السؤال: بعد أخذ قسط من المعارف الدينيّة، لاحظت أنّه قد بدأ العزوف والفتور عن حضور الدروس والمجالس الدينيّة، هل لهذه الظاهره من تفسير؟ (عواطف الغريب).
الجواب: إذا كان المقصود وجود هذه الظاهرة على المستوى العام، فهذا شيء طبيعي، فإنّ الإقبال على المحاضرات أو الدروس الدينية أمر يختلف باختلاف الظروف، فالمدّ الإسلامي في السبعينيّات والثمانينيات لعب دوراً كبيراً في الإقبال على المساجد والمجالس الدينية وعلى طلب العلوم الدينية في الحوزات والجامعات الدينية بما لم يكن له مثيل من قبل، وعندما استقرّ هذا المدّ على المستوى الديني من الطبيعي أن يحدث جزر في الإقبال، فلا حاجة لجلد ذواتنا وتصوّر أنّ الحالة التي صاحبت المدّ الإسلامي هي حالة دائمة ومستمرّة، بل ترتفع أمواجها وتنخفض بشكل طبيعي، وهذا أمر يختلف أيضاً من بلد إلى بلد، فبعض البلدان الخليجية ـ على سبيل المثال ـ ما تزال إلى اليوم يهتم الكثيرون فيها بالقضايا الدينية، فيما بلدان أخرى لا تشهد فيها هذه الدرجة من الاهتمام بالموضوعات الدينية والجدل الديني. كما أنّ المستمعين إلى الخطاب الديني ما تزال نسبتهم عالية جداً في العالم الإسلامي.
لكن مع ذلك توجد أسباب متشابكة لضعف الإقبال المذكور نسبيّاً، وأشير من بينها لبعض العناصر التي ينبغي الاشتغال عليها:
أ ـ ظاهرة التكرار في الخطاب الديني على مستوى خطب الجمعة والمنابر والحوارات والدروس المسجديّة وعلى شاشات التلفزة والفضائيات وغيرها.
ب ـ ضعف بعض الملقين للدروس والمشاركين في النشاطات والحوارات وعدم تمكّنهم على المستوى العلمي.
فالضحالة العلمية والخطاب المكرور آفتان عظيمتان اليوم على مستوى الخطاب الديني الجماهيري الذي بات يتوسّل بالكثير ممّا هو ضعيف علميّاً لإيصال أفكاره إلى الناس، وقد ذكرت في كتابي (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أنّه يلاحظ أنّ المستويات العلمية والثقافية والفكرية لبعض الخطباء والدعاة والعاملين في مجال التبليغ الديني تبدو مخجلة، بحيث يضرّ ذلك حتى بالعلماء الحقيقيين من الخطباء والمبلّغين فيشوّه صورتهم. إنّ بعض الخطباء والمبلّغين لا يملكون سوى مجموعة بسيطة من المعلومات الدينية والثقافية التي يقومون بتكرارها بشكل غير منتج، وهذا ما يستدعي الاشتغال على دورات تأهيلية وورش عمل تثقيفية شاملة تمثل نهضةً في هذا المجال؛ لأنّ هذا الضعف العلمي سوف ينتج مناخاً مناسباً للثقافة الدينية السطحية والثقافة الخرافية واللامنطقية، وسيمكّن الآخرين من امتلاك التفوّق الفكري في المجتمع الإسلامي، وسيدفع الشباب شيئاً فشيئاً للانجذاب نحو التيارات الفكرية الأخرى الفاعلة في الساحة اليوم.
ج ـ غياب الكثير من المشرفين أو الملقين لهذه الدروس والبرامج عن تساؤلات الشباب المعاصر، ولو حضروها فهم يقدّمون أجوبةً قديمة كلاسيكية لا تشفي الغليل، فتجد شاباً يسجّل إشكالاً فلسفيّاً فيجاب بوجود رواية صحيحة السند! وتجد آخر يأتيك ليُشكل على القرآن الكريم فتجد تبريرات تأويليّة تكلّفية غير مقنعة إلا لمن هو بعيد عن الإشكال سلفاً، فمن الصعب أن تجد شخصيّات فاعلة في مجال تساؤلات الشباب. وعددُ هذه الشخصيات وإن لم يكن بالقليل في نفسه لكنّه قليلٌ بالقياس إلى حجم الحاجة التي تعيشها مجتمعاتنا، ولا يمكن لعدد قليل من النخبة الفاعلة في هذا المجال أن تغطّي كلّ التساؤلات والهموم الفكريّة للشباب المسلم اليوم. إنّ كثيراً من الإشكاليات اليوم تحتاج للتفكير عدّة أيام للتوصّل إلى جواب لواحدٍ منها، يتسم بالموضوعية والبعد عن الانحياز التأويلي التعسّفي.
د ـ غياب فقه الأولويات، حيث نجد بعض الخطباء والمتصدّين للشأن الديني والدعوي غير مدركين لحجم الحاجات الزمنية ولا مستوعبين لما هو الأولى أن يُطرح أو يثار أو يقال، فيشغلون القاعدة الشعبية بموضوعات هزيلة جزئية تفصيلية لا تخلق سوى وعياً دينياً هشاً غارقاً في الفروع وبعيداً عن الأصول. إنّ تصوير بعض القضايا الجزئية على أنها أصول اعتقادية أو حقائق دينية ثابتة ثم محاولة تضخيمها وإشغال الساحة بها إنما هو نتاج ضيق أفق أحياناً وغياب فقه الأولويات أحياناً أخر. وهو ما أدّى إلى تململ شريحة ليست بالقليلة من الشباب وشعورها بالعبثية من الانتماء للفضاء الديني، فهذا الفضاء بات يشكّل مساحة للتوتّر والجزئيات والخصومات التفصيليّة والقضايا التاريخية المملّة بالنسبة إليه، ولهذا أخذ يذهب خلف الطروحات التي تسعى لتغيير واقعنا، لا المحاضرات والخطب التي تريد فقط وفقط أن تخبرنا عن ما حدث في التاريخ دون أن تتمكّن من التجسير بين الحدث التاريخي وحلّ مشكلات الواقع المعاصر على الصعد المختلفة. وقد رأينا كيف أنّ بعض البرامج الإعلامية الدينية التي قام بها بعض الإعلاميّين والناشطين المثقّفين الدينيّين في الوسط السنّي شهدت إقبالاً عظيماً، وربّت عشرات وربما مئات الآلاف على امتداد العالم الإسلامي خلال العقدين الأخيرين نظراً لنجاحها الباهر وقدرتها على تناول الموضوعات اليوميّة ومشاكل العصر بطريقة دينية هادئة مباشرة وغير مباشرة، رغم أنّها قد لا تحظى دائماً بالعمق العلمي، بحيث غطّت في تأثيرها وانجذاب الشباب لها على كبرى المرجعيات الدينية والمجامع الفقهية في العالم الإسلامي. ولا أريد أن أدخل في الأسماء لكنّ شخصيات معروفة حقّقت نجاحات مشهودة تستحقّ الوقوف عندها والبناء عليها لقيامة خطاب ديني دعوي أكثر تأثيراً وفاعليّة.
إنّ بعض الدعاة والمبلّغين لم يدركوا بعمق ـ وبشكل حقيقي وليس صوريّاً ـ بعدُ أنّ حجم المتعلّمين في العالم الإسلامي قد ازداد بشكل هائل، وأنّ النسبة السكّانية قد تعاظمت بشكل رهيب خلال نصف القرن الأخير، وأنّ انفجار المعلوماتية قد أدخلنا في قواعد جديدة للعبة، وهذا أمر له انعكاسات كبيرة على طرائق العمل وعلى التحدّيات المعرفيّة، لقد كان الدكتور محمد أركون يقول في بعض كتبه بأنّ التخضم السكاني وثورة الاتصالات والمعلوماتيّة قد ساعدا المدّ الإسلامي الذي تمكّن من إيصال مفاهيمه إلى الأرياف بعد أن كانت حكراً على النخب، فيما عامّة الناس لا تعرف من الدين إلا الشيء اليسير. وبعد عشرين سنة من كلام أركون هذا أواخر الثمانينيات، نشهد اليوم تنافساً قويّاً بين التيارات الدينية وخصومها على كسب الشارع بشكل غيّر قواعد السيطرة، وبات الآخر المختلف معك قادراً على الوصول إلى نفس النقاط التي تصل إليها أنت، بل وأبعد، ليس ليأخذ منك جمهورك فحسب، بل ليغيّر نمط تفكير جمهورك نفسه، فانظروا ماذا فعلت البرامج التلفزيونية والمسلسلات والبرامج الغنائيّة والفنيّة في خلق وعي اجتماعي جديد أثّر حتى على نمط تفكير المتديّنين أنفسهم!!
هـ ـ تحوّل الكثير من هذه البرامج والدروس في بعض البلدان إلى شيء وظيفي أكثر من كونه نشاطاً دينيّاً يعيش فاعله الحماس والاندفاع، فالظاهرة الوظيفية للتبليغ الديني، وإن لم تكن مشكلة في حدّ ذاتها لكنّها تظلّ فيها بعض المردودات العكسية التي ينبغي التنبّه لها، من نوع استلاب القرار ومصادرة حسّ المبادرة عند الداعية أو المبلّغ الديني، حيث بتنا نجد اليوم المبلّغين يخضعون لما ينبغي أن يقال لهم ويكتب من هذه الدولة أو تلك ومن هذه الوزارة (الأوقاف أو الثقافة) أو تلك ومن هذا الحزب أو التنظيم أو ذاك… حفاظاً على الجانب الوظيفي الذي يموّن الإنسان بأسباب العيش المادي.
من الضروري أن لا تتحوّل الحالة الوظيفيّة إلى إمساك سياسي أو سلطوي بفريضة الهداية الدينية بما يعطّلها عن لعب دورها الكبير في الجوانب الاجتماعية العامّة، وعلى الحركات والدول الإسلامية أن تتنبّه لهذا الموضوع حتى لا يصبح علماء الدين مجرّد أبواق تكرّر ما يمضي هذا الزعيم أو ذاك، أو تمارس عملاً وظيفيّاً جامداً. لسنا ضدّ انضمام عالم الدين إلى وزارات الأوقاف أو الثقافة والإرشاد أو الحزب المعيّن، وإنما نعارض سلبه حيويته وقراره وعنفوانه ورفضه للمنكر أينما كان بموجب الحصار الوظيفي الذي يفرض عليه، فهذا الحصار الوظيفي الناشيء عن طريقة غير صحيّة في ممارسة الانتماء لهذه الدولة أو التنظيم أو المرجعيّة.. يُبدي العالم والناشط الدعوي وكأنّه منحاز بطريقة غير صحيحة ولا يتمكّن من أن يمثل مصداقيةً في أوساط مختلفة عن أوساط تنظيمه السياسي أو انتمائه المرجعي أو نحو ذلك، بل ويشعر بعض الناس بأنّه يقول ما يقال له، ولا يقول ما ينبغي أن يقوله.
و ـ ظواهر التنافس السلبي بين علماء الدين والدعاة والمبلّغين، وذلك أنّ التنافس بين الدعاة والمبلّغين ليس أمراً سيئاً عندما يقع في سياق إيجابي، إلا أنّ المشكلة التي نلاحظها عند بعضهم أنّ هذا التنافس أخذ نسقاً سلبياً حتى أوصل إلى خصومات شخصية انكشفت لعامّة الناس وساهمت في تردّي صورة المؤسّسة الدينية أكثر فأكثر، وفقدانها مصداقيّتها ومرجعيّتها الأخلاقيّة والروحيّة. إنّ ما يصون هنا هو إعادة بعث الروح الأخلاقية في النفوس وعدم الوقوف على المفاهيم الفقهيّة بشكلها السائد.
ز ـ من المشاكل الأخرى أيضاً هو تقلّص الخطاب الديني لصالح السياسي، فمن حقّ عالم الدين أن يكون له دور في الحياة السياسية، وكونه عالمَ دين لا يجعله خارجاً عن الاجتماع البشري في حقوقه السياسية وحريته في الحضور والتعبير، خلافاً لبعض الأصوات التي سمعناها مؤخراً والتي ربما نتفق معها في ضرورة إجراء إصلاحات على شكل الحضور الاجتماعي والسياسي لعالم الدين لا على أصل حضوره. إلا أنّ الحضور الاجتماعي والسياسي لا ينبغي أن يغيّب الشخصية الدعوية الإرشادية والدينية لعالم الدين، حيث بتنا نشهد هذه الظاهرة في بعض الأوساط، حتى صار بعضهم رجال سياسة بلباسٍ ديني لا رجال دين بنشاط سياسي. ودائماً من يعيش حياة السلطة فهو يكسب حصّةً من الجمهور لكنّه يخسر حصّةً أخرى أيضاً، والناس قد لا تميّز أحياناً فتشعر بأنّ عالم الدين أو المشروع الديني بات مشروعاً سياسيّاً سلطويّاً أكثر من كونه مشروعاً روحيّاً أخلاقيّاً، الأمر الذي يدفع بالكثيرين إلى الذهاب خلف المدارس الروحية أو النفسيّة أو الاجتماعيّة الأخرى بعد غيابنا عن هذه الساحات (انظر مشاريع علم الطاقة، وإدارة الذات، والبرمجة، وأعمال ستيفن كوفي وغيرها ومدى رواجها في الساحة الإسلاميّة).
ح ـ ظهور الخطاب العنفي الديني، وهذا الخطاب رغم أنّه يجتذب شريحة من الشباب المسلم بسبب الإحباط العام، وفشل سياسات الإصلاح في العالم العربي، وارتفاع البطالة والفقر، وظهور أحزمة البؤس في المدن الكبرى، وقمع الحريات، وفشل الأنظمة الذريع في تحقيق انتصارات كبرى للأمة في القضيّة الفلسطينية وغيرها.. إلا أنّ هذا الخطاب تنفر منه شرائح أخرى أيضاً، فاللغة العنفيّة التي لا تفسح المجال للشباب بالنقد والتعبير عن آرائهم باتت تشكّل أزمة نفسية اجتماعيّة للشباب العربي والمسلم؛ لأنّ هذا الشباب يريد من يعطف عليه ويمنحه الثقة بنفسه ويتحمّل ظروفه ويقدّر معاناته، فإذا استخدمنا معه دوماً أسلوب العنف والتكليف والإلزامات والوصايات، فسوف ينفر منّا نفورَه من عناصر اليأس والخوف النفسي التي عنده، ولهذا فإنّ الأسلوب القمعي لبعض العاملين في المجال الديني وكمّ الأفواه، واللغة التي تعتمد الوصاية، أو اللغات التبريرية التي لا تعترف بصحّة نقدٍ من الانتقادات التي يمارسها الشباب.. هذا كلّه يفضي إلى فرار الشباب من بيئتنا نحو بيئة أخرى تتميّز (ولو بشكل نسبي) بأنّها تستمع إليهم وتحترم وجهة نظرهم وتقدّر انتقاداتهم وغير ذلك. نحن نجد في بعض الأحيان أنّ بعض رجال الدين ينهرون بعض الشباب عن بعض الأسئلة أو يشعرونهم بالذنب لأنهم قدّموا تساؤلاً نقديّاً، وهذا الأسلوب عندما تمارسه مع شاب مراهق فكرياً حتى لو تخطّى المراهقة الجنسيّة فسوف ينفر منك، وإذا احترمك ظاهريّاً فقد يلعنك باطنيّاً.. من الضروري التنبّه لمثل هذه الأمور في التعامل مع الأجيال الصاعدة التي ستمسك مفاصل حياة المجتمع في المستقبل القريب.
وفي السياق العنفي، فإنّ تقديم الإسلام على أنّه عنف وإكراهات ودوغمائيات سوف ينفّر الناس منّا حتى لو اجتذب إليه بعض الشرائح التي نتج عنها خلق العنف الإسلاموي الذي نحياه اليوم مع بعض الحركات المتطرّفة دينيّاً، والتي تصرّ على تقديم الدين على أنّه لا يملك سوى سمة العنف والقهر والشراسة والوحشيّة. لست أريد الدخول في هذه القضيّة هنا لكنّ التيارات الليبرالية والعلمانية في العالم العربي والإسلامي اليوم قد تعيش إحساساً بالنشوة فيما وصل إليه حال الحركات الإسلاميّة وتقف كالمتفرّج على وضعها، وقد قرأتُ مؤخراً مقالاً للرمز الليبرالي العربي علي حرب وهو ينتشي ويبدي عتبه بالقول: لقد قلنا للجميع بأنّ الإسلام (التاريخي والفقهي والنصّي) والنظم الشرعيّة سوف تفضي إلى ما وصلنا إليه اليوم، وهو يصرّ إصراراً لافتاً على نسف مقولة وجود إسلام معتدل، والتأكيد على أنّ الوجه الحقيقي للإسلام ـ إذا أريد تطبيقه بعد قرونه الأولى ـ هو ما نشهده اليوم في سوريا والعراق؛ لأنّ الإسلام المعتدل يشكّل إحراجاً للتيارات العلمانية والليبرالية في العالم العربي، فيما الإسلام المتطرّف يؤكّد مقولاتها ويسمح لها بالتغذّي على فشله.
عساني أتكلّم في مناسبة أخرى حول هذه النقطة المهمّة جداً في سياق الصراع الإسلامي ـ الليبرالي في أوطاننا، وأقف بعض الوقفات النقديّة مع مقالة علي حرب المشار إليها رغم ما فيها من بعض الكلام الصائب، فالفرصة لا تسع الآن، وأريد فقط أن أشير إلى أنّه لولا الشحن الطائفي في المنطقة لربما شهدنا ـ من وجهة نظري ـ تراجعاً أكبر للمدّ الإسلامي اليوم مع الأسف الشديد.
إنّ التنبّه لهذه العناصر وغيرها وإصلاحها قد يغيّر الوضع فيما يتعلّق بالإقبال على المعرفة الدينية عموماً في بلداننا، وللكلام تتمّة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
شيخنا الفاضل اذا كان الائمة عليهم السلام معصومين من الذنوب فبما نفسر بكاؤهم وانينهم في ادعيتهم لدرجة قد وصل في بعض الاحيان لمستوى فقدان الوعي ؟!!!