السؤال: ما هو الفارق بين الحريّة التي يدعو إليها الإصلاحيّون والحريّة التي يدّعيها المحافظون في الإسلام؟ وما الفارق بين الحريّة التي يدعو إليها الإِسلام والحريّة التي ينادي بها الغرب؟ (عبد الله).
الجواب: تختلف جهات الاختلاف بين الغرب والإسلام، وبين التيارات الإسلاميّة نفسها، في هذا الموضوع، وذلك:
أولاً: الحريّة في الغرب مفهوم يتعالى عن النصّ الديني، فهو يرى أنّ قرار كلّ إنسان بيده، وأنّه ما من شيء يُلزم الإنسان إلا قناعاته الذاتية أو قناعاته المجتمعيّة في حدود حريّة الآخرين وحقوقهم، فللإنسان الحقّ في اختيار أيّ سلوك أو دين أو عقيدة، شرط أن لا يتنافى مع حريّة الآخرين وحقوقهم وفقاً لعقدٍ اجتماعي عام.
أمّا في الإسلام، فليس من حقّ الإنسان أن ينحرف عن الدين الصحيح، هذا ليس حقّاً له، بل من الواجب عليه أن ينضوي تحت لواء الدين الصحيح ويعمل بما تمليه عليه إرادة السماء وليس إرادته الشخصيّة ورغباته وقناعاته الخاصّة، فلا تنفتح حريّته على التعالي عن النصّ الديني، بل هو متعبّد بهذا النصّ خاضع له كخضوع الغربيّ للقانون الآتي من العقد الاجتماعي، فليست لي الحرية في الكذب على الله ورسوله، ولا في الزنا، ولا في شرب الخمر، ولا في ترك الصلاة، بل أنا ملزم بتطبيق ما أمرني الله به، ولا أستطيع أن أقول لله بأنّني أختلف معك في وجهة النظر، فلا أريد أن أقوم بما تريده منّي؛ لأنّ لي الحريّة في ذلك.
الحريّة في المفهوم الغربي هي التي تصنع القوانين والتشريعات والدساتير والأعراف والثقافة، أمّا الحريّة في المفهوم الإسلامي فيصنعها الشرع والقانون وتخضع لهما.
هذا التمايز في الحريات يرجع إلى علاقة الإنسان بذاته وعلاقته بربّه، لكنّ هذا كلّه شيء، ومسألة هل يمكن لأحد من الناس أن يفرض عليّ الالتزام بالدين الذي لا أؤمن به أو أنّني أؤمن به لكن لا أريد تطبيقه.. شيء آخر، ففي الحالة السابقة كان خلافنا مع الغرب حيث الإنسان هو المحور في كلّ شيء، وحيث القرار بيده في كلّ الأمور، في مقابل الله الذي لا يعدو أن يكون مجرّد فكرة أو وجهة نظر، على خلاف الحال في الإسلام حيث المحور هو الله، والإنسان هو الكوكب الذي يدور في فلك الله تعالى، وقيمة الإنسان في عبوديّته لله ودورانه حول فلكه، لا في دوران الأفلاك حول الإنسان نفسه، بل إنّني قلت في أكثر من مناسبة بأنّ الثقافة الغربيّة هي نوع من تأليه الإنسان، وهي جعل الذات الفرديّة والجماعية إلهاً يُعبد من دون الله، فما تقوله أو تريده هذه الذات فهو المسموع، وهي التي نوجّه كلّ الاهتمام إليها لتظلّ مرتاحة تعيش اللذة والسرور، أمّا الله فهو تفصيل.. هو فكرة قد تنفع وقد تضرّ، ونحن نقترب منها أو نبتعد عنها تبعاً لمدى فائدتها لنا أو ضررها بمصالحنا ورغباتنا القائمة على الحريّة.
عندما نريد أن نكرّس مفهوم التوحيد في العصر الحاضر، فإنّ أهم وظيفة للتوحيد اليوم هو الدعوة للتحرّر من كلّ القيود والآلهة، بما فيها الإله الإنساني، لاسيما بشكله الحديث الآتي من الغرب، فالله هو محور حياتنا وكل قضيّتنا، هذا هو الإيمان الديني.
طبعاً، هذا لا يعني أنّ الإنسان لا قيمة له، وليس هذا بمبرّر لهدر حقوق الإنسان وحرمته، بل هذا يعني ترتيب أحجار البناء الكبير، حيث يقف الله سبحانه في الأعلى مشرفاً ومهيمناً.
هذا وجه من وجوه الخلاف مع الغرب في قضيّة الحريّة، حيث الله مستبعد من البنية الفكرية الغربيّة، وإذا جاء فهو تفصيل يهدف منه خدمة الإنسان في الدنيا، والمقصود بخدمة الإنسان هو الإنسان الذي يريده الغرب بكلّ معانيه عنده.
ثانياً: لكنّ وجه الخلاف الرئيس بين التيارات الدينية حول قضيّة الحريّة، لا يكمن هنا، خلافاً لمن يصوّر دعاة الحريّة في العالم الديني بأنّهم أتباع الغرب ومقلّدةٌ له في كلّ ما يقول؛ لأنّ ما يسمى بتيّار الإصلاح الديني في العالم الإسلامي يرى كثير من رجاله أنّ الله هو المحور، وأنّ إرادتنا مقهورة لإرادته وأنّنا محكومون للنصوص الدينيّة، وأنّه يجب علينا طاعتها رغبنا أم لم نرغب واقتنعنا بها أم لم نقتنع.. فجهة النظر إلى موضوع الحرية عندهم ليست هذه، بل هي أنّه مع صحّة كلّ ذلك وإيماننا به، هل يمكن أن نُلزم نحنُ البشر سائرَ الناس بالدين قهراً عليهم، أم أنّ السبيل هو الإقناع؟ هل يمكن أن نفرض على الناس دولةً دينية تطبّق شريعة الله قهراً عنهم؟ هل يمكن أن نتوسّع جغرافيّاً فنقتل من لا يؤمن بالإسلام ونحتلّ أرضه رغماً عنه دون أن يكون قد اعتدى علينا؟ هل يمكن ممارسة العنف لغرض إقامة الشريعة والحدود والقوانين رغم أنّ الناس ـ عصياناً وتمرّداً على شرع الله ـ لا تريد هذا؟ هنا نقطة الخلاف في الداخل الإسلامي، وهنا توجد عدّة اتجاهات أبرزها ثلاثة:
الاتجاه الأوّل: وهو يرى أنّ الشريعة يجب أن تقوم، وأنّ الحكم بغير ما أنزل الله كفرٌ، وأنّ رغبة الناس لا قيمة لها، فيجب فرض الدين عليهم حيث لا يخضعون له بإرادتهم؛ لأنّهم عصوا الله في تمرّدهم هذا، ويجب إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، فلا قيمة لرأي الناس في الدين أبداً، بل يجب تطبيق الدين رغبوا بذلك أم رفضوا.
الاتجاه الثاني: وهو يرى نفس الرأي الأوّل، غايته أنّه يعتقد بأنّ ترك الناس للدين وعدم رغيتهم بتطبيقه لا يسلبنا الحقّ في تطبيقه، لكنّه يعرقل تطبيقه عمليّاً، وهؤلاء يرون أنّ التطبيق القهري للدين وإن كان في نفسه أمراً مشروعاً، لكنّه مضرّ بالدين نفسه إمّا دائماً أو في بعض الحالات، فما لم يكن للدين مقبوليّة عامّة، فإنّ تطبيقه القهري سيرتدّ ضرراً على الدين، ولهذا نحن نحتكم إلى القبول العام بالدين، لا لأنّ قبول الناس هو الذي يُعطي الشرعيّة للدين؛ بل لأنّ قبولهم هو الذي يمكّننا ـ عملياً وميدانياً ـ من تطبيق الدين بطريقةٍ لا تضرّ بالدين نفسه.
الاتجاه الثالث: وهو الاتجاه الذي يرى أنّ الله نفسه وشريعته وكتابه حكموا علينا بعدم تطبيق الدين على الآخرين بالقوّة والجبر والإكراه، ما لم يدخل الآخرون في عقدٍ اجتماعي مع بعضهم يتوافقون فيه على تطبيق الدين، فإذا حصل هذا العقد الاجتماعي ـ كما حصل في المدينة المنوّرة في العصر النبوي مثلاً ـ فإنّ الدين يمكن تطبيقه قهراً؛ لأنّ تطبيقه هو تطبيقٌ لمفهوم معجون بالإرادة، فالدين مفهومٌ يمسّ القلب والعقل والوجدان قبل أن يمسّ الجسد والبنيان، فما لم تكن هناك إرادة شعبية عامّة فيه، فلا يمكن فرضه، وهذا أمرٌ مشرّع من الدين نفسه لا منّا نحن.
وبناء عليه، فالتيارات الإصلاحيّة في أغلبها لا ترى الدين أمراً هامشيّاً أو مرفوضاً أو أنّه يمكن للإنسان أن يتحرّر منه، لكنّها في الوقت عينه تتحفّظ كثيراً على إلزام الإنسان لأخيه الإنسان بالقيم الدينية إلزاماً قهريّاً إجباريّاً عندما يتمرّد أخاه عليها، فهناك فرق واضح بين الأمور يجب التنبّه له، حتى لا نسوق الكلام بطريقة تخلط الأوراق ببعضها، فعندما يتمرّد الأخ على الدين فهذا ليس من حقّه، وعليّ أن أوضح له، وعليّ أن أهديه للحقّ، واُنكر عليه ما فعل، لكنّ هذا لا يعني أنّ من حقّي أن أقهر تمرّده واستخدم العنف ضدّه بمجرّد أنّه تمرّد، بل استخدام العنف (جهاد دعوي ـ إقامة القوانين الجزائيّة والجنائيّة ـ العنف في الأمر بالمعروف ـ العنف والقهر في إقامة الدولة الإسلاميّة و..) لا يمكن، ما لم نُدخل القيم الدينية ضمن عقد اجتماعي، به نستطيع إلزامَ بعضنا بما تعاقدنا عليه، فلاحظ جيداً.
كما ترى عيني القاصرة ؛ فهنالك موضوعان منفصلان : ١ حرية الإنسان ، وهذا الموضوع ناظر لحق الإنسان بين يدي غيره من الناس ، ٢ حق الله ، وهو موضوع لا علاقة له بالحرية أساسًا .
وما لم يحرر محل النزاع ، فربما يختلف الطرفان وهم متفقون واقعًا .