السؤال: ما الفائدة والثمرة المرجوّة من تقديم محاضرة أو جواب حول مسألة دون بيان أدلّة المؤيّدين والمعارضين؟
الجواب: ليس دائماً يلزم ـ لتكون هناك فائدة ـ أن يتمّ تقديم الأدلّة، وإن كان تقديم الأدلّة مفيد جداً أيضاً، ولكنّ عدم تقديم الأدلّة قد يكون مفيداً كما في الحالتين الآتيتين اللتين أذكرها كأنموذج فقط:
1 ـ أن تكون المسألة من المسائل التي تواجه أزمة فهم أو التباس مصطلح، فيهدف المتكلّم أو الكاتب لتجلية المفهوم الذي يكون في التباسه أكبر السبب في وقوع كثيرين في لغطٍ أو خطأ حول المفهوم نفسه، ولهذا قبل الشروع في أيّ شيء لابدّ من فهم الأفكار وتجليتها وتوضيحها للآخرين مقدّمةً للبحث الاستدلالي فيها، واليوم نحن نجد أنّ الكثير جداً من الأفكار والمفاهيم تعاني من التباس المصطلح، ومن عدم جلاء الفكرة نفسها عند كثيرين، لهذا من الضروري أن يُصار إلى اعتماد مرحلة التجلية للوصول إلى عمليّة تفكير سليمة.
ومن أكثر العلوم الإسلاميّة في تقديري حاجةً لمزيد توضيح وتجلية، العلوم المتصلة بالجانب الروحاني كالعرفان الإسلامي، وكذلك بعض مدارس الفلسفة الإسلاميّة؛ إذ ما أكثر ما نجد دارسي هذه العلوم أنفسهم يعانون من مشاكل في فهم الأفكار بسبب الطريقة غير الدقيقة في التوضيح واللغة غير الواضحة في التفهيم، ولو تمّ توضيح الأفكار لربما لم نحتج للدخول في جدل أحياناً إمّا لوضوح الفكرة من حيث الصحّة أو لوضوح فسادها. ولهذا قلت في محاضراتي حول الولاية العرفانية والإنسان الكامل: إنّ العرفان والتصوّف بحاجة اليوم إلى تحديث اللغة ووضوحها، والبُعد ـ قدر المستطاع ـ عن اللغات الهلاميّة والضبابيّة والشعريّة والتشبيهيّة الغامضة.
2 ـ أن لا تكون القضيّة قضيّة أصل الفهم، بل تكون قضيّة ضيق الفهم، وأعني بذلك أنّ الكثير من المتابعين والمثقفين والمطّلعين فضلاً عن أغلب الجمهور من الناس، لا يعرفون عن كثير من الأفكار والنظريّات والموضوعات ـ لاسيما الدينيّة ـ سوى وجهة نظر واحدة، ويظنّ كثيرون أنّ وجهة النظر هذه هي الوحيدة الموجودة في التراث الفكري عند المسلمين أو عند مذهبهم أو طائفتهم، وفي هذه المرحلة نحن بحاجة ماسّة ـ قبل الدخول في الاستدلال ـ لكسر الصور النمطيّة، وإيصال رسالة إلى الآخرين بأنّ الأفكار ليست بهذه الطريقة الاحادية كما يتصوّرون، بل هناك غنى وتنوّع واختلاف في وجهات النظر، فعندما تقدّم للآخرين في كلّ موضوع تتناوله مشهداً متكاملاً متنوّعاً من وجهات النظر، فسوف يؤدّي ذلك بمرور الوقت إلى غياب الصور النمطيّة الأحادية الخاطئة والموهومة حتى لو دافعت عن وجهة نظر محدّدة من بين وجهات النظر هذه، وسوف يتمّ من خلال تنوّع الأفكار وعي العناصر المختلفة للموضوع نفسه، وسيكتشف الجميع أنّ هذه القضايا تخضع لاجتهادات واختلافات، وأنّها ليست ـ كما يحلو للبعض أن يصوّرها ـ مسلّمات وإجماعات وذات لون واحد، فقيمة هذه العمليّة تكمن في رفع مستوى الوعي بالقضايا التي يتم تناولها؛ لأنّك عندما تنوّع المشهد فأنت تقوم بإدخال الفضاء الفكري في مرحلة مختلفة، ليصبح جاهزاً أكثر لوعي التعدّد وحقّ الاجتهاد ومبدأ الاختلاف، ويبتعد أكثر فأكثر عن التنميط وضيق المعرفة وقلّة الاطلاع، حتى إذا دخل في مرحلة الجدل الفكري دخلها بوعي وجهوزيّة لا باضطراب أو بسوء فهم أو بتصوّر غير دقيق، فهذه الرسالة بنفسها قد تكون أفضل في كثير من الأحيان من البحث الاستدلالي، والأمر يختلف تبعاً للموضوعات وللحاجات التي تستدعي مقاربةً استدلاليّة في موضوعٍ هنا أو هناك.
إنّ التيارات الاحادية لا يناسبها في المجتمعات العلميّة إبراز وجود ظاهرة تعدّد في وجهات النظر، بل هي تميل لتقديم المشهد على أنّه الموافق ـ حصراً ـ لوجهة نظرها، وبهذه الطريقة يتمّ تغييب الأفكار الأخرى، وكم من أفكار واجتهادات لعلماء مخلصين تمّ تغييبها عبر التاريخ، وطمرها النسيان! ولذلك فإذا أردنا بحثها نبدو وكأنّنا خارج القاعدة أو نغرّد خارج السرب، مع أنّه لو تمّت عمليّة التربية والتعليم بطريقة تعدّدية، لما وقعنا في مثل هذه المشاكل.
أعتقد أنّ مرحلتنا الراهنة بحاجة كثيراً إلى خطوتي: توضيح المفاهيم، وبيان المشهد المتنوّع فيها، وهذه رسالة سامية من وجهة نظري؛ لإخراج واقعنا الفكري والثقافي من حالته التي يعيشها.