السؤال: ما رأيكم فيما يقال بأنّ هناك من يوظّف بعض نصوصكم وآرائكم لخدمة مشروعه، كما نرى في بعض المنتديات، وربما القنوات الفضائيّة المعادية لمذهب أهل البيت عليهم السلام؟
الجواب: أعتقد بأنّ علينا أن نتجاوز هيمنة هذا النمط من التفكير، ليس من موقع أنّه غير صحيح، بل من موقع أنّه غير منتج بل معيق، فتوظيف النصوص من قبل شخص لمصلحة ذاتية أو فئوية أو مذهبيّة هو أمر عام قد يحصل مع أيّ كاتب أو باحث أو مفكّر أو عالم، فها هو القرآن الكريم يذكر لنا أنّ الذين في قلوبهم مرض وزيغ ولهم مصالح فاسدة وميول باطلة يستغلّون بعض نصوصه لكي يلعبوا عليها في مواجهة الحقّ، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْباب) (آل عمران: 7)، فالآية لا تقول بأنّ ما تشابه من آيات القرآن هو في حدّ نفسه باطل أو فتنة، أو أنّ اتّباعه باطل وفتنة، بل تقول بأنّ الغاية التي قام من أجلها الآخرون في توظيفهم المنقوص للنصّ القرآني، كانت الفتنة والفساد والضلالة، فالنصّ القرآني نفسه لطالما كان عرضة لتوظيف أصحاب الميول الفاسدة، فلماذا جاء القرآن الكريم على هذه الشاكلة؟!
وإذا ذهبنا ناحية نصوص العلماء، فأنت اليوم تجد أنّ عشرات علماء الشيعة السابقين والمعاصرين وآرائهم وفتاويهم يتمّ توظيفها في فضائيّات مذهبية غير شيعيّة وبالعكس، فهل معنى ذلك أنّهم وقعوا في الخطأ فيما قالوا لمجرّد أنّ شخصاً يريد اليوم أن يوظّف نصّاً من نصوصهم هنا أو هناك لخدمة مصالحه ـ فيقتطعه عن سائر النصوص، ولا يتعرّض للنصوص الأخرى التي لا تكون لصالحه ـ وأنّ عليهم أن يكفّوا عن قول ما قالوه؟! ثم ماذا يحصل لو استغلّ شخص في مقالة أو مقطع تلفزيوني نصاً هنا أو هناك، رغم أنّه مهما فعلنا فهو سيعثر على نصوص من التراث شئنا أم أبينا، فهل سينهار المذهب الإمامي؟ إنّها معركة في نهاية المطاف ومهما فعلت فستجد من يشتغل على توظيف نصوص. إنّ قناعتي هي أنّ الحقيقة اليوم تحظى غالباً بقدسيّة أكبر من قضايا الخلاف المذهبي أو الخلاف العلماني الإسلامي.
إنّني أعتقد بأنّ الاحتياط حسنٌ من حيث المبدأ، وعلينا أن نمارسه في فضاء غير صحّي كفضائنا المعاصر، وبالنسبة لي شخصيّاً فأنا أمارسه بالفعل (أقول هذا للإطلاع فقط)، وأؤمن به جدّاً، وأرى ضرورة اليقظة والحذر، لكنّ الاحتياط الذي يفضي إلى سياسة التكتّم على الحقيقة أو تأجيل المشاريع النقديّة والإصلاحيّة والتجديديّة بحجّة أننا في وضع حرج، وأنّنا في سياق صراع مذهبي جدلي أو في سياق صراع فكري جدلي كالصراع العلماني الإسلامي أو الصراع الإمامي السلفي، هو احتياط مرفوض، فنحن بحاجة لتجاوز هذه المرحلة تماماً، والتعالي عن الاعتقاد بأنّ المشكلة الوحيدة هي مشكلة هذه الفضائيّات أو هذا الشخص الذي يتصيّد كلمةً هنا وأخرى هناك، وإنّما هناك مشاكل كبيرة أخرى أيضاً، وإذا كنت أنت ترى هذه هي أعظم مشكلة فإنّ للآخرين وجهة نظر أخرى في هذا المجال، بل لعلّه يمكنني أن أذهب على عكس تصوّركم، وهو أنّ مثل هذه النصوص أو بعضها قد يُحدث انقساماً في الرأي العام المخالف، ليرى أنّ أبناء هذا المذهب أو ذاك ليسوا بأجمعهم على نسق واحد، وأنّه يجب التمييز بينهم، وهذا مقصدٌ جيّد أيضاً في سياق إفحام الخصم أو إرباكه، وكذلك في سياق تحقيق التقارب بين المسلمين، وأنّ علينا نحن أن نستغلّ هذا الأمر بعكس استغلال الطرف الآخر له.
إنّ هذه الطريقة في التفكير هي طريقة الزعماء العرب ـ والكلام للتمثيل فقط ـ التي لطالما حدّثونا عنها، فلطالما كانوا يقولون بأنّنا نعيش الصراع العربي الصهيوني، وأنّ على كلّ الناقدين لأوضاعنا الداخليّة تأجيل الخلافات الداخليّة والنقاش الداخلي إلى حين نتمكّن من التصدّي للعدوّ حتى لا يستفيد العدوّ من خلافاتنا، ولكن ماذا أنتج هذا المنطق بعد أكثر من نصف قرن غير تعطيل حركة الإصلاح والنقد والتطوير في العالم العربي وشيوع الاستبداد؟! وهكذا في الداخل الديني أو المذهبي ومنذ مدّة، يقول بعضهم بأنّ علينا أن نتوقّف عن النقد الداخلي أو الإصلاح الداخلي؛ لأنّ الآخر قد يستفيد من هذا الأمر، أمّا عندما يتعرّض أنصار هذا التفكير أنفسهم للخطر في أفكارهم فإنّهم لا يهتمّون كثيراً بما سيعكسه تصرّفهم عند الآخرين، فعندما يقوم شخص بنقد فكرة معيّنة يقولون له بأنّ عليك أن تراعي الجوّ العام، حتى لا يستفيد الآخر من كلامك، لكنّهم عندما يريدون الدعوة إلى أفكارهم أو نقد فريق آخر في الداخل المذهبي مخالف لهم، فهم لا يأبهون بهذا الآخر المذهبي، مع أنّه قد يأخذ أقوالهم وتصرّفاتهم مادّةً دسمة للنقد على مذهبهم وفريقهم، فعندما تقول لهم بأنّ الفعل الفلاني يشوّه صورة المذهب عند أبناء المذاهب الأخرى، يقولون لك بأنّ الحقّ يجب أن يُتّبع ولا يهمّنا ما يقول الآخرون، فهل نهتم لما يقولونه في الرجم في الحجّ؟ وفي غير ذلك؟ إنّ علينا تقوية المذهب حتى لو كانت هذه الأمور يستغلّها الآخرون بطريقة غير أخلاقيّة، لكن عندما يصير (الدور) إلى الحركة النقديّة وتبدأ تطلق أفكاراً هنا أو هناك تراها حقّاً، وترى فيها إصلاحاً لأوضاع المذهب أو التيار أو الفريق أو الدين عامّة، وترى أنّها أهم بكثير من هذا الفعل أو ذاك، خلافاً لما يراه الفريق الآخر، فهم هنا يهتمّون كثيراً لما سيقوله الآخر عن المذهب، ويقولون لك: انتبه! لا تقل ما يمكن للآخر أن يستغلّه لتشويه صورة المذهب! عندما ينشغلون هم ليلاً ونهاراً في الطعن على بعض الصحابة وأمهات المؤمنين ويكتبون الكثير في هذا ممّا يستغلّه الطرف الآخر بالتأكيد، فهم لا ينتبهون لكون بعض هذه الأفكار قد جعل منها الطرف الآخر جداراً بين المسلمين وبين مذهب أهل البيت عليهم السلام، أمّا عندما نقول نحن كلمة في نقد حديث أو فكرة، فإنّهم يصوّرون المشهد على أنّه تضعيف للمذهب أمام الآخرين، بحيث سيستغلّ الآخرون ذلك أمام الرأي الإسلامي العام! إنّهم قد لا يلتفتون إلى أنّ أكثر المواد دسومةً فيما ينشره الإعلام المذهبي المضادّ هو كلماتهم وتصرّفاتهم التي ينشرها ذاك الإعلام نفسه ـ وبكلّ ثقة ـ طعناً على المذهب الإمامي، لكنّ الصدور قد تضيق بفكرة أو مقالة أو وجهة نظر طُرحت من باحث أو كاتب وجرى استغلالها هنا أو هناك، ضمن مساحة ضيّقة، نتيجة بترها عن سائر النصوص.
كما يهمّني أن أشير إلى أنّ بعض الناس يشعر بالإحراج من الكشف عن حقيقة معيّنة مذهبيّة؛ لأنّها تبطل أو تحرج تصوّرهم عن التشيع، ولكن من قال بأنّ تصورهم عن التشيّع يؤمن به الناقد أساساً، فعلينا أن لا نحمّل الآخرين ذلك، فنقد المذهب الآخر قد يكون نقداً لهذه الصورة عن التشيّع وقد نوافقه فيها، فإذا كان ينتقد تصوّرك الذي لا أؤمن به، فلستُ ملزماً بأن أراعي نقده دائماً.
أعتقد أنّ الموضوع هو تشخيص حالة، وقناعتي بأنّ الاستسلام للجدل المذهبي القائم اليوم والذي لا نؤمن نحن به أساساً، وتأجيل مشاريعنا النقديّة والإصلاحيّة والفكريّة ـ كلّ بحسب قناعته التي يرى أنّه مبرأ الذمّة بينه وبين الله فيها ـ هو استسلام من تيار النقد أمام وقائع فرضها المخالفون له أساساً، فأنتم فرضتم أو ساهمتم في هذا الخلاف المذهبي، ونحن بالأصل ما كنّا مقتنعين به، نحن لم نكن مقتنعين بالذهاب من الأوّل إلى هذه القناة أو تلك من فضائيّات بريطانيا للمشاركة في الجدل المذهبي فيها، وقد حذّر من ذلك بعض الرموز الدينية والجهاديّة في حينه، لكنّكم أنتم شاركتم بهذا الجدل الواسع وعبر برامج حامية على الفضائيّات في تنشيط هذا الأمر، ونحن من البداية ما كنّا مقتنعين بالدخول بهذه الطريقة لمعالجة هذا الموضوع، مهما كانت قويّة التخدير على الرأي العام، لتشعره بنشوة الحرب والانتصار أو بألم الخسارة هنا أو هناك، وهو يحسب أنّه يخوض معركته، ولا يدري أنّه يخوض مع خصمه معركةً يريدها خصم ثالث أكبر منهما، وكنّا نعتبر ذلك استدراجاً للوقوع في فخّ توتير الأجواء الطائفيّة في المنطقة، ونقضاً للأولويّات الزمنيّة، وسعياً من المطابخ الدوليّة لطبخ المنطقة على نار هادئة ترتفع وتيرتها بالتدريج، وأنّ ما حصل ويحصل هو اختلال كبير في (البوصلة)، وأنّ الحرب الثقافية المفروضة تسمح لنا بالدفاع عن أنفسنا بطريقة أخرى غير هذه الطرق الحماسيّة عبر الفضائيات ومواقع الشبكة العنكبوتيّة، نظراً لحساسية الوضع الحالي، رغم أنّ موقفنا هذا اعتبره ويعتبره بعض المتحمّسين تخاذلاً وخيانةً للدين.. ومع هذا كلّه تريدون منّا الآن أن نوقف كلامنا ومشروعنا لأجل أنّ كلامنا يحرجكم أنتم في هذا النوع من الخلاف المذهبي الذي لا نؤمن نحن به أساساً، هذا المنطق أعتقد أنّه غير سليم بدرجة معيّنة، وعلى كلّ شخص أن يقول ما يراه الحقّ من حيث المبدأ، مع قناعتي ـ وأكرّر ـ بوجود مساحة محدّدة ينبغي مراعاتها في الكلام آخذين بعين الاعتبار مختلف الأجواء المحيطة ولو لم نؤمن بها، على أن لا تسمح هذه الحدود بتعطيل مشروعنا وحركتنا أو وضعها في مرحلة تأجيل أو في الثلاجة.
لقد كنّا وما نزال بحاجة إلى عقول استراتيجيّة تملك خبرة وعلم المستقبليات، لتنظر ما فائدة مثل هذه الحروب الثقافيّة في المرحلة الراهنة وهي توقع الأمّة في جدال التاريخ لتعطّلها عن النهوض بالحاضر؟ لو كانت العقول الاستراتيجيّة والمستقبليّة حاضرة ونافذة ويسمح لها بالتأثير لربما تمّ خوض هذه الحرب الثقافية بطريقة أخرى أكثر خبرةً وتكتيكاً وتفويتاً للفرصة على الآخرين، كان ينبغي أن تجلس العقول كلّها للبحث في الآليات الأفضل لخوض هذه الحرب الثقافيّة، قبل الانجرار الحماسي العفوي للمشاركة فيها بهذه الطريقة، (وكلامنا بالتحديد عن الطريقة التي تخاض فيها هذه المعركة الثقافية)، ولكنّ العقول السياسيّة والبراغماتية ـ بالمعنى الإيجابي للكلمة ـ تظلّ وسط الحماس أقرب إلى الخيانة في تصوّر الرأي العام منها إلى الصدق والحرص والإخلاص!
ولابدّ لي أن أشير أخيراً ـ كي لا اُفهم خطأ ـ إلى أنّني لا أبرّر بما أقول أيّ طريقة نقديّة لبعض القضايا الداخليّة المذهبية أو الفئويّة، بل إنّني أرفض تماماً ـ في مرحلتنا هذه على الأقلّ ـ سياسة البعض التي تعتمد إطلاق القنابل الصوتية أكثر مما تعتمد الممارسة العلميّة الهادئة. إنّني لا أبرّر هذا الأمر، ولا ألتمس عذراً هنا لكلّ من أراد ممارسة النقد بأيّ طريقة كانت، وإنّما أتكلّم عن المبدأ في القضيّة، والانتباه لعدم التضحية بالمشروع الفكري تحت مثل هذه الشعارات أو المخاوف.
وخلاصة فكرتي:
أ ـ أنا أوافق على مبدأ الاحتياط هنا، لكنّني أختلف في تحويله إلى عنصر معيق لحركة النقد والإصلاح والتطوير أو لأصل حريّة التعبير.
ب ـ إنّ الآخر قد يستغلّ الكثير من الكلمات هنا وهناك، لا لأنّ قولها لم يكن صحيحاً، بل لأنّك مهما قلت فسوف تجد من يبحث عن الاستغلال في كلماتك، في ظلّ أجواء موتورة بالأصل وبيئة غير صحيّة، وعليك أن تكون محتاطاً لا أن تكون وسواسيّاً، وقد رأينا وعايشنا كثيرين ضحّوا بكثير من أفكارهم ورؤاهم ومشاريعهم لأجل مراعاة الوضع القائم، وخوفاً من استغلال كلامهم هنا أو هناك في الداخل أو الخارج، ولا نريد أن يكون الجيل الصاعد نسخةً عن هذه التجربة التي أحبطت كثيرين.
ج ـ إنّ ما قلتُه لا يبرّر مطلق أساليب النقد وموضوعاته، بل أجدني متحفّظاً جدّاً على بعض الأساليب، وقد سبق لي أن تحدّثت مراراً عن الطرق الأفضل للنقد في مرحلتنا الراهنة، والله أعلم وأحكم.