهو بيده الحشر والنشر، وهو الواسطة في كلّ فيض، وهو مظهر ومجمع الأسماء والصفات، ولا يرون ذلك غلوّاً، انطلاقاً من نظريّتهم الخاصّة في تفسير الغلوّ، نعم قد ترونه أنتم غلوّاً، لكنّ ذلك لا يصلح إشكالاً عليهم، ما لم نفكّك فكرة الغلوّ ومظاهرها في المرحلة السابقة.
نعم، هذا الحديث قد لا يناسب هؤلاء من جهة إشكاليّة أخرى يمكنني إثارتها هنا وهي: إنّ الحديث يركّز في بعض صيغه على سلب الربوبيّة عنهم عليهم السلام، وهو سلبٌ مطلق غير مقيّد بقيد الاستقلال، وعليه فيكون هذا الحديث نافياً للولاية التكوينية على العالم للمعصوم؛ لأنّ الولاية التكوينية هي ربوبيّة غير مستقلّة، فإنّ معنى الربوبية هو الرعاية والتربية وبناء الشيء باستمرار، كما يفعل الأهل مع أولادهم، وهذا المعنى مطابقٌ للولاية التكوينية، بمعنى الواسطة في الفيض، فيجب عليهم هنا إضافة قيد تقديري ـ والأصل عدمه ـ في أنّ الربوبيّة بمعنى الاستقلال فيها، ولا أظنّ ذلك صعباً عليهم من وجهة نظرهم.
ج ـ إنّ قولكم بأنّ لازم هذا الحديث هو الكذب عليهم غير صحيح فيما يبدو لي؛ لأنّ الحديث يقول: قولوا فينا ما شئتم، ولا يقول: قولوا عنّا، فهو يحكي ـ بحسب تركيبته وسياقه وقرينة المقابلة فيه ـ عن أن نقول نحن شيئاً فيهم من الكمالات، لا أن ننقل شيئاً عنهم، حتى يكون الحديث مجيزاً للكذب عليهم، وعليه فالحديث يقول: كلّ ما تتخيّلونه من كمالٍ لمخلوق فانسبوه إلينا، لا أن تخبروا عنّا كذباً بأمور لم تقع أو بأقوال لم نقلها، وهذا يقبل به القائلون بفكرة هذا الحديث كما أشرتُ لكم قبل قليل. يضاف إلى ذلك أنّ القائلين بهذا الحديث يحاولون ـ ولو بعضهم ـ تحديد الأطر بمنهج عقلي، ولهذا قال بعض المعاصرين حفظه الله (علم الإمام: 488) ما نصّه: (إنّ قولهم عليهم السلام: وقولوا فينا ما شئتم، ليس المراد منه أن يقال فيهم كلّ شيء وإن لم ينسجم مع القواعد العقليّة والنصوص القطعيّة والحقائق الطبيعيّة، وإنّما المراد منه أنّ كمالاتهم ومقاماتهم فوق حدّ الإحصاء، بل بعضها فوق ما تحتمله عقولنا وإدراكاتنا..)، فعلى هذا التفسير لا يرد إشكالكم.
النقطة الرابعة: نحن ندّعي أنّ هذا الحديث ـ لو أخذ على إطلاقه المدّعى اليوم ـ لعارض المزاج القرآني العام، بل لعارض مزاج الكثير من النصوص الحديثية نفسها، وقد كنت أشرت سابقاً إلى مزاج القرآن في موضوع علم الغيب والولاية التكوينية ونحو ذلك، والمقام لا يسع التفصيل، فمن يفهم القرآن على أنّه يقدّم الأنبياء والرسل والأوصياء بشراً كاملين معصومين صالحين، لكنّهم لا يخلقون ولا يرزقون ولا يبعثون ولا يحيون الناس ولا هم من يحاسب يوم القيامة ولا غير ذلك ممّا يختاره الطرف الآخر، فمن الطبيعي أن يرى هذا الحديث مخالفاً لكلّ هذا الجوّ القرآني، نعم قد يناقش في دعوى وجود هذا الجوّ القرآني، وهذا نقاش مشروع، ولهذا فإنّ هذه المداخلة مبنائيّة، فيكون هذا الحديث وفق هذا المبنى القرآني ضعيف المتن أيضاً، بل يكاد يكون معلومَ الوضع والكذب، أمّا من يختار الرأيَ الموسّع لصفات المعصوم بحيث تكون له ولاية العالم فإنّه لن يجد هذا الحديث مخالفاً للمزاج القرآني والحديثي العام.
النقطة الخامسة: وفقاً لمعايير إعراض العلماء الموجب لتضعيف صدور رواية، فإنّ هذا الحديث معرَض عنه عند جمهور علماء الإماميّة في القرون التسعة الأولى، فما من عالم من علماء الشيعة في هذه القرون ـ إلا نادراً ـ إلا وهو يقول إمّا بجواز السهو على المعصوم، أو بعدم علمه بمطلق الغيب، أو بعدم ثبوت الولاية التكوينية له، أو بعدم ثبوت وصدور الكرامات والمعاجز منه، أو بأنّه يزداد علماً، أو بغير ذلك، ومن النادر أن تجد عالماً شيعيّاً في هذه القرون العشرة الأولى، صرّح بأنّ النبي وأهل بيته لهم كلّ صفات الكمال مطلقاً إلا الألوهيّة، وإذا كان هناك أمثال الشيخ رجب البرسي فإنّنا نتمنّى أن تذكر لنا أسماؤهم ونصوصهم في قولهم بمعنى هذا الحديث هنا كما يريده الآخذون به، ولو كان هذا الحديث مقبولاً عندهم أو متواتر بالمعنى كما قيل لكان بمثابة الأصل والقاعدة لكلّ بحث يدور حول كمالات المعصومين، بحيث يُرجع إليه عند عدم ثبوت كمالٍ معيّن للمعصوم بدليل خاصّ، مع أنّنا لا نجد لهذا الحديث ذكراً في كتب الكلام الشيعي إلا نادراً جدّاً وعند المتأخّرين فقط بما لا يزيد عن ثلاثمائة سنة سابقة، فليلاحظ هذا الأمر جيّداً، ليُعلم أنّ هذا الحديث لم يُعتمد في الموروث الكلامي للشيعة.
والنتيجة أنّه بضمّ مجموعة الملاحظات السابقة، بل وأغلبها، لا يكون هذا الحديث معتبراً، بل لا دليل على صحّة مضمونه أيضاً، بل مضمونه مخالف ـ بحسب فهمي القاصر ـ للقرآن الكريم والسنّة الشريفة ووقائع التاريخ، والعلم عند الله.
أحسنتم جزاكم الله خير الجزاء
أود أن أنقل رأي السيد الشهيد محمد الصدر من كتاب أضواء على ثورة الامام الحسين عليه السلام،حيث قال:
الأمر الرابع : من مجوزات النقل المحتمل عن حوادث كربلاء:
ما ورد بنحو القاعدة العامة حيث تقول : [قولوا فينا ما شئتم ونزهونا عن الربوبية].
وتقريب الاستدلال بها للنقل: وهو التمسك بإطلاق قوله [ما شئتم] فان الفرد قد يشاء أن ينقل الأمور غير المروية أو غير المناسبة مع الحال وغير ذلك. ومقتضى إطلاق القاعدة جواز ذلك كله، إلا إن هذا غير صحيح بكل تأكيد لعدة وجوه :
الوجه الأول : إن مثل هذه الرواية غير تامة سنداً، ومعه لا تكون ثابتة اصلاً، فالاستدلال بها، كما هو المشهور بينهم، غير جائز.
الوجه الثاني : إنها مخدوشة في الدلالة أو التعبير، وهو قوله فيها: [ونزهونا عن الربوبية]. في حين إن الربوبية كمال وعظمة، والتنزيه إنما يكون عن النقص والخسة والرذيلة . فهذا إنما يدل على ضعف سندها وعدم ورودها إطلاقاً. ويمكن أن يكون المتكلم بها قد قال:
[ونزلونا عن الربوبية]: فنقلها الراوي بالهاء وهو قوله: [نزهونا].إلا أنَّ هذا الاعتذار لا يجعلها تامةً سنداً.
الوجه الثالث : إن التمسك بإطلاقها على سعته غير محتمل، فمثلا هل يمكن أن يشمل قوله: قولوا فينا ما شئتم القول السيئ من القدح والشتم ونحوه، إن هذا غير محتمل طبعاً. اذن, فالمراد [ما شئتم], مما هو مناسب مع شأننا, ومن الواضح إن كثيراً مما نقول عنهم بلسان الحال ليس مناسباً مع شأنهم.
الوجه الرابع : إن قوله فيها [ما شئتم] يراد به الأوصاف الإجمالية ككونهم علماء أو عظماء وغير ذلك. ولا يراد بها التفاصيل من نقل الأقوال والأفعال الكاذبة عنهم، وان كانت مناسبة لشأنهم، فضلاً عما إذا لم تكن. والمفروض لدى الحديث عن لسان الحال أنه يكون بالتفصيل لا بالإجمال.
الوجه الخامس: في المعنى الأصلي الذي أفهمه من هذه الرواية. وهو أن فهمنا لا يكون له أي ارتباط للنقل بالمعنى من قريب أو بعيد. والمعنى الذي افهمه كما يلي :[قولوا فينا ما شئتم من المدائح أو من صفات الكمال والجلال، فإنكم لا تصلون إلى الواقع الذي اختاره الله لنا، وستكون كل من مدائحكم واوصافكم دون مستوانا الواقعي].
وإذا تصاعدنا نحن في الأوصاف لا نصل إلى صفتهم الحقيقية، فضلاً عن إننا يمكن أن نتعداهم، إلا إذا ذكرنا لهم الربوبية، فإنها غير ثابتة في حقهم. فمثلا نقول: انهم مؤمنون، ثم نقول: انهم ورعون، ثم نقول: انهم متقون، ثم نقول: انهم علماء، ثم نقول: انهم راسخون في العلم، ثم نقول: انهم أولياء، ثم نقول: انهم كأنبياء بني إسرائيل أو أفضل منهم. كل ذلك ونحن لم نصل إلى حقائقهم ومستوياتهم الواقعية.
المصدر: أضواء على ثورة الامام الحسين ص١٦١