السؤال: ذكرتم في جواب سابق: (… تحصيل العلم بخبرٍ واحدٍ عدداً صحيح السند مع ثلاثة أخبار أخرى ضعيفة السند جداً، ومليئة بالإرسال، وفي واحدٍ منها رجل مضعّف متهم بالوضع والكذب.. يبدو لي أمراً صعباً من الناحية العلميّة، ولهذا لا آخذ شخصيّاً في مثل هذه الموارد بمثل هذا الكمّ القليل من الأخبار، مع عدم وجود المعاضد له، فضلاً عمّا لو صحّت الملاحظات الآتية فيه، وإن كانت هذه الطريقة التي أعتمدها في التعامل مع الروايات تكاد تكون مُستَنكَرَة اليوم من جانب الأعم الأغلب).. لمَ الاستنكار؟ ولمَ تبنّي هذه الطريقة رغم استنكار الأعم الأغلب، والذي قد يبثّ في نفس الإنسان تردّداً كما العادة؟
الجواب: إنّ مشهور العلماء (اليوم) قائم على أنّه لو صحّت ـ سنداً ومتناً ـ رواية واحدة ظنيّة ليس معها شيء، صارت في قوّة النصّ القرآني من حيث الحجيّة والاعتبار في الاجتهاد الشرعي في الحدّ الأدنى، أي في مجال الفقه والأمور العمليّة؛ لأنّ جمهور العلماء يؤمنون بحجيّة خبر الواحد الظنّي. ولهذا صار من الأمر العادي جداً في الثقافة الدينية العامّة أنّه لو جاء حديثٌ صحيح السند غير ضعيف المتن، فقد انتهت المعركة بين المتخاصمَين، وانتصر من يكون الحديث الصحيح لصالحه، رغم أنّ الحديث قد يكون مظنون الصدور عن النبي وليس قطعيّاً، ولشدّة رسوخ هذه العادة اليوم والناشئة عن قناعات ودراسات اجتهاديّة أصوليّة معمّقة ومتراكمة عبر سنين طويلة، يستغرب المتشرّعة وطلاب العلوم الدينية عادةً من عدم قبول شخص لرواية صحيحة السند بحجّة أنّها ظنّ، لا يُغني من الحقّ شيئاً.
وأمّا بالنسبة لي، فقد بحثتُ موضوع حجية الخبر الواحد الظنّي في دروسٍ مطوّلة، من عام 2006 إلى عام 2008م، وعندي كتابٌ هو نتيجة هذه الدروس، تريّثت كثيراً في طبعه نتيجة بعض المراجعات العلميّة، وآمل أن يُرسل للطبع قريباً جداً، وهو في حوالي ستمائة صفحة، تحت عنوان (حجيّة الحديث)، ويدور برمّته حول أصل نظريّة حجية خبر الواحد الظنّي، ويقدّم قراءة نقديّة موسّعة فيها. وقد توصّلت إلى أنّ الأدلّة التي ساقوها لحجيّة خبر الواحد الظنّي كلّها ضعيفة، ولهذا لا أحتجّ في باب الأخبار سوى بالخبر المعلوم صدوره أو المظنون ظنّاً قويّاً جداً، بحيث يسمّى بالاطمئنان عرفاً، سواء كان متواتراً بالمعنى السائد أم غير ذلك.
وهذه النظريّة ـ وفقاً لما بحثته مطوّلاً في كتابي المتواضع (نظرية السنّة في الفكر الإمامي) والصادر عام 2006م عن دار الانتشار العربي في بيروت ـ كانت هي السائدة بين جمهور علماء الإماميّة في القرون السبعة الهجرية الأولى، لكنّ تحولاتٍ حصلت أدّت إلى اختيار نظريّة حجية الخبر الواحد الظنّي، إلى أن جاء الإخباريون الذين رفضوها، لكنّهم اعتقدوا ـ من جهة أخرى ـ بيقينيّة الأخبار التي بين أيدينا. واليوم يوجد بعض العلماء الذين يختارون خصوص حجيّة الخبر المطمأنّ بصدوره، لكنّ الاطمئنان قد يحصل عندهم بمثل رواية واحدة أحياناً. وحصول الاطمئنان يختلف من شخص لآخر؛ تبعاً لقناعته ودرجة وثوقه بالتراث الحديثي عموماً، نتيجة قراءته لحال هذا التراث ومساراته التاريخية والنسبة المئويّة لما هو الضعيف متناً فيه.
كما أنّ استنكار الأعم الأغلب قد يفرض تردّداً على الإنسان عندما يكون في بداية البحث، أو لا تكون الأمور حاسمةً عنده، وأمّا لو اقتنع بشيء لم يقتنع به العلماء نتيجة اجتهاداتهم النظريّة التحليليّة، فلا حاجة للتردّد، بل تجدني أرجّح التردّد في حجيّة خبر الواحد الظنّي وإقامة الدين على الظنون، وتشريع وإقامة بعض العقوبات وبعض مسائل الحدود والقصاص وبعض قضايا الدماء والفروج.. على أخبار آحاديّة يعترف كثير من أصحابها والعاملين بها بأنّها تفيد الظنّ لا أكثر، فهذا شيء مقلق أيضاً، كيف تحكم بإعدام شخص نتيجة رواية واحدة ظنيّة فقط؟! هذا أيضاً أمر مقلق بطبعه، فإذا ثبتت لديك حجيّة الرواية فمن الطبيعي أن تحكم وهذا حقّك، وإذا لم تثبت فإنّ التردّد من مخالفة المشهور يقف في مقابله تردّد آخر في إصدار حكم بالقتل على شخص لرواية واحدة ظنّية تتوقّف أنت في ثبوت دليل على حجيّتها من حيث هي ظنّ، وإنّما لا نقلق اليوم من ذلك؛ لأنّ الجمهور قد اعتاد على هذا الأمر، فتستأنس بذلك نفوسنا.
وعلى أيّة حال، فلكلّ باحث قناعته الشخصيّة التي هي حجّة بينه وبين ربّه، شرط أن لا يكون مقصّراً في البحث مهنيّاً وأخلاقيّاً، وهو ما نرجوه فيما نعمل، عسى الله يصلح نوايانا ويلهمنا الصواب دائماً، إنّه ولي قدير.