السؤال: ما هو تفسيركم للغموض في بعض روايات أهل البيت، مثل الأحاديث التي تتحدّث عن أسرار آل محمد وحرمة إفشائها أو أنّ حديثهم صعب مستصعب، مما يظهر وجود بعض العقائد المخفيّة لدى الأئمة عليهم السلام وخواصّ أصحابهم، والتي أظهرها المنحرفون عنهم مثل أبي الخطاب وبعض الغلاة؟ (حسن).
الجواب: لقد تعرّضت في كتابي (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بالتفصيل لما سمّيته مبدأ البيان الديني ومبدأ الكتمان الديني، وذكرت هناك عشرات الآيات والروايات حول موضوع الكتمان والبيان، وخرجت بالنتائج التالية فيما يخصّ روايات الكتمان والإخفاء ـ بعيداً عن نصوص التقيّة ـ:
أ ـ إنّ أغلب هذه الروايات ضعيف السند، بل في بعضها ورد أشخاص مضعّفون، وفي بعضها ورد أشخاص اتهموا بالغلو والباطنيّة، وهذا ما يضعّف جانب الوثوق بجملة من هذه الروايات؛ لما قلناه من أنّ التيارات ذات النزعة الباطنية والمغالية ـ إضافة إلى الكذابين ـ يناسبها أن تروّج لمثل هذه الروايات حتى يقولوا: إنّ الأسرار التي نقولها لكم لم يكشفها أهل البيت إلا لعدد قليل من الناس ونحن منهم، فلا يحقّ لكم تكذيبنا.
ب ـ إنّ مجموعة لا بأس بها من هذه الروايات وردت في سياق الحالة السياسية القمعية التي كانت تمارس ضدّ الشيعة؛ ويظهر من لسان الروايات وقرائنها وجود هذه الحالة لحماية الأئمة وأصحابهم من القمع والغارة، فلا تكون الأسرار غير نفس إمامتهم ولوازمها.
ج ـ ثمّة جملة وافرة أخرى من الروايات يلاحظ أنها تنهى عن النشر بعنوان ثانوي، وهو عدم تضرّر الطرف الآخر من إلقاء المعرفة عليه أو أن يساء استغلالها بما يؤدّي إلى إنتاج عكس المطلوب؛ وإلا فالقاعدة هي نشر العلم وليس كتمانه، وربما هذا هو المقصود بمن هو أهلٌ لهذه العلوم ومن ليس بأهل لها، كما جاء في بعض الروايات، فإنّ من هو أهلٌ هو من لا تترك هذه العلوم أثراً سلبياً عليه أو لا يقوم بأذية الحقيقة عند معرفتها.
من هنا، نجمع بين هذه الروايات بأجمعها وبين روايات حرمة الكتمان إلى جانب النصوص القرآنية بأنّ الأصل والمبدأ والقاعدة هي نشر الدين وعدم إخفاء أيّ شيء منه مهما كانت المبررات، ما لم يطرأ عنوان ثانوي قاهر ومقصد شرعي سامٍ مثل الخوف على المؤمنين والمصالح الإسلامية والإيمانية العظمى، ومثل أن تترك المفاهيم المنشورة تأثيرات سلبية قاتلة على من تنشر في أوساطهم، من هنا لا يهدر المبدأ لأجل وجود استثناءين، وإنما يؤكَّد ويكون الاستثناءان دليلاً على ضرورة استخدام الأساليب العقلائية في نشر المبادئ الدينية بما يخدم هذه المبادئ.
وفي هذا السياق يجب فهم بعض الإطلاقات الواردة في نصوص تجويز الكتمان أو الأمر به، وإلا كانت معارضةً للآيات وسائر الروايات وثقافة الأنبياء، وإلا فهل مبدأ التحديث بما يعرف الناس والستر لما ينكرون ـ كما جاء في بعض الأحاديث ـ هو مبدأ أولي، والحال أنّه يعارض كلّ مشاريع الأنبياء الذين علّمنا القرآن سيرتهم حيث حدّثوا الناس بما ينكرون ثم طلب منّا القرآن أن نقتدي بهم ونتبع سيرتهم؟! إذا لم نفهم هذا المفهوم والثنائي (المعرفة/الإنكار) ضمن سياق شرح آليات عقلانية لنشر الحقائق تحمي الإيمان والجماعة المؤمنة، فكيف نفهم كلّ هذا السرد القرآني لقصص الأنبياء والرسل؟ وهل مواقف الناس من الحقيقة هي معيار نشرنا لها أم لا؟
هذا فيما يتعلّق بأصل الكتمان لحقائق الدين والنصوص التي تتحدّث عن كتمان الأئمة أو دعوتهم لكتمان بعض الأفكار، والتفصيل يمكن مراجعته في كتابي السالفة الإشارة إليه. أمّا الروايات الواردة في أنّ حديثهم صعب مستصعب فهناك خلاف في قيمة هذه الأحاديث حيث لم يصحّح بعض علماء الرجال المعاصرين ـ وهو الشيخ آصف محسني حفظه الله ـ أيّ رواية من هذه الروايات سنداً، فيما المشهور تصحيح بعض هذه الروايات، فضلاً عن كثرتها. والبتّ فيها يحتاج لدراسة واسعة ليس مجالها هنا، وذلك لتحليل الفرص الإثباتية الصدورية تارة، وتفكيك مضمون هذه النصوص ومحتملات دلالاتها أخرى.