السؤال: لو أخذنا جسم الإنسان مثلاً، فسنجد أنّه يتكوّن من أعضاء، والأعضاء من أنسجة، والأنسجة من خلايا، والخلايا من جزيئات، والجزيئات من ذرات مرتّبة بعضها جنب بعض كالكاربون والهيدروجين وغيرها. والعلم الحديث لا يكشف بأدواته غير هذه الأمور، فإذا افترضنا أنّ العلم تطوّر إلى المرحلة التي يستطيع فيها التحكّم عمليّاً بالذرّات الموجودة كالكاربون والهيدروجين وغيرها، ليرتبها فيزيائياً على شكل جزيئة، على غرار الترتيب الموجود في الكائنات الحيّة، ومن ثم يرتب الجزيئات على شكل خلايا، ويرتب الخلايا ليصنع منها نسيجاً، وهكذا يستمرّ بعكس الترتيب السابق، فهل يستطيع أن يصنع كائناً حيّاً؟ أعني هل هذا الأمر مستحيل عقليّاً أم ممكن؟ وطبعاً فهذا كلّه ليس إيجاداً من العدم، بل تصرّف بالمادة الموجودة لدينا، وهل الإجابة على هذا السؤال ممكنة فلسفيّاً أم أنّها تنتظر التجربة العلميّة لتقول فيها كلمتها؟ (عماد الرفاعي، العراق).
الجواب: قد يكون كلّ شيء ممكناً في هذا السياق، لكنّ فهم هذا الموضوع وفق أصول الفلاسفة يكون على الشكل التالي عادةً، إذ يختلف الجواب عن هذا السؤال تبعاً لنظريّات الفلاسفة في حقيقة الروح:
أ ـ فإذا أخذنا بالنظريّة الأفلاطونية التي هيمنت على الفكر الفلسفي قروناً طويلة حتى سيطرت على التفكير الإسلامي والديكارتي أيضاً، كانت النتيجة سلبيّةً، فهذه النظرية كانت ترى دوماً ثنائية الروح والمادّة، وأنّهما صورة ومادّة، أو أنّهما متلازمين بإرادة عليا كما في الفهم الديكارتي، وكانت تقول بأنّ الروح منفصلة عن البدن أو تُخلق لحظة اكتمال البدن واستقباله لها، ثم توضع فيه، أو تهبط إليه من المحلّ الأرفع على حدّ تعبير ابن سينا في قصيدته العينية المشهورة، وفي هذه الحال لو خلقنا ألف جسم من الأجسام والكائنات الحيّة، فلن نتمكّن من فرض وجود الروح والنفس بمجرّد التصرّف الدقيق فيزيائياً وعضوياً بالطريقة التي ذكرتموها؛ لأنّ المفروض أنّ هناك كائناً مجرّداً متعالياً لا يخضع وجوده وعدمه لكلّ هذه النشاطات العلميّة المادّية، والمفروض أنّه ليس تحت تصرّفنا، فمهما وفّرنا له جسداً فلن يكون خلقنا له ممكناً، إلا إذا افترضنا أنّ هناك قانوناً وجوديّاً يقول بأنّه حيث يتوفّر الجسد بالشكل الدقيق فإنّ الروح تهبط قهراً فيه، وفي هذه الحال يكون ما فعلناه في الجسد تحقيقاً لموضوعِ قانونٍ وجوديٍّ يفرض هبوط الروح فيه، لا أنّنا قمنا بخلق الروح بأنفسنا، فليلاحظ جيداً.
ب ـ أمّا إذا قلنا بالنظريّة الصدرائيّة، والتي ترى أنّ الروح ليست شيئاً منفصلاً مستقلاً من الناحية الوجوديّة عن البدن، حتى إذا ما اكتمل الجنين في بطن أمّه حلّت فيه، وإنّما هي نوعُ ترقٍّ وجودي يحصل في المادّة والبدن نفسه، بحيث يفضي هذا الترقّي القائم على الحركة الجوهريّة إفضاءً قهريّاً لتحقّق الروح المجرّد، وهي في الحقيقة حركة جوهريّة تحوّل المادّي إلى مجرّد، ففي هذه الحال سيكون توفيرنا للبدن بالطريقة الصحيحة الدقيقة موجباً قهراً لحصول الحركة الجوهرية المفضية إلى تبلور الروح. ولكنّ هذا الأمر يخضع لفهمنا للشروط الميدانيّة لحصول الحركة الجوهرية المذكورة؛ لأنّ الروح في نظرية الملا صدرا الشيرازي ليست معلولةً للمادّة، بل هي نتيج طبيعي للحركة الجوهريّة في المادة، والتي هي ـ أي الحركة الجوهرية ـ قانونٌ وجودي عام في عالم المادّة كلّه دون العوالم الغيبية المجرّدة تجرّداً تامّاً، فإذا تمكّنا من اكتشاف تمام شروط الحركة الجوهرية في هذا الموضوع، أمكن الجزم بتحقّق الروح عبر تحقيقنا لكلّ الموضوع والظروف التي تفرض ذلك ماديّاً، لكنّ هذا لا يعني أنّنا خلقنا الإنسان بأنفسنا، بل نحن وفّرنا الظرف المناسب لقيام قانون وجوديّ في المادّة يفضي إلى خلق الإنسان بوصفه الروح المجرّد.
وعليه، فالجواب يختلف بين النظريات التي ترى سبق الروح على البدن أو ثنائيّتهما، وانتماء كلّ واحد منهما إلى عالم مختلف، غاية الأمر أنّهما متلازمان، وبين تلك التي ترى الروح نتاجاً لحركة جوهريّة في البدن نفسه، ورتبةً وجوديّة أرقى للمادّة عينها، كما في المدرسة الصدرائيّة. وعلى كلّ التفاسير يبقى أنّه لو حقّقنا كلّ المعطيات العلميّة فمن الممكن وجود الإنسان بوصفه الروح المجرّد، غايته أنّه على النظرية الأولى نكون قد حقّقنا جزء الإنسان المادّي فقط، أمّا على النظرية الثانية فنكون قد حقّقنا رتبةً وجوديّة منه، يفرض قانون الحركة الجوهرية ترقّيها لرتبةٍ وجودية أعلى نسمّيها الروح.