السؤال: يتساءل بعض الناس: لماذا يُحاول رجال الدين إِبقاء الناس آثمين، وكلّ من يشعر بالإثم يصعب عليه رفع رأسه؟
الجواب: لا أعتقد بأنّ القضيّة على إطلاقها بالطريقة التي ذكرتموها، فإذا كان هناك بعض رجال الدين يغلب على خطابهم نمط تأثيم الناس والمجتمع، وحتى تكفير الناس والمجتمع أحياناً، فهذا لا يعني أنّ الجميع كذلك، فهناك الكثير اليوم من العلماء الذين يملكون خطاباً رائعاً ومتوازناً وموضوعيّاً في هذا الإطار، وعند جميع المذاهب.
أضف إلى ذلك أنّه يجب أن ندرس حركة المجتمع الإسلامي اليوم، فهل هي حركة إيمانية تعيش التقوى والالتزام بشريعة الله تعالى أم لا؟ فعندما نجد كبائر الذنوب ترتكب وعلى نطاق واسع في الكثير من مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، فهذا يعني أنّ هناك الكثير من الآثام التي تقع، ومن المتوقّع في هذه الحال أن نجد في خطاب علماء الدين شيئاً من التأثيم للمجتمع وللأفراد في هذه الظروف السيّئة.
لكنّ هذا كلّه لا يبرّر تحويل نمط الخطاب الديني إلى خطاب تأثيمي، لا يرصد سوى آثام المجتمع والأفراد، ولا يذكّر الناس إلا بجهنّم، فيما لا يكشف عن حسنات مجتمعاتنا وصلاح أعمالها ليُضيء على وجود الخير والإمكانات فيها، وعن العناصر الإيجابيّة فيها على المستوى الديني وغيره، ولا يمرّ على الجنّة ليرغّب الناس بفعل الخير، فالقرآن الكريم كان متوازناً في الحديث عن الجنّة والنار، وفي الحديث عن عقاب الله وثوابه، وفي الحديث عن صفات الجلال الإلهيّة وصفات الجمال، صفات القهر وصفات الرفق ما شئت فعبّر، وعلينا أن نستفيد من هذه التجربة المتوازنة لصياغة خطاب ديني رحيم.
وقد كثرت النصوص الدينية ونصوص تراثنا الإسلامي التي تتحدّث عن الرفق، وعن ترغيب الناس في الدين، وعن الاهتمام بجانب القوّة الجاذبة فينا لكي يُقبل الناس على الإيمان بالله تعالى من موقع شعورهم بأنّ الإيمان سعادة، وليس تكليفاً ثقيلاً على كواهلهم، فنجاح خطابنا الديني يكمن ـ أحياناً كثيرة ـ في إقبال الناس على الدين من موقع الإحساس بأنّ التديّن إنجاز وفرصة ومكسب ونجاح وسعادة، وخروج من مشكلة نحو حلول.
وهناك وجهٌ آخر للمشكلة سبق أن تحدّثنا عنه مراراً، وهو أنّ الخطاب الديني يجب أن لا يؤدّي إلى دفع الناس للأمن من مكر الله، ولا إلى بث روح اليأس فيهم من رحمة الله، بل التوازن هو المطلوب هنا، كما وهناك مشكلة عويصة وهي ذهنية التحريم في العقل الديني، إنّ هذه الذهنية تدفع الكثير من رجال الدين والمتديّنين للتلذّذ بتحريم الأشياء والانقباض عن الترخيص فيها، فتكثر الاحتياطات على مختلف صعدها، ويخلق العقل تصوّرات إضافيّة عن شبهات تستدعي احتياطاً هنا أو هناك كان في غنى عنها منذ البداية، وتتبلور قاعدة تقديم الحظر على الترخيص من حيث لا يشعر الإنسان، وهذا ما يجعل عامّة الناس يشعرون بأنّ التديّن هو تقييد مبالغ به، وأنّه تأثيم لكلّ أفعال الناس، وأنّه حذر لا متناه إزاء كافّة ظواهر الحياة، لاسيّما المعاصرة، الأمر الذي يخلق شعوراً بالقلق تجاه هذا التديّن.
المطلوب منّا اليوم هو:
1 ـ عرض الدين بجناحي الترغيب والترهيب معاً، بل أجد نفسي أميل أن يكون خطابنا الديني للمجتمعات الإسلاميّة (اليوم) خطاباً أقرب إلى الترغيب منه إلى الترهيب؛ لأنّ هذه المجتمعات عانت ولعقودٍ طويلة من الاستبداد والقمع والخوف والرعب، وتريد فضاء آمناً وطمأنية تعطيها السكينة والراحة، فعلينا أن لا نجعل الدين في نظرها أحد مظاهر هذه الأمور العنفيّة، فيربطون بين الدين وبين ما رأوه من جور الحكّام وفساد الأنظمة ورعب أجهزة المخابرات، فلا يميّزون بين فريضة رائعة في الإسلام اسمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين دوريات الشرطة القمعيّة في المجتمعات العربيّة. إنّ فريضة الأمر بالمعروف هي فريضة الوعي والمسؤولية تجاه تراجع المجتمع على مختلف الصعد، لكنّ تحويلها إلى فريضة رعب وعبوس وتقطيب الحاجبين وإعراض عن الناس وصرف الوجه عنهم مغضباً وغير ذلك من الطرق التي تنفع في زمان ومكان دون آخر.. هو خطأ كبير في عصرنا الحاضر، والمؤسف أنّ الكثيرين منّا يرون أنّ المرحلة هي مرحلة الغلظة في التعامل مع الناس لا الشفقة والرحمة، دون أن يدرسوا أوضاع مجتمعاتنا المؤلمة التي عانت الأمرّين من الكثير من الصعوبات والمآسي.
2 ـ التخفيف من سباق الاحتياطات في الفتاوى والتطبيقات والممارسات، والتنعّم بما أحلّه الله للإنسان.
3 ـ التخلّي عن قاعدة سدّ الذرائع بمعناها السلوكي والتطبيقي، والتي تعدّ ـ بشكلها الموسّع المفرط ـ من أكثر قواعد التضييق والتشدّد الديني في الفقه الإسلامي، ورغم أنّ بعض المذاهب لا تؤمن بهذه القاعدة التي اشتهرت بين المالكيّة والحنابلة، إلا أنّ الوعي الديني يمارس هذه القاعدة كثيراً ضمن مسمّيات متعدّدة أو من حيث لا يشعر.
4 ـ التمييز بين أعرافنا الدينية وقوانيننا الدينية، فالأعراف الدينية ليست قوانين ملزمة، بل هي تمظهرات بشريّة لتطبيق القوانين في زمانٍ ما، فيما القوانين هي الملزمة في هذا الإطار.