السؤال: أرجو من جانبكم توضيح بعض المسائل التي تتعلّق بموضوع الاستخارة التي انتشرت بين المؤمنين، حتى صارت تدير أغلب شؤونهم. علمت أنّ الاستخارة هي طلب الخير وطلب التسديد الإلهي، وأنّها آخر ما يلجأ إليه المؤمن بعد الاستشارة والبحث, ولكن السؤال الذي لم أجده خلال بحثي هو: هل هناك أمر ميتافيزيقي يحدث عند قبض السبحة أو فتح القرآن الكريم؟ هل هناك معجزة إلهيّة تحرّك نتيجة الخيرة من الفعل إلى النهي وبالعكس؟ أرجو من سماحتكم توضيح الموضوع بالعمق المناسب والشافي ولكم جزيل الشكر (مصطفى، الكويت).
الجواب: يوجد للاستخارة نوعان أساسيان، تنقسم كلّ الاستخارات في ضوئهما، وهما:
النوع الأوّل: الاستخارة الدعائيّة، ويقصد بها الدعاء نفسه، وهي التي وردت فيها نصوص كثيرة موثوقة معتمدة عند العلماء، وتدلّ على أنّ الإنسان يحسن به أن يقوم قبل كلّ فعل يُقدم عليه من تجارة أو زراعة أو صناعة أو سفر أو زواج أو غير ذلك.. أن يقوم بالصلاة بين يدي الله تعالى والتوجّه بالدعاء له أن يسهّل له ما فيه الخير فيما سيقدم عليه، أو يوفقه لاختيار الخير في ما سيفعل، أو يجعل له الخير فيما سيقوم به، فالدعاء بتقدير الخير لك، أو بتوفيقك لمعرفة الخير، أو بجعل الخير في فعلك، هو استخارة، وهذا هو المعنى اللغوي للاستخارة فإنّها بمعنى طلب الخير.
ولم يناقش أحد في هذا المعنى للاستخارة، وفي ثبوته، وكلّ الروايات العامّة التي تتحدّث عن ضرورة الاستخارة يمكن جعل هذا المعنى هو المقدار المتيقن منها، بل هو المنسجم مع الدلالة اللغوية والذي لا يحتاج إلى أيّ قرينة إضافيّة. وهذا النوع الأوّل متفقٌ عليه بين جميع علماء الإسلام قاطبة، وتؤيّده الآيات والأحاديث الحاثة على الدعاء في كلّ حال.
النوع الثاني: الاستخارة الاستشاريّة، ويقصد بها أن يتمّ التوجّه إلى الله تعالى بالدعاء، تماماً مثل الاستخارة الدعائية، لكن مع إضافة، وهي أنّك تريد أن تعرف الخير والشرّ والحُسن والقبح فيما ستقدم عليه من فعل، فأنت تدعو الله تعالى أن يبيّن لك الخير لتُقدم عليه أو الشرّ لتتركه، ثم تقوم بأمرٍ ما يرشدك إلى هذا الخير، كالسبحة مثلاً، وكأنّه قد استجيب لك، وبيَّن الله لك الخير في الفعل أو الشرّ فيه. وسمّيت بالاستشاريّة؛ لأنّها ضرب من استشارة الله تعالى، فأنت تستشيره لتعرف رأيه، وتدعوه ليعطيك رأيه في فعلك، ثم تقدم على أخذ حبّات السبحة مثلاً، ويكون ذلك مؤشراً على رأي الله تعالى فيما ستفعل أو تترك.
وقد ذهب بعض علماء أهل السنّة ـ مثل الشيخ محمود شلتوت رحمه الله ـ إلى القول بحرمة هذه الاستخارة، وأنّها ليست سوى الاستقسام بالأزلام الذي نهى القرآن الكريم عنه، إلا أنّ إثبات الحرمة صعب من وجهة نظري.
وتنقسم الاستخارة الاستشارية إلى خمسة أنواع أساسيّة، وهي:
1 ـ استخارة السبحة أو الحصى، ولها أكثر من طريقة، وكلّ رواياتها ظهرت في القرن السابع الهجري وما بعد، مع السيد ابن طاووس الحلي (664هـ) رحمه الله في كتابه (فتح الأبواب)، وجميع رواياتها، وهي لا تزيد عن اثنتين أو ثلاث، ضعيفة السند جداً، ولم يذكر أحد من قدماء الفقهاء أو المحدّثين هذه الاستخارة، لا من السنّة ولا من الشيعة فيما نعلم. ولهذا قال الشهيد الأوّل في كتاب (ذكرى الشيعة 4: 269): (ولم تكن هذه مشهورة في العصور الماضية…).
2 ـ استخارة المصحف الشريف، وليس فيها إلا رواية واحدة ضعيفة السند، ظهرت في القرون الأولى التي هي قرون مصادر الحديث، وتوجد بعض الروايات الأخرى فيها ظهرت منذ عصر ابن طاووس وما بعد، وكلّها ضعيفة السند، وقد استشكل بعض العلماء في استخارة المصحف انطلاقاً من ما ورد من النهي عن التفأل بالقرآن الكريم، لكن هذا الاستشكال في غير محلّه؛ لأنّ التفأل غير الاستخارة، كما أنّ رواية النهي عن التفأل ضعيفة السند أيضاً.
3 ـ استخارة الطيور، وهي استخارة أقدم مصدر لها هو كتاب الكشكول للشيخ يوسف البحراني (1186هـ)، والذي نقله عن أحد العلماء، ولا سند لها، ولا مصدر أساساً، بل يفهم من كلمات السيد محسن الأمين في كتاب (أعيان الشيعة 2: 595)، أنّها ضرب من الحيل والشعبذة.
ويمكن القول بأنّ هذه الاستخارات الثلاث كانت مهجورةً في القرون الستة الهجرية الأولى، ولم يذكرها العلماء ولا تبنّوها، ولا كانت عادةً سائدة بين المسلمين ولا بين الإماميّة.
4 ـ استخارة الرقاع أو ذات الرقاع (أو القرعة أو البنادق)، وتوجد فيها حوالي عشرة روايات، سبعةٌ منها ترجع إلى زمن ابن طاووس ومن بعده، وثلاثة قبله، وكلّها ضعيفة السند، وقد حاول بعض العلماء تصحيح أسانيدها، لكنّ هذه المحاولات لا تبدو موفقة ـ وفقاً لما توصّلت إليه ـ حتى على النظريات المشهورة في علم الرجال، وهذه الاستخارة هي التي دافع عنها حتى النفس الأخير السيد ابن طاووس واعتبرها أفضل الاستخارات وأهمّها، وذكر عجائب وغرائب في قصصها وحكاياها. وقد انتُقدت هذه الاستخارة في كلمات الشيخ ابن إدريس الحلّي (598هـ) واعتبرها هو ومعه المحقّق الحلي (676هـ) ذات روايات شاذة ومهجورة. وفي نصٍّ للشيخ المفيد ما يفيد ذلك أيضاً، وإن كان هناك نقاش في صحّة نسبة هذا النصّ إليه، كما ناقش فيها بعض المتأخّرين ـ مثل الشهيد الصدر الثاني ـ ولم يرتضها. ولهذا يصعب التأكّد وفقاً للقواعد العلميّة في حجية خبر الثقة أو حجية الخبر المطمأنّ بصدوره بثبوت أيّ من هذه الاستخارات المتقدّمة.
5 ـ استخارة القلب، وتعني أن يتوجّه الإنسان بالدعاء إلى الله ليرشده، ثم ينظر ما يقع في قلبه فيعمل به فإنّ فيه الخير، وهذه الاستخارة وردت فيها بعض الروايات، ومنها ما هو الصحيح سنداً.
6 ـ استخارة الاستشارة، ويقصد منها التوجّه إلى الله تعالى بالدعاء كي يلهمه الخير، ثم بعد ذلك يقوم باستشارة الآخرين، فيأخذ بنصيحتهم ويكون في قول بعضهم الخير، فيسترشد بآرائهم، وهذه الاستخارة عمدتها روايتان: إحداهما صحيحة السند. وهي مؤيّدة بنصوص الحث على الدعاء من جهة، والحث على المشورة من جهة أخرى.
وبناءً عليه، فإنّ ما صحّ من الروايات الخاصّة بالاستخارة، إنّما هو روايات الاستخارة الدعائية، وكذلك استخارة القلب واستخارة الاستشارة، أمّا استخارة السبحة والحصى والطيور والرقاع والبنادق والمصحف الشريف، فليست بثابتة سنداً، رغم اشتهارها خلال القرون الأخيرة، بل العقود الأخيرة. ولهذا حاول بعض المتأخّرين تقويتها بأدلّةٍ عامّة، مثل عمومات أدلّة الدعاء أو عمومات قاعدة القرعة، إلا أنّ هذا التأييد محلّ نظر فصّلناه في محلّه؛ فإنّ المشكلة ليست في الدعاء الموجود في الاستخارة، وإنّما في الترتيب العملي للأثر، والكاشفية المدّعاة للنتيجة عن الواقع وغير ذلك.
ولعلّه لمجمل ما قلناه، جاء في استفتاءات الشيخ التبريزي النصّ التالي: (ما هو الثابت استحبابه من أقسام الاستخارة؟ التبريزي: لم يثبت استحباب الاستخارة، ولكن بها رواية وهي مجرّبة، وتدخل في عنوان المشورة مع الله تعالى، إذا كانت بالكتاب المجيد عند تحيّر الشخص، والله العالم) (صراط النجاة 1: 553). كما جاء في استفتاء أوضح للسيد السيستاني هذا نصّه: (هل الاستخارة بالطريقة المتبعة عندنا الآن، محبّذة شرعاً أو واردة؟ وهل هناك من ضير في تكرار الاستخارة مع التصدّق لتوافق رغبة المستخير؟ الجواب: يؤتى بها رجاءً، عند الحيرة، وعدم ترجّح أحد الاحتمالات بعد التأمّل والاستشارة، وتكرار الخيرة غير صحيح إلا مع تبدّل الموضوع، ومنه التصدّق ببعض المال) (الفقه للمغتربين: 327 ـ 328)، فإنّ قوله (رجاء) معناه عدم ثبوتها عنده.
وأمّا الحديث عن وجود تأثير غيبي يتدخل عند أخذ حبّات السبحة مثلاً، فقد كان تحدّث عن هذا الموضوع أمثال السيد الشهيد محمد الصدر رضوان الله عليه، ومال إلى شيء من هذا القبيل، إلا أنّ الجزم بذلك صعب، ولم يقم دليل على مثل هذا الأمر في كلّ الحالات التي تقع فيها الاستخارات، وإن كان كلّ شيء ممكناً، على أساس استجابة الله تعالى للأدعية ولو بتدخّل غيبي.