السؤال: من خلال قراءة السيرة العطرة للرسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وأهل بيته عليهم السلام، نرى بوضوح مكانتهم السامية العليّة التي لا يشكّ فيها إلا من فَقَدَ عقلَه، ولكن نجد في أحيانٍ كثيرة أنّ بعض العلماء يروون وينقلون ويحدّثون بأشياء هي خارجة عن حكم العقل ومعارضة بأحاديث كثيرة، فتنشأ جرّاء ذلك شبهات في داخل المذهب وخارجه، وبعد ذلك يقوم العلماء بتأويل تلك الحالات والأحاديث بتأويلات غريبة عجيبة؛ من أجل إثباتها، وهي في الواقع لا تزيد من شأن النبي والإمام. وهنا أضرب مثلاً واحداً، وهو أنّ سيفَ الإمام علي عليه السلام مسكته الأرض عندما قتل مرحباً، أو حضور الإمام علي ليلة الحادي عشر من المحرّم وغيرها، والتي أعتقد بأنّها لا تُسمن ولا تُغني من جوع (عباس).
الجواب: بصرف النظر عن الأمثلة التي ذكرتموها، فإنّ الواقع الذي أشرتم إليه موجود بالفعل، فبعضنا لا يُخضع نصوص التاريخ والحديث لنقدٍ علميّ من البداية، بل يسترسل في نقل المرويّات والتواريخ من على المنبر وشاشات التلفزة وفي الكتب والنشريات، وتكون النتيجة أنّه عندما يتمّ الإحراج بقصّة هنا أو هناك تبدأ التأويلات التي تريد أن ترفع المشكلة المزعومة، وهذا الواقع كلّه منهجٌ غير علمي، فالتاريخ والحديث لابدّ من التثبّت منهما قبل نقلهما بعنوان أنّهما أمور ثابتة يراد لها أن تنتج معرفةً أو وعياً دينيّاً عامّاً، وهذا التثبّت لابد أن يخضع لمنهج علمي مدروس، وليس لمنهج أيديولوجي يجعل من الرواية التاريخيّة المتهالكة مقطوعاً بها؛ لأنها تناسب مزاجي ومعتقداتي، فيما رواية صحيحة قويّة متماسكة نُخضعها للتأويلات المدهشة عندما لا تنسجم مع المزاج الذي نحمله، وهو مزاجٌ المؤسف فيه عند بعضنا أنّه ينشأ بطريقة غير ممنهجة من البداية، ويراد بعد ذلك اختراع منهج لتبريره، بحيث نشعر بسلامة المنهج كلّما نجح في تثبيت الفكرة التي نؤمن بها مسبقاً، أرجو الانتباه جيداً.
إنّ أخطر شيء في هذا المجال هو أن يتم اختراع المناهج العلميّة لتبرير معتقدات أو عواطف ولدت بطريقة غير منهجيّة في البداية، وهذا الأمر ينطبق عادةً على ما نحن فيه، حيث يقودنا الحماس أو العاطفة أو المزاج العام لتبنّي حدث تاريخي أو رواية منسوبة، فنتفاعل معها عاطفيّاً؛ لأنها تنسجم مع مزاجنا الفكري العام، ولا نشعر بالحاجة إلى إثبات صدقيّتها تاريخيّاً عندما يكون من نُلقي عليهم هذه الرواية أو القصّة التاريخيّة منسجمين أيضاً مع سياقها من الأصل، وعندما يطالبُنا الآخرون المختلفون معنا في المزاج الفكري العام بالدليل نقوم باختراع منهج متناسب معها كي نتمكّن من تبرير اختيارنا لها من قَبْل، فالمناهج هنا تغدو وليدة النتائج، والنتائج بنفسها وليدة المزاج العام والطمأنينة القلبية المتولّدة بدورها من العناصر التربويّة والعرفيّة والاجتماعيّة والمحلّية، مع أنّ المفترض أن تكون النتائج هي وليدة المناهج. وعندما تختلّ المعايير العامّة نصاب بكلّ هذا الإرباك الذي نعيشه اليوم في غير موقع. وهذا ما يؤدّي بمرور الوقت إلى تكريس منهج لم يولد إلا لتبرير وضع معيّن، لا لكونه مبرهناً في حدّ نفسه، ومن ثم يقوم هذا المنهج في الفترة اللاحقة بإيلاد نتائج جديدة، وبمرور الوقت يظهر وعي ديني وتاريخي آخر غير الذي كان.
كان من المفترض من البداية تخفيف الحمولات عن كواهلنا، والحفر الجادّ في كلّ نصوص التاريخ والحديث للتأكّد من قيمتها هنا أو هناك، قبل أن تتكوّن لدينا القناعات التي تأتي من نصوص التاريخ والحديث، وشيئاً فشيئاً سنصل إلى معطيات مؤكّدة من وجهة نظرنا ونَذَر غيرها، وأهم شيء في هذا المشوار هو ترك الخوف، فكثيراً ما يقال: لا يمكن أن أقبل بهذا المنهج في التثبّت التاريخي والحديثي؛ لأنه منهج لو صحّ لأطاح بعشرات الأشياء التي أؤمن بها، وهذا قلبٌ للعقل؛ فالمفترض أن يُثبت المنهجُ الصحيح ما تؤمن به، لا أن يُثبت ما تؤمن به منهجاً صحيحاً! هكذا يقول لك بعضهم: لو أخذنا بهذا المنهج لخسرنا عدداً كبيراً من الروايات الحديثية والتاريخيّة! وأقول: ومن قال لك بأنّك لو أخذت بها ربحت؟ ومن أين عرفت أنّها ثابتة إذا كنت الآن ما تزال تبحث في منهج إثباتها وإبطالها؟! حقّاً إنّها ظواهر غريبة ليس عندي تفسيرٌ لها غالباً سوى أنّنا في كثير من الأحيان نُدار بالعقل الأيديولوجي (الرومونتكنترولي) ونتحرّك بطريقة قد لا نشعر بها أساساً.
والغريب أيضاً أنّنا بأنفسنا نمتدح إبداع باحث في التاريخ أو الحديث قام بكشف زيف فكرة مسلّمة منذ مئات السنين أو أطاح بمصدر تاريخي مهم جدّاً تكرّس عند الجميع منذ مئات السنين، وإنّما نمتدحه لأنّ الفكرة أو المصدر المشار إليهما ينفعان خصومنا الدينيّين أو المذهبيّين أو الفئويّين، فيصبح تكسير المسلّم التاريخي إبداعاً عندما يصبّ في صالح الجدل المذهبي أو الديني أو الفئوي، فيما هو جناية أو مؤامرة أو ضعفاً علميّاً عندما يكون الأمر على حساب معتقدي أو مذهبي أو جماعتي!
قبل سنوات كنت ألقي سلسلة محاضرات حول الوضع في الحديث لمجموعة من طلاب العلوم الدينية، فنقلت لهم حديثاً حول قصّة سفينة نوح من بعض كتب أهل السنّة، وبيّنت عناصر الوضع في هذا النقل التاريخي، وعندما كنت ألقي الحديث على مسامع الإخوة الطلاب كنت أتأمّل في تعابير وجوههم، فرأيت أنّه بمجرّد أن نقلت القصّة المرويّة عن طواف سفينة نوح حول الكعبة وصلاتها صلاة الطواف وبعض التفاصيل الأخرى، ظهرت معالم السخرية والاستهزاء والضحك على الوجوه، لقد شعروا جميعاً بأنّ هذه القصّة مختَلَقَة، ولم ألاحظ أنّ أحداً تردّد في كونها كذلك، وقد تعمّدت أن أفعل ذلك أولاً، لأقول لهم بعد ذلك بأنّ هذه القصّة وردت بطرق الشيعة أيضاً، بل في طرق الشيعة وردت زيادة غريبة وهي أنّ سفينة نوح صعدت إلى منى، ثم رجعت فطافت طواف النساء أيضاً! في هذه اللحظة بالذات حصل بعض الصمت، فقد فوجئ الجميع بذلك، وقال لي أحد الطلاب الذين كانوا يضحكون قبل ثوانٍ: ألا يحتمل تفسير الحديث بكذا وكذا بما يرفع التهمة عنه؟! لقد تبدّل الوضع تماماً، فقبل لحظات كان العقل متحرّراً ويفكّر بدون ضغط، بل لعلّه كان مندفعاً بسبب كون الحديث من مصادر أهل السنّة، فأطلق العقل العنان لنفسه بجرعة زائدة هذه المرّة، لكن وبمجرّد أن أدرك أنّ الرواية ـ وبشكل أكثر غرابة ـ موجودة عند الشيعة أيضاً وفي كتاب الكافي للشيخ الكليني رحمه الله، قام العقل بإعادة تموضع سريع، ليعيد إنتاج المعرفة بطريقة أخرى. لماذا؟ لأنّنا نقرأ نصوص التاريخ والحديث بطريقة أيديولوجيّة، لا بطريقة علميّة موحّدة ومنهجيّة تتعامل بأكاديميّة وحِرفيّة ونزاهة عالية مع النقل التاريخي أينما كان (وبالمناسبة فالرواية عند الشيعة ضعيفة السند من أكثر من جهة، ولا أريد أن أتبنّى نقدها المتني الآن أو أنفيه، كما لا أقصد رفضها هنا أو تأييدها، وإنّما هو مجرّد مثال يقع مثله كثيراً عند مختلف التيارات والمذاهب والفئات).
هذه هي المشكلة التي تستدعي التأويل والتكلّف والتبرير، والحلّ هو تحرير العقل من هذه الثنائيّات، وتحريره من العاطفة والأمزجة العامّة والخاصّة، وتحريره من التقليد والاتّباع، لينهج نحو الاجتهاد والإبداع إن شاء الله.
اكثر من رائع….بارك الله لنا فيكم..وافادنا اكثر من علمكم ..وجزاكم خيرا
السلام عليكم
اسمي عمر ميرزا من (المخالفين) لكني شكاك ولا أشعر بانتماء مذهبي خالص لفئة دون أخرى وأنوي البحث بحثا منهجيا خالصا لله لعلي ألمس جانبا من الحقيقة ولعلها درست.
محدثكم عامي لكني مطلع قليلا على اختلاف المسلمين وخاصة السنة والشيعة بسبب الظروف التاريخية التي نشهدها، وقد استمعت وقرأت لرجال من المذهبين ومذاهب أخرى وما رأيت مثلكم في الإنصاف والبحث الموضوعي وحسن الخلق.
لم أر مثلكم والله وهذا نادر جدا في المشرق حسب تحربتي.
جزاكم الله خيرا وسددكم.