السؤال: ما هو رأيكم في هذه العبارة التي طرحها بعضهم في محاضرته شريعة الله أم شريعة الفقهاء، حيث قال بأنّ شريعة الله تقوم على المولوية الأخلاقيّة، أمّا شريعة الفقهاء فتقوم على المولوية القانونيّة والمولوية العرفيّة، وأيّ مخالفة لهذه الشريعة فالعقوبة موجودة. من هنا نرى أنّ رجال الدين يكرّسون في الناس خوفاً من النار، فيجب علينا أن نصلّي وأن لم نصلِّ فإنّ الله سيضعنا في النار، وهكذا جميع التصرّفات المحرّمة، وما يجب أن نؤكّد عليه هو عدم الخوف من النار أو من الله، وذلك بأن نقول للناس: إنّ الله يقول لنا: إنّ علاقتي بكم كعلاقة الأمّ بطفلها، فالأم تقول للطفل: يا ولدي اشرب من لبني، من أجل أن يقوى عودك وتنضج، لكن في حال لم يستجب فإنّ الأمّ لن تضع طفلها في النار أو تضعه في ماءٍ مغليّ! إذاً إنّ أوامر الله تعالى هي نصائح تقوم على شريعة أخلاقية. ما هو تعليقكم على هذا الكلام؟ (أسامة، العراق).
الجواب: هذا الكلام فيه الكثير من المقدّمات المطويّة المختزلة، وبعضها لم يقم عليه برهان:
أولاً: إنّ مجمل الخلاصة التي يريد هذا الكلام أن يقدّمها مجرّد ادّعاء، فكما حقّ لصاحب هذا الكلام أن يدّعي بأنّ مولوية الله هي مولويّة أخلاقيّة، كذلك حقّ للآخرين أن يدّعوا بأنّ مولويّة الله هي مولويّة قانونية، كيف وظاهر الآيات القرآنية يقف لصالح الدعوى الثانية، فيما دعوى المولويّة الأخلاقية خاصّة لم يقم عليها شاهدٌ في الكتاب أو السنّة، ولهذا نحتمل أنّ صاحب هذا الكلام قد استدلّ على مدّعاه هنا ببحثٍ قد يكون عقده في مكان آخر، حملاً له على الأحسن، فلا نتهمه بأنّه يطلق الكلام جزافاً. مع أنّه كان من المطلوب منه أن يبيّن لنا: أين ومتى قال الله لعباده: إنّ علاقتي بكم هي علاقة الأم فقط، وليست علاقة الأم والأب معاً؟
ثانياً: إنّني أوافق المحاضر الموقّر على قوله بأنّ هناك دوماً ثقافة تخويف من النار عند بعض علماء الدين ورجاله، ولكن ليس رجال الدين هم الذين يكرّسون مبدأ ثقافة الخوف من النار، بل هو القرآن الكريم نفسه الذي كرّس هذه الحال، ومعه جملة من الكتب السماوية السابقة، واضعةً ـ إلى جانب مبدأ الخوف ـ مبادئ الرجاء والأمل والشوق والمحبّة، فلماذا نتّهم رجال الدين بدل أن نتّهم القرآن نفسه؟! وإذا اتهمنا القرآن مفترضين أنّه ليس وحياً إلهيّاً، فهذا يعني أنّ اكتشاف طبيعة علاقة الله معنا، وهل هي علاقة أمّ بأولادها بالطريقة التي ذكرها المحاضر الكريم، لن يتسنّى لنا إلا بكشف شهودي عرفاني أو بدليل عقلي، بعد فقدان النصّ الديني لقيمته العلميّة، وفي هذه الحال يمكن القول بأنّ كلّ كشف شهودي هو تجربة ذاتية للعارف لا ترقى إلى مستوى أن تكون معياراً علميّاً يطرح للتداول العامّ، كما أقرّ بذلك الكثير من العرفاء، ما لم ينضمّ إلى هذه التجربة عنصر إضافي آخر. وأمّا الدليل العقلي ـ مع أنّه لم يبيّن في النصّ المنقول عن المحاضر المحترم ـ فيمكن في تقديري أن يكون عبارة عن بعض الأمور التي أكتفي منها هنا بافتراض قبح التخليد في النار؛ لعدم تناسب التخليد مع طبيعة الذنب، الأمر الذي يجعل من القبيح عقلاً أن يخلّد اللهُ الكافرَ في جهنّم، فضلاً عن مستندات أخرى لبطلان الخلود الأبدي في جهنّم تعرّض لها غير واحد من الفلاسفة والمتكلّمين المسلمين، كما هو معروف. وفي هذه الحال، لو كان هذا هو المنطلق العقلي للمحاضر الموقّر فسوف نكون قد قفزنا من نقطة إلى نقطة أخرى بطريقة غير علميّة؛ لأنّ غاية ما تثبته الإشكاليات التي أثيرت على مسألة الخلود في النار هو استحالة الخلود فيها، وهذا لا يثبت استحالة أصل العقاب وقبحه، فلعلّ نظام التكوين خلقه الله لكي يعذّب الكافر والفاسق في جهنّم بشكل يكون هذا العذاب هو طريق التكامل له ليدخل بعد ذلك إلى الجنّة، تماماً كما هو نظام التكوين في عالم الدنيا حيث يعذّب الإنسان وتلاحقه الضغوط والمصائب والشرور والآلام، لكي يكون ذلك هو السبيل لتكامله ونضجه، وتماماً كما يؤدّب القانون المجرمين ليكون ذلك في سلامتهم المستقبليّة وسلامة أبناء نوعهم، فإذا قبح على الله ذلك هناك فكيف جاز عليه شرور هذا العالم؟ ولو جازت عليه شرور هذا العالم، فلماذا لم تجز عليه شرور ذلك العالم بالطريقة عينها، بعد استبعاد فكرة الخلود؟!
ثالثاً: ليسمح لي المحاضر الموقر بمداخلة تنتمي منهجيّاً إلى طريقة معالجة الكثيرين اليوم ـ ومنهم هو أيضاً ـ لقضايا الدين، وهي قراءة الفكر الديني من زاوية سيكولوجية وسيسيولوجية. إنّني أقدّم مقاربة متواضعة هنا، وهي أنّ هذا النمط من التفكير يمكن إرجاعه إلى رغبة الإنسان العربي بالرحمة، بعد أن عانى من القمع والظلم، وانعدام الشفقة والإنسانية، والقهر والتعذيب والإقصاء بمختلف أنواعها، من قبل السلطات السياسية والعسكرية والأمنية والدينية والمالية والإعلامية في عالمنا العربي والإسلامي. إنّ هذه الرغبة تشبه تماماً ما حصل في الغرب عقب الحروب الكونيّة، رغبة في إنتاج نظام فكري لا يفضي إلى إحساسي بالألم النفسي والجرح العاطفي. إنّها صناعة متميّزة لثقافة الجمال والتذوّق، والتي تجعل من رؤية العقاب أمراً سلبيّاً. ما أقدّمه في هذه المقاربة المفترضة هو أنّ الكثير من هذه الأفكار ـ لاسيما عندما لا نراها مرفقةً بدليل أو معطى أو شاهد ـ ناتج عن رغبة الإنسان العربي في الفرار من الألم، وتوقه إلى الرحمة والحنان والرقّة والعطف، ولهذا بات يتذمّر من الإله القويّ؛ لأنّه يذكّره بالسلطان المستبدّ، ويتذمّر من الإله المعاقِب؛ لأنّه يذكّره بالسلطة الديكتاتوريّة، ويتذمّر من الدين كلّه لاسيما الفقه منه؛ لأنّه يضع أمامه قيوداً، وهو توّاقٌ لكسر القيود المزروعة فيه وحوله على امتداد عقودٍ وقرون. إنّني أدعو إلى معالجة قضايا الدين بعيداً ـ قدر الإمكان ـ عن هذه التيارات النفسية والروحية التي تسحبنا هنا وهناك كتيّارات المياه في أعماق البحار، وأن نفكّر من الأعلى. كما أدعو بصدق لكي ندرس قضايا الدين وغيره من زاوية عقلانيّة خارجيّة وداخليّة، لا من زاوية جماليّة فقط؛ لأنّ الزوايا الجمالية تصطنعها لنا وسائل الإعلام منذ طفولتنا، فتدفعنا لحبّ أشياء وتذوّق جمالها والنفور من أشياء وتذوّق مرارتها. أهيب بالمفكّرين المسلمين والعرب أن نتخطّى جميعاً هذا السياق للتفكير بطريقة أكثر عمقاً وجدّية، مع احترامي وتقديري لكلّ الجهود النقدية والجريئة في فهم الدين وتقديم قراءات متعدّدة له.