السؤال: ما رأيكم ببحوث علماء أصول الفقه عن تعريف علم الأصول وموضوعه؟ وإلى أيّ من التعريفات والموضوعات تميلون؟ وحبذا لو تقدّمون توضيحاً ولو مختصراً عن آرائهم في تعريف علم الأصول وموضوعه. (قاسم، البحرين).
الجواب: اعتاد علماء أصول الفقه، كالكثير من علماء العلوم الإسلامية الأخرى، على ذكر إطلالة عابرة وأوّلية على علم الأصول، تحدّد دائرته ونطاقه وموضوعه الذي يعالجه ويتحرّك ضمنه، وكان ذلك منهم انسجاماً مع الثقافة اليونانيّة التي طرحت في علم المنطق ما عبّروا عنه بالرؤوس الثمانية لكلّ علم، وهي ما يدور حول تعريفه، وموضوعه، وفائدته و… هادفين بذلك فرز العلوم بعضها عن بعض.. وتحديد مساحات كلّ علم، وذلك سعياً لتنظيم العلوم وضبطها وتحديد علاقاتها. وقد اهتمّ علماء أصول الفقه بهذا الأمر منذ القرن الخامس الهجري، كما نلاحظ ذلك في كلمات السيد المرتضى (436هـ) في كتاب «الذريعة», والشيخ الطوسي (460هـ) في كتاب «العدّة» وغيرهما.
وقد كانت هذه الخطوة صحيحةً من حيث المبدأ، لما أشرنا إليه من ضرورة تنظيم العلوم وضبط حركتها ومجال عملها وتوضيح مهمّتها وما تشتغل عليه، إلا أننا لاحظنا تضخّماً سلبياً في هذه الدراسات التمهيدية المقدّمية، فاتسع الجدل في قيود تعريف علم الأصول، وأخذ البحث صبغةً فلسفيّة عندما أطلق الأصوليّون العنان لأقلامهم في مسألة موضوع العلم، وما هو الموضوع؟ وهل يفترض وجود موضوع لكلّ علم أم لا؟ ممّا جعل هذه المسائل ذات طابع تجريدي بعيد عن الفائدة في كثير من الأحيان.
إنّ الهدف الذي تريده الدراسة التمهيدية حول تعريف العلم وموضوعه تكمن توضيح إجمالي لهذا العلم، وفي ضرورة عدم اختلاط العلوم وتداخلها تداخلاً عشوائياً فوضوياً، لكنّنا ـ مع الأسف ـ لاحظنا علماء الأصول مستغرقين في الجدل الفلسفي التجريدي حول تعريف علم الأصول وتحديد موضوعه، وما يميّزه عن الفقه والنحو والرجال والكلام و.. فأبدعوا في خلق هذه الصورة النظرية، إلا أنّهم تورّطوا في الدمج العشوائي أحياناً بين علم الأصول وعلوم أخرى قريبة، مثل حديثهم عن قاعدة التجرّي، والتحسين والتقبيح، ممّا ينتمي إلى قضايا علم الكلام، لكنّها دخلت أصول الفقه، دون أن تجري محاولة جادّة للحيلولة دون إقحامها فيه، وكذلك بحثهم عن أصالة عدم التذكية، وقاعدة لا ضرر، وقاعدة لا حرج، وغير ذلك من القواعد الفقهيّة التي تنتمي للفقه الإسلامي، وهكذا الحال في تعريف موضوع العلم، وبماذا تمتاز العلوم؟ ومباحث اعتبارات الماهية التي درسوها في بحث الإطلاق والتقييد، وغير ذلك من القضايا الفلسفيّة والمنطقية التي مكانها يقع في علوم أخرى. والغريب أنّ الأصوليّين وإن تشدّدوا في ضبط تعريف علم الأصول وتحديد موضوعه نظرياً، إلا أنّهم خلطوا ـ أحياناً ـ بينه وبين علوم أخرى لأدنى مناسبة أو لحاجة تاريخية فرضت بحثاً أجنبياً هنا أو آخر هناك.
من هنا، يفترض تهذيب أصول الفقه من الدراسات الأجنبية عنه، مهما كانت قيمة هذه الأبحاث الأجنبيّة داخل العلوم الأخرى، إلا أنّها على أيّة حال ليست من وظيفة الأصولي بما هو أصولي، وإن كانت من وظيفة الفيلسوف أو المتكلّم أو الفقيه أو اللغوي أو.. بما لهم من صفات وسمات ومهمّات. وعليه من الضروري السعي في الأبحاث الأصولية لتهذيب علم أصول الفقه من الموضوعات الهامشية التي علقت به عبر الزمن، لاسيما بعد عصر الوحيد البهبهاني (1205هـ)؛ وذلك حفظاً لعمر الباحثين والعلماء عن التلف فيما لا يفيد أو فيما هو أقلّ فائدة.
ولكي نطلّ سويّةً على نماذج سريعة من طريقة تعاطيهم في موضوع تعريف العلم وموضوعه، لنكشف عناصر الخلل المنهجي بكلّ بساطة، يمكن الحديث عن أنّ ثمة تعريفات متوارثة تلقّاها الدرس الأصولي بالبحث والمناقشة، ونقتصر هنا على تعريفات ثلاثة أساسيّة، مسجّلين بعض الملاحظات عند الضرورة:
التعريف الأوّل: وهو التعريف المدرسي المعروف: «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي».
وطبقاً للضرورات المنطقية فقد سجّلت على هذا التعريف ملاحظات أبرزها:
الملاحظة الأولى: إنّ هذا التعريف يخلط علم الأصول بعلم الفقه، ويؤدّي إلى تداخل غير مبرّر بينهما، ذلك أنّ القواعد الفقهية يصحّ التعبير عنها بأنّها تمهّد لاستنباط الحكم الشرعي، أليست قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، تثبت الضمان في باب البيع وهو حكم شرعي، كما تثبت الضمان في الإجارة الفاسدة وهكذا، إذاً فمع هذا التعريف لا تمتاز القواعد الفقهيّة عن القواعد الأصوليّة، فكيف يمكن الأخذ به أو تبنّيه؟! وقد أدّت هذه الملاحظة بعلماء الأصول إلى السعي لوضع علائم تفكّك القاعدة الفقهيّة عن القاعدة الأصولية، وهو بحث جدير ومفيد، وظهرت في هذا المجال عندهم تصوّرات تستحقّ الدرس، كونها تسعى لتكوين تصوّر منطقي لعلاقة هذين العلمين بعضهما بالآخر. وقد طرح السيد أبو القاسم الخوئي رؤيةً هنا تحاول التمييز بين المسألة الأصوليّة والمسألة الفقهية، وقد شاد فكرته على التمييز بين ما أسماه الاستنباط والتطبيق، فقد اعتبر أنّ القاعدة الأصولية من شأنها أن يُستنبط منها أو يُستخرج حكم شرعي كلّي، أما القاعدة الفقهيّة فليست في استخدامنا لها منتجةً لجعولات شرعية، بقدر ما تمثّل حكماً واحداً نمارس تطبيقه على مصاديق خارجية مختلفة، فقاعدة حجية خبر الواحد الأصولية تنتج لنا حيناً وجوب السورة في الصلاة، فيما تنتج ـ حيناً آخر ـ حرمة الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، والوجوب هناك كما الحرمة هنا حكمان شرعيان كلّيان تعلّقا بموضوعين كلّيين مختلفين، أما في حالة قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فإنّ الأمر ليس كلك، فإنّ البيع أو الإجارة ليسا سوى تطبيقين لقاعدة تحمل حكماً واحداً على موضوع واحد قد تجلّى حيناً في البيع وآخر في الإجارة وثالثة في المزارعة وهكذا.
الملاحظة الثانية: إنّ هذا التعريف غير جامع، ذلك أنّ الأصول العمليّة غير مندرجةٍ فيه، لأنّه لا يؤخذ منها حكم شرعي، بل وظيفة عملية، ومعنى ذلك أنّ هذا التعريف لا يستوعب تمام ما يتحرّك علم الأصول في دائرته.
إلا أنّه قد يلاحظ هنا أنّ فهم كلمة «الحكم الشرعي» بهذا المعنى فهمٌ حرفي، فالوظيفة العمليّة في نهاية مطافها حكمٌ شرعي، لا تخرج عن دائرة التشريع، نعم، هي ليست بالحكم الواقعي، ولا ضير في ذلك، فالمطلوب من أصول الفقه أن يمهّد لنا الطريق للوصول إلى أحكام الله سواء كانت واقعية أم ظاهرية، أمارات أم أصولاً، وكلّه مما يصدق عليه عرفاً واصطلاحاً حكمٌ شرعي.
التعريف الثاني: وهو تعريف الشيخ الخراساني صاحب الكفاية وهو: «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي يُنتهى إليها في مقام العمل».
وقد حاول هذا التعريف أن يستوعب تمام ما يتداوله علماء الأصول في بحوثهم الأصوليّة، من مباحث الأمارات أو الأصول العملية.. إلا أنّ السيد الشهيد الصدر كانت له ملاحظة على هذه الطريقة في التعريف تنطلق من أنّه يقوم بعرض أبواب علم الأصول ومباحثه، وليس هذا بالعمل الفنّي الدقيق، فلا يصحّ أن نعرف علماً ما عبر سرد رؤوس فصوله ومباحثه، ونقول هذا هو تعريفه.
ونحن نوافق الشهيد الصدر على ملاحظته هذه من حيث المبدأ، لكن هناك من يراها متأثرةً بتلك العقليّة المنطقية الأرسطيّة التي غرف منها العديد من العلماء، حيث نجدهم يرهقون أنفسهم في ملاحقة مفردة هنا وأخرى هنا، وكأنّهم إذا أطالوا التعريف كلمةً أو زادوا فيه حرفاً كان لغواً من القول، فيبخلون علينا بكلمة، وكأنّ قيمة التعريف في شدّة اختصاره، مع أنّ المطلوب من التعريف أن يوضح لنا هذا العلم إيضاحاً لا نخلط فيه بينه وبين غيره من العلوم، وطريقة صاحب الكفاية حتى لو سردت بشكل موجز المحورين الأساسيّين اللذين يدور حولهما علم الأصول لن تكون مضرّةً ما دامت تقدّم لنا صورة عن هذا الكلام، وترسم في عقولنا شكلاً معيّناً له، حتى لو لم تبيّن النكتة التي يدور هذا العلم حولها.
التعريف الثالث: تعريف السيد محمد باقر الصدر، وهو: «العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهي خاصّة التي يستعملها الفقيه كدليل على الجعل الشرعي الكلّي».
ويحاول هذا التعريف أن يستعيض عن تعبير «القواعد» بكلمة «العناصر المشتركة»، وثمّة من يرى أنّنا لا نعرف وجه الإصرار على هذا التبديل! كما وهناك من يلاحظ على السيد الصدر أنّه بالغ في الاستغراق في دقّة المصطلح بما يبعد صورة هذا العلم عن وعي الإنسان من خلال هذه الطريقة المعقّدة في البيان.
هذه ثلاثة نماذج للتعاريف، قدّمتها لكم كي أبدي ملاحظتي الأساسية على كلّ هذا الجدل الكبير الذي وقع فيه الأصوليّون، فأنتم لو تتابعون جدلهم في صحّة هذا التعريف أو ذاك وعدمه، وفي جامعيّته ومانعيّته، تجدونهم جميعاً يميّزون في لاوعيهم الداخلي قضايا الأصول عن سائر العلوم، وإلا فكيف أوردوا تارةً بأنّ هذا التعريف يُقحم القضايا الفقهيّة وذاك يُقحم القضايا الرجاليّة، وثالث لا يستوعب المباحث الموجودة في الأصول العمليّة، فلولا أنّهم في اللاوعي قد ميّزوا بين الأصول العمليّة فرأوها أصوليّة، وبين القواعد الفقهيّة فرأوها غير أصوليّة، لما كان معنى لهذا الجدل، فالجدل في التعاريف هنا غالباً ما يكون جدلاً فيمن هو الذي يقدر على تقديم صياغة جامعة مانعة، لا أنّه جدلٌ في تنظيم أصول الفقه بتمييزه عن غيره، وإلا فهو متميّز عند الجميع، فالمعركة معركة صياغات وألفاظ، فلا تستحقّ كلّ هذا العناء، فلو كتبنا صفحةً كاملة لتوضيح ما هو هذا العلم لكفى، ولا حاجة لمعركة الألفاظ في أنّ هذا التعبير يناسب أو لا يناسب، فإنّني أجدها معركةً لا ترقى إلى مستوى العمق الأصوليّ، بل لقد استُدرج إليها الأصوليون بتأثير من بحوث التعريف المنطقيّة التي عادةً ما يهمّها تمييز حقائق الأشياء، والمفروض أنّ التميّز هنا موجود، إذا تجاوزنا إشكاليّة أنّ هذه التصنيفات للعلوم ليست قضايا حقيقيّة حتى تشملها التعريفات المنطقيّة، فبدل تضييع الوقت في الصياغة فلنتجّه إلى جهد يرصد كلّ مسألة تعالَج اليوم في الأصول، ليحدّد هل هي أصولية بالفعل فنبقيها أم غير أصولية فنحذفها؟ ولنرصد كلّ مسألة يتوقّع أن تكون أصوليّة ولا يبحثونها اليوم مثلاً كتاريخية السنّة أو نظريّة المقاصد أو نحو ذلك، فنقرّر إدراجها في الأصول أم لا. هذا هو البحث المفيد اليوم، لا الجدل اللفظي في التعريفات. فتناقض الأصوليين في أنّهم تشدّدوا في صياغة التعريفات لعلمهم الذي يدرسونه، لكنّهم تساهلوا في تمييز علمهم عن العلوم الأخرى في التدوين والتأليف والمعالجة، فدرسوا قضايا لا علاقة للأصولي بما هو أصولي بها، وأهملوا قضايا تعدّ من صلب نشاط الباحث الأصولي، لاسيما البحوث المستجدّة في الاجتهاد الشرعي والتي لم تدرج بعدُ في الدرس الأصولي الرسمي ولا في الكتاب الدراسي التعليمي . ولهذا فنحن نرى أنّ أمر التعاريف سهل، وأنّها جميعها أوضحت هذا العلم بدرجةٍ أو بأخرى، وأنه آن الأوان للخلاص من هذه السجالات اللفظيّة التي ما عادت تأتي بالفائدة المرجوّة، كما أنّها لم تعد تمثّل حاجة فكرية اليوم فيما نراه، فمن غير المقبول أن يُفرد السيد محمّد باقر الصدر ـ مثلاً ـ 17 صفحة في تقريرات البحوث للسيّد الهاشمي، لبحث التعريف فقط، ويبقى طلاب العلوم الدينية لأكثر من أسبوعين ـ في الحدّ الأدنى ـ يتدارسون هذه القضيّة التجريدية.
هذا على صعيد تعريف علم الأصول، أمّا على صعيد موضوع علم الأصول، فقد انشغل علماء الأصول أيضاً بالبحث فيه، ولسنا نرتاب في أنّ بحث موضوع العلم وامتياز العلوم عن بعضها، هل يكون بالمنهج أو الموضوع أو الغاية.. بحثٌ جيد إلى حدّ معيّن ومفيد، لكنّه لا يهمّ الأصولي بما هو أصولي، بل يُعنى به أولئك المختصّون بعلوم المناهج والمنطقيات وفلسفة العلوم وما شابه، وقد ظهرت اتجاهات متعدّدة في تمييز العلوم وضبطها عن التداخل والاختلاط، وأبرزها ثلاثة هي:
الاتجاه الأول: وهو الاتجاه الذي يعتبر أنّ كلّ علم مؤلّف من مجموعة من القضايا الحمليّة، وكلّ قضية حملية لها بالتأكيد موضوع ومحمول، فقضيّة: «الفاعل مرفوع» في علم النحو، لها موضوع هو عبارة عن «الفاعل»، ومحمول هو عبارة عن «مرفوع»، ولا نعتني هنا بالمحمول، بل يهمّنا الموضوع فعلاً، فإذا وضعنا قضايا كلّ علم ضمن لائحة طويلة، وفرزنا الموضوعات في هذه القضايا عن المحمولات، لوجدنا أنّ هناك عنواناً يجمع تمام هذه الموضوعات تحته، وهذا العنوان هو الذي نسميّه موضوع العلم، فالفاعل والمفعول به و.. كلّها موضوعات في قضايا علم النحو ترتبت عليها محمولات مثل مرفوع ومنصوب وغير ذلك، وعندما نأخذ هذه الموضوعات نجدها تنضوي تحت عنوان جامع هو عبارة عن عنوان «الكلمة» مثلاً، فيكون هذا العنوان هو موضوع علم النحو، وهكذا سائر العلوم.
وهذه المقولة التي تبنّاها هذا الاتجاه، واجهت بعض المشاكل، التي حاولوا التخلّص منها، نذكر منها:
المشكلة الأولى: ولعلّ بإمكاني أن أسميّها مشكلة ميدانية، ذلك أنّ البحث في العلوم وموضوعاتها، سوف يجعلنا نصطدم في حركتنا ببعض الغموض، فبعض موضوعات القضايا في بعض العلوم قد يصعب أن نعثر على عنوان جامع لها، ما يجعل اطلاعنا على موضوعها عسيراً، وهذه المعضلة الميدانية تسبّب غموض هذه النظرية في تفسير بناء العلوم وامتيازاتها. ولعلّه من هذا المنطلق سعى المحقّق الخراساني صاحب الكفاية إلى استباق الأمور بافتراضه أنّ هذا العنوان الجامع لا يلزم فيه أن نعرفه بالدقّة، ولا يضرّ ذلك بكونه موجوداً أو موضوعاً لهذا العلم أو ذاك، ويكفي لمعرفته وجود عنوان مشير إليه، وإن لم يكن صريحاً في الدلالة عليه.
المشكلة الثانية: ما ذكره السيد الخوئي من أنّ مقولة لزوم وجود موضوع لكلّ علم، به تمتاز العلوم عن بعضها باطلة، إذ في بعض العلوم لم نعثر على هذا الموضوع، بل وجدنا أحياناً شيئاً من الاستحالة فيه، فمثل علم الفقه الذي يتحدّث تارة عن الفعل وأخرى عن الترك، وثالثة عن الوجود ورابعة عن العدم و.. كيف يمكن إيجاد جامع بين هذه المقولات التي ذكروا في علم المنطق أنه لا جامع بينها؟!
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي لا يعتمد كثيراً على فكرة الموضوع، بل نراه يميل إلى اعتماد أسلوبٍ آخر، هو مسألة المنهج، بمعنى أنّ كلّ علمٍ له منهجه الخاصّ الذي يميّزه عن العلم الآخر، فالمنهج في الرياضيات مختلف عن المنهج في التاريخ، والمنهج في الفلسفة غير المنهج في الفقه وهكذا، فالمنهج هو الذي يميّز العلوم، ويبني امتيازاتها، لا افتراض موضوع نغرق أنفسنا في البحث عنه، وقد لا نجده إطلاقاً.
وهذا الاتجاه يواجه مشكلةً حقيقيةً، ذلك أننا:
أ ـ نجد من جهة أنّ بعض العلوم المستقلّة عن بعضها متّحدة تقريباً في المنهج، فعلوم مثل الرياضيات، والمنطق، والفلسفة و.. تعمّد المنهج العقلي الصرف، كما أنّ علم التاريخ، وعلم التراجم، وعلم الرجال، تعتمد المنهج النقلي الوثائقي وهكذا، إذاً فكيف امتازت هذه العلوم رغم ما بينها من اشتراك جوهري في المنهج؟!
ب ـ إنّ بعض العلوم نستخدم داخلها أكثر من منهج، فعلم الكلام مثلاً نستخدم في بعض موضوعاته المنهج العقلي، كإثبات وجود الله تعالى، فيما نستخدم في موضوعات أخرى المنهج النقلي، كبعض مباحث النبوّة، والإمامة والمعاد، التي يعتمد فيها إما على التاريخ أو على وثائق النصوص من آيات وروايات، إذاً، فإذا كان المنهج مميّزاً للعلوم عن بعضها، كان من اللازم أن نفترض علم الكلام أكثر من علم، فكيف التأمت موضوعاته لتشكّل علماً واحداً، وقبل الجميع به كذلك؟!
الاتجاه الثالث: وهو الاتجاه الذي يعتقد بأنّ الموضوع ليس موضوع منهج ولا غيره، بل هو موضوع الغاية التي صُنع هذا العلم لأجلها، فعلم الكلام إنّما التأمت فيه هذه المناهج لأنّ غايته كانت دفاعيّةً، والدفاع عن الدين قد يفرض على المتكلّم استخدام منهج نقلي تارةً، وعقلي أخرى تبعاً للحاجات المتحرّكة في واقع الجدل الفكري داخل الأمّة، أو فيما بينها وبين الفكر الديني الآخر، ولولا عنصر الغاية هذا لما قام علمٌ مثل علم الكلام.
هذه صورة موجزة للغاية عن ملمح من ملامح جدلهم في هذا الموضوع أيضاً، وهناك ملامح أخرى تتصل بقضيّة العرض الذاتي والعرض الغريب في الدراسات الفلسفيّة والمنطقية، ويطول بينهم الكلام في تفاصيل أنواع الواسطة في الثبوت والإثبات والعروض وغير ذلك عند حديثهم عن موضوع علم الأصول، ونحن من بين هذين الاتجاهات الثلاثة نضع تعليقاً واحداً، وهو أنّه ليس من الضروري أن يكون العنصر الذي يضبط العلوم أمراً واحداً مثل المنهج، أو الموضوع، أو الغاية أو.. بل قد يتكوّن علم على أساس المنهج، وربما يكون للموضوع دور في علم آخر، فيما يكون للغاية دور في تكوين علم ثالث، ولا استحالة في ذلك، وعليه، فليس من الضروري إتعاب أنفسنا بهذا الموضوع هنا، بل تترك الاحتمالات مفتوحةً تتحرّك على أكثر من اتجاه.
على أنّنا نلاحظ على هذه الطريق التي استخدمها الأصوليون لدراسة مسألة موضوع العلم أنها تجريّدية مبالغ فيها، فالمفترض أن ننظر إلى واقع العلوم، ونسبر تطوّرها التاريخي، وهناك نطلّع على الأمر، بدل الجلوس في غرفةٍ مع التحليلات الافتراضيّة ذات الطابع الفلسفيّ التجريدي، فالعلوم لا تتكوّن من هندسات فلسفيّة فقط، بل للتاريخ دورٌ أحياناً، فعلينا رصد المسار التاريخي لفهم محوريّات علم من العلوم أيضاً إلى جانب المسار التحليلي. وليس هذا هو المهم لنا هنا، بل الأهم على صعيد علم أصول الفقه في هذه المسألة أن ننظر: كم نظّر الأصوليّون لموضوع العلم، وتمايز العلوم، وتعريفها و.. لكنّهم على أرض الواقع خلطوا علم الأصول بغيره ـ لاسيما علم المنطق والكلام والفقه والفلسفة ـ بشكل غريب، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، فلماذا إتعاب النفس في تحليلات تجريدية دون أن تكون لدى أحدنا الهمّة اللازمة والجرأة الكافية لتشذيب علم الأصول مما ليس من شأنه ولا من مهمّته، بل هو من شؤون الفيلسوف، أو المتكلّم، أو الفقيه، أو فيلسوف اللغة، أو.. أما أن يخاف كلّ واحدٍ من أقرانه، كي لا يُقال عنه: إنّه غير عميق في أصول الفقه؛ لأنّ العمق ينطلق عند هؤلاء من تعقيد العبارة، أو تجريد الموضوع، أو ترفية الفكرة، أو عدم وجود ثمرة عملية للبحث.. ذلك كلّه لا يجعل الإنسان في موقع المسؤوليّة الكبيرة إزاء الإسلام والفكر الإسلامي، فبدل أن نضيّع أعمارنا في موضوعات ـ تسمّى أصولية ـ لا محصّل من ورائها، ولا يحتاجها الفقيه، وإذا احتاجها فربما مرةً واحدة كلّ عشرين سنة.. علينا أن ننشغل بما هو أهمّ للفقه الإسلامي اليوم، وأن نزيل هذه العقد من نفوسنا، ونكون بحجم المرحلة لخدمة الإسلام، لا لخدمة موقعنا داخل المؤسّسة الدينية فقط.