السؤال: ما المقصود بقاعدة التسامح في أدلّة السنن؟ وأين تلتقي أو تختلف مع (رجاء المطلوبية)؟ وهل لهما آثار سلبية على الواقع الاجتماعي كما نسمع؟
الجواب: أولاً: تعني قاعدة التسامح نوعاً من التساهل في التدقيق في أمر الروايات التي لا تحتوي على نصوص إلزامية من واجبات ومحرّمات، فإذا جاءت رواية تتحدّث عن مستحب لم يبلغ حدّ الوجوب والإلزام، فإنّ فريقاً من العلماء لا يبذل جهداً في البحث عن مصدرها وسندها وتحديد فرص صدورها وعدمها، والبحث في إثباتها التاريخي، أي أنّ تلك الشروط التي درسها العلماء في مباحث أخبار الآحاد وفي علم الحديث والدراية يتنازلون عنها عندما يكون مضمون الخبر أمراً غير إلزامي من مستحب أو مكروه، وحيث كانت المستحبات والمكروهات سنناً لا إلزامات، أطلق على هذا المنهج اسم: قاعدة التسامح في أدلّة السنن. وحيث جاء في الروايات التي اعتبرت مستنداً لهذه القاعدة عبارة (من بلغه)، سمّيت القاعدة بقاعدة (من بلغ) أو (من بلغه) وسمّيت رواياتها بأخبار (من بلغ).
ولهذا السبب لا نجد الكثير من الفقهاء يبحثون في إثبات استحباب هذا الأمر أو ذاك، ولا يحقّقون فيه، لأنّهم يرون أنّ الأمور غير الإلزاميّة تبقى ذات شأن سهل. نعم، ربما تقع المستحبات محلّ اهتمام بالغٍ في حالات، منها:
الحالة الأولى: أن تكون من المختلف فيه، وأنه واجب أو مستحب، فيهتمّ العلماء بدراستها، ويتحوّل درسها باستمرار إلى موضوع معتنى به عبر الزمن، حتى لو كانت النتيجة قد استقرّت لاحقاً على الأخذ باستحباب هذا الشيء، ومن هذا القبيل غسل الجمعة.
الحالة الثانية: أن تكون من القضايا ذات الخلاف المذهبي، بحيث يغدو البحث فيها معلماً من معالم خلاف المذاهب الإسلامية، ومن المتوقع جداً في هذه الحالة أن يتطوّر درسها ويتركّز البحث فيها، انطلاقاً من صيرورتها مركزاً مذهبياً تعبّر فيه المذاهب عن ذاتها أخذاً أو ردّاً، ومن هذا النوع مؤخّراً البحث في استحباب الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة.
وفي غير هذه الحالات، نرى أن ضعف أهمية إثبات أنّ فعلاً ما مستحب أو غير مستحب يمكنه أن ينتج تلقائياً درجة أضعف من التحفّظ والتشدّد العلمي، لاسيما تلك المستحبات التي لا يحتاج حُسنها إلى دراسة وبحثٍ للوهلة الأولى، مثل إكرام الضعيف، أو الدعاء، أو بعض الصلوات أو الزيارات المرغب فيها، أو..
لا يجب الاستهانة بحضور قاعدة من هذا النوع في العقل الاجتهادي، ومدى تأثيراتها على مجمل النشاط العلمي، لاسيما بعد أن نلاحظ كيف أخذت اتساعاً هنا وهناك، بل نجد أن من أنكر هذه القاعدة تورّط هو أيضاً في تأثيراتها، فأن تتجاهل الممارسة النقدية للنصوص الحديثية غير الإلزامية، وخصوصاً على بعض الأقوال، معناه أن تتدفق عليك آلاف الأحاديث لتغدو معتبرةً تملك حضوراً وفعالية في إنتاج الأفكار والمفاهيم، وهذا ما اثار حفيظة بعض الناقدين.
ثانياً: ثمّة نصوص عديدة في الوسط الشيعي تؤكّد أنّ علماء الإمامية ذهبوا في أكثريّتهم إلى هذا الرأي، أي التسامح؛ يقول الشهيد الثاني: (جوّز الأكثر العمل بالضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال، لا في صفات الله والحلال والحرام، وهو حسن حيث لا يبلغ حدّ الوضع والاختلاق، لما اشتهر بين العلماء من التساهل بأدلّة السنن، وليس في المواعظ والقصص غير محض الخير، ولأخبار من بلغ المروية من الخاصّة والعامة) (الرعاية: 76).
أما في الوسط السنّي فقد انقسم العلماء إزاء العمل بالخبر الضعيف إلى اتجاهات ثلاث أساسيّة، هي:
الاتجاه الأوّل: فريق لا يرى حجية الخبر الضعيف مطلقاً، لا في الأحكام ولا في الفضائل، وهو منسوب إلى يحيى بن معين والنجاري ومسلم وابن حزم.
الاتجاه الثاني: العمل بالحديث الضعيف مطلقاً، وهو منسوب إلى الإمام أحمد بن حنبل وأبي داوود السجستاني. وقيل: المراد ما يوافق غيره من الروايات لا مطلقاً.
الاتجاه الثالث: التفصيل بين الفضائل والمواعظ وغيرها، بعدم حجية الخبر الضعيف في غيرها، وحجيته فيها مع شروط ذكرها ابن حجر.
يقول الدكتور نور الدين عتر: (إنّ العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال هو مذهب جماهير العلماء من المحدّثين والفقهاء وغيرهم، ونقل حكاية الاتفاق عليه بين العلماء عن الإمام النوري وأيضاً عن كلّ من الشيخ علي القاري وابن حجر الهيثمي). وقد عقد الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية بحثاً عنوانه (باب التشدّد في أحاديث الأحكام والتجوّز في فضائل الأعمال)، ونقل في هذا الباب كلمات بعض العلماء الذين لم يتشدّدوا في النقل والتحديث عندما كانوا يروون في فضائل الأعمال. وذكر ابن حجر أنّ طريقة الإمام أحمد معروفة في التسامح في رواية أحاديث الفضائل.
ثالثاً: تطوّر درس هذه القاعدة وأخذت بُعداً تقعيدياً في القرون الأخيرة، ويمكن القول بالتحديد: بعد الشيخ حسن بن الشهيد الثاني، أي في القرن الحادي عشر الهجري، إذ قلّما نجد قبل هذا العهد دراسات مركّزة حول القاعدة وأدلّتها وامتداداتها، تلك الامتدادات التي حظيت بأهمية، كما تحظى بالنسبة لنا بأهميةٍ أيضاً؛ وقد رأيت أنّ من أبرز الذين بسطوا البحث في القاعدة كلّ من السادة: محمد تقي الرازي، والعراقي، والإصفهاني، والصدر، ومحمد الروحاني، ومحمد صادق الروحاني.
رابعاً: أبرز من عارض قاعدة التسامح المحدّثُ البحراني (1186هـ)، فقد عقد بحثاً لها في باب الأغسال من كتاب (الحدائق الناضرة)، ووصفها بالضعيفة، حتى أنّه اعتبر أنّ الاستناد إلى التساهل في أدلّة السنن ـ لإثبات شيء سنّةً ـ هو تساهل خارج عن السَنَن على حدّ تعبيره (الحدائق الناضرة 2: 58)، كما رفضها السيد العاملي صاحب المدارك (1009هـ)، وقد نسبت مخالفة القاعدة، للفاضل الجزائري أيضاً، ومن أبرز العلماء المتأخرين الذين رفضوها السيد أبو القاسم الخوئي.
خامساً: أهم حديث يعتمد عليه عندهم لإثبات هذه القاعدة هو صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (من بلغه عن النبي شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له، وإن كان رسول الله لم يقله) (تفصيل وسائل الشيعة 1: 81، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمات العبادات، باب 18، ح3). لكنّ العلماء اختلفوا في تفسير هذا الحديث وأمثاله، فطرحوا خمسة احتمالات تفسيرية، وإن كان الأشهر أربعة.
سادساً: الأمر الأكثر أهميّة في هذه القاعدة وتأثيراتها هو التوسعة التي طرأت عليها، فقد قام العلماء تدريجياً بتوسعة مساحة تنشيط هذه القاعدة، فخبر هشام بن سالم كان يقول: إنّ أي رواية تأتيك تدلّك على ثواب فحكمها كذا وكذا، لكنّ العلماء وسّعوا هذا المفهوم ووقع جدل كبير بينهم في هذه التوسعات ومدى صحّتها:
التوسعة الأولى: إذا فرضنا أنّ الرواية الضعيفة لم يأت فيها ذكر ثواب على عمل، بل ورد فيها ذكر أصل العمل وأنه مستحبّ أو مرغوب، فإنّ روايات الثواب قليلة نسبةً إلى مجموع روايات المستحبات، كما يلاحظ بمقارنة مجموع روايات المستحبات مع كتب ثواب الأعمال للصدوق وغيره، فهل يكون حديث هشام بن سالم شاملاً هنا أم لا؟ ذهب بعضهم بل أكثرهم إن لم نقل جميعهم إلى التوسعة، فلو جاء حديث ضعيف السند يقول: (أطعم الضيف)، ولم يقل: (فإنّك لو أطعمته كان لك ثواب كذا وكذا)، ثبت به الاستحباب.
التوسعة الثانية: الذي يبدو من أخبار (من بلغ) أنها تتكلم عن ثوابٍ على فعل، وهذا لا يصدق ـ في غير الواجبات ـ إلا على المستحبات، فما هو العمل مع الروايات الدالة على كراهة شيء بحيث تدعو إلى الترك لا إلى الفعل؟ انقسم العلماء هنا أيضاً، لكنّ فريقاً وسّع الدائرة إلى المكروهات. وبهذا اتسعت الدائرة اتساعاً ثانياً لتشمل: 1 ـ الثواب على عمل. 2 ـ الثواب على ترك عمل. 3 ـ بيان مستحب. 4 ـ بيان مكروه.
التوسعة الثالثة: ثمة روايات تحكي عن وجوب أشياء لكنها ضعيفة السند، فهل يمكن الأخذ بها لإثبات استحباب هذا الفعل؟ وأيضاً ثمّة روايات تحكي عن حرمة شيء لكنّها ضعيفة السند فهل يمكن الأخذ بها لإثبات كراهة ذلك؟ وسّع ذلك بعضهم ورفضه آخرون.
التوسعة الرابعة: وهذه من التوسعات التي أحدثت قفزة، هل يمكن الأخذ بفتوى فقيه هنا؟ ومعنى هذا الكلام أنه قد لا يكون هناك رواية أساساً، لكن يوجد في هذا الموضوع رأي لفقيه أفتى به، فهل يمكن أن نأخذ برأيه بوصفه رواية، بحجّة أنه بلغني ثواب عبره أم لا يصحّ ذلك؟ وسّع فريق من العلماء النطاق هنا، وقبلوا بالأخذ بفتوى ولو فقيه واحد، فضلاً عن شهرة أو إجماع، فيما رفض ذلك آخرون. وهذه التوسعة ستتعدى إطار المصادر الحديثية لتنال مصادر الفقه القديم أيضاً.
التوسعة الخامسة: وهذه من التوسعات المثيرة، وتركت آثاراً عظيمة على العقل الإسلامي، فقد وسّع بعض العلماء الدائرة إلى كلّ روايات القصص والمواعظ ومصائب النبيّ وأهل بيته عليهم السلام وتواريخهم، وما فيه نشر فضيلة أو منقبة أو… بحيث صار يمكن لخطيب المنبر وقارئ العزاء الحسيني نسبة الحادثة إلى الواقع، دون أن يتهرّب عبر كلمة (روي)، وتؤدّي توسعة من هذا النوع إلى تساهل غير عادي على المستوى العام جماهيرياً في أمر الروايات التاريخية وغيرها، وربما يصير مسؤولاً عن تكوين ثقافة أخرى، كما هو حاصل اليوم في بعض المناطق. إلا أنّ بعض العلماء رفض بشدّة هذه التوسعة كان من أبرزهم المحقق الإصفهاني؛ إذ اعتبر ذلك قبيحاً عقلاً ومحرّماً شرعاً، على كلام عنده.
التوسعة السادسة: وهي توسعة كفيلة لوحدها بإدخال آلاف الروايات في دائرة المعتبر والحجّة، وقد أخذ بها جماعة حين قالوا: إنّ الروايات غير الشيعية يمكن الأخذ بها حتى لو كانت ضعيفة، في غير دائرة الواجب والحرام؛ لأنّ الروايات هنا ـ مثل خبر هشام بن سالم ـ مطلقة، وعليك أن ترصد عدد هذه الروايات في مصادر الزيدية والإسماعيلية والإباضيّة وأهل السنّة بصحاحهم وغير صحاحهم، لترى كم هو تأثير هذه التوسعة على تكوين عقل جديد في أمر بعض الروايات؟! إلا أنّ بعض العلماء رفض بشدّة هذه التوسعة.
التوسعة السابعة: إذا جاءت رواية لا تحكي عن حكم أصلاً ولا عن ثواب، بل تدلّ على أمرٍ خارجي معين، مثل مكان قبر هود وصالح، فهل تكون مشمولةً لأخبار من بلغ لو كانت ضعيفة السند؟ ذهب فريق إلى ذلك، فيما رفضه آخرون.
التوسعة الثامنة: ذهب بعض الفقهاء ـ مثل الشيخ البهائي ـ إلى أنه لا يشترط في تطبيق قاعدة التسامح أن يكون الخبر الضعيف مما يظنّ بصدقه، فحتى لو كان احتمال صدقه لا يزيد على الخمسين في المائة، يمكن الأخذ به، نعم شرط البهائي أن لا يكون هناك ظنّ بكذبه، إلا أنّ المحقق النراقي ينسب إلى والده إمكان الأخذ بالقاعدة في القصص والمواعظ إلا إذا علم بكذب الرواية، لا ما إذا ظنّ بالكذب.
التوسعة التاسعة: وهي توسعة لم نعثر على من تبنّاها غير المحقق الآشتياني، وتتعدّى هذه التوسعة دائرة السند الضعيف لتشمل الدلالة الضعيفة، إذ يرى أصحابها أنه لو جاءنا خبر ضعيف السند وذو دلالة ضعيفة على استحباب شيء مثلاً، فإنه يمكن الأخذ بهذه الدلالة من باب التسامح والحكم باستحبابه، بناءً على صحّة القاعدة، فالدلالة التي تضعف عن درجة الظن التي هي درجة الظهور يسميها علماء الأصول عادة بالإشعار؛ فيقولون بأن الحديث الفلاني مشعر بكذا أو كذا، أي أن درجة الاحتمال في دلالته لا تتعدّى الخمسين في المائة، ولا يعمل العلماء بالإشعار عادةً، لكنّ هذه التوسعة تريد العمل به بحجّة التسامح.
إلى غير ذلك من التوسعات مثل الشمول للعقود والإيقاعات وللعبادات والمعاملات، وللثواب الدنيوي والأخروي، وللنبي والأئمة مع اختصاص الرواية بالنبي.
ربما لهذا كلّه رفض التيار التحديثي في العقل الإسلامي نظرية التسامح، فأبطلوا الروايات، وبعضهم أنذر بالخطر والمسؤولية إزاء التساهل في الروايات التي تكوّن مفاهيم في المجتمع، مطالباً بعدم الجمود على الواجب والحرام في التعامل مع التراث (راجع: هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار: 172 ـ 173؛ ومحمد باقر البهبودي، صحيح الكافي 1: ح (المقدّمة)، ومحمد جواد الموسوي الإصفهاني، فقه استدلالي: 559 ـ 600، وپيرامون ظنّ فقيه: 77، 558 ـ 560؛ ومصطفى حسيني طباطبائي، نقد مصادر حديث: 143؛ ومحمد حسين فضل الله، الندوة 7: 523 ـ 524، 531؛ وكتاب النكاح 1: 263؛ ومحمّد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتجديد: 153 ـ 154). وقد عزّز ظاهرة التحفظ من نزعة التساهل هذه أنّ علماء الكلام والتفسير لم يهتمّوا كثيراً بدراسة النصوص الحديثية الكلامية والتفسيرية، ولم يمارسوا نقداً سندياً عليها على الطريقة المعمولة في علم الفقه، وهذا ما قد يجمّد من حركة نقد النصوص الحديثية ـ صدوراً ـ في غير دائرة الفقه، ومن ثم يكوّن مفاهيم عقدية، وتاريخية و… غير مدروسة بالشكل المطلوب.
سابعاً: إنّ فكرة (رجاء المطلوبية) تختلف عن الفكرة الرئيسة في قاعدة التسامح، فلو جاء حديث ضعيف السند دلّ على ثواب على عمل، فإذا قلنا بقاعدة التسامح أمكن لنا الإفتاء باستحباب هذا الفعل، ومن ثم يكتب الفقيه هنا في فتاويه: إنّ هذا الفعل مستحبّ. أمّا لو أنكر الفقيه قاعدة التسامح فإنّه لا يمكنه الإفتاء بالاستحباب، ولهذا تجده يقول: يؤتى به برجاء المطلوبية، ويقصد بذلك أنّ هذا الفعل لم يثبت استحبابه عندي، لكن بالإمكان ان يأتي الإنسان به برجاء وعلى أمل أن يكون مطلوباً من الله تعالى، وعلى أمل أن يكون الحديث الضعيف قد صدر حقّاً من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، فهنا عندما يأتي به مع هذه النيّة الطيبة فإنّ الله لا يرجعه خائباً إن شاء الله، أو أنّه إذا أتى به وكان صادراً واقعاً حسب له القيام بفعل مستحبّ عن قصد ونيّة.
ثامناً: لقد بحثت في دروسي المتواضعة حول قاعدة التسامح بالتفصيل، كما تحدّثت عنها في كتابي (نظرية السنّة)، وما توصّلت إليه بنظري القاصر هو عدم صحّة هذه القاعدة من رأس، والعلم عند الله تعالى.