السؤال: قلتم في أحد منشوراتكم على الفيسبوك: (ليس من الضروري أن يقدّم الدين لي حياةً أفضل من حولي حتى أقبله. المهم أن ينجح في أن يعطيني حياةً أفضل في أعماقي، في ظلّ أيّ نوع من الحياة المحيطة التي أعيش). أنا أوافقكم على هذه المقولة, ولكن لماذا نرى المجتمعات المتديّنة يشوبها الكثير من الفساد. على الأقلّ هذا ما نشهده في لبنان, فأنا أسمع الكثير من الانتقادات لمجتمعنا بالمقارنة مع المجتمع المسيحي على سبيل المثال، وذلك من ناحية التعامل في المجتمع على كلّ الصعد، ولهذا يقولون هنا بأنّ العمل عند المسيحيين أفضل من العمل عند مسلم بمائة مرّة، ولو دخلت قرى المسيحيين في لبنان فسترى النظافة والترتيب… أليس هذا انعكاساً للدين. إنّني مؤمن بأنّ ديننا هو الصحيح ولا يجب أن نلومه, لكن أليس ديننا تعامل, وإذا كان كذلك فالمفروض أن أكون مرتاحاً أكثر في مجتمعي… وبصراحة في لبنان لولا المقاومة لعاش الشيعي مطأطئ الرأس ممّا يسمع من الشيعة أنفسهم. فأنت بالتأكيد سمعت لقب "المتاولة" الذي يطلقونه على كلّ تصرّف سيء.. فأين انعكاس التديّن على الحياة؟! (مصطفى، لبنان).
الجواب: أولاً: ليس معلوماً أن تكون محاسن المسيحيين التي ذكرتموها راجعةً إلى الديانة المسيحية فقط، بل قسم كبير منها يرجع إلى الثقافة الغربية التي تأثرت بها المسيحية نفسها.
ثانياً: إنّ الدين ـ مثل أيّ قيمة أخلاقية أو معرفيّة ـ ليس لديه قدرة الفعل والتأثير من دون الإنسان، فالإنسان هو الذي يقوم بفعل التديّن وهو الذي يقوم أيضاً بفهم الدين وتحويله من نصوص ووقائع تاريخية إلى سيكولوجيا ومفاهيم مؤثرة في الاجتماع والتاريخ. ولو أردت أن أشبّه الأمر لشبّهته بمثال الكرة الذي يتحدّث عنه الفيزيائيون، فالأنبياء والرسل والأولياء هم بمثابة من يرمي الكرة ويدفعها نحو الأمام فتتحرّك، ولو أنّ هذه الكرة لم يقف في وجهها مانعٌ لاستمرّت بالحركة إلى ما لا نهاية، لكنّ الموانع هي التي تخفّف من سرعة الكرة وحركتها، لقد أطلق الأنبياء كرة الإيمان في الحياة الإنسانيّة، وفي اللحظات الأولى للإطلاق تكون السرعة جيدةً عادةً، إلا أنّ بنية الإنسان الطامحة للشرّ في بعض الأحيان تقف مانعاً عن استمرار هذه الكرة في المسير إلى ما لا نهاية وبنفس الوتيرة، ولهذا يقولون بأنّ الدين يحتاج إلى مجدّد كلّ قرن، فهذه الفكرة ـ بصرف النظر عن ضعف مستنداتها الحديثية والتاريخية ـ تعني هنا أنّ الأولياء ورجال الإيمان الذين يظهرون في كلّ عصر يشكّلون (إلى جانب عناصر أخَر) حرارةً إيمانية تعيد للكرة مسيرتها بدرجة ما. وما يحول دون مسيرة كرة الإيمان هذه شيئان: الأول هو المنطق الطبيعي الحاكم على الإنسان في هذه الدنيا والذي هو جزء من المنطق الابتلائي العام. والثاني هو جانب الشرّ من الإنسان نفسه. أمّا المنطق الطبيعي فهو أنّ الإنسان محكوم لنظام فهم عقلي وذهني غير معصوم، فهو يخطأ. وامتداد الزمن وتعقيدات اللغة وتشابكات الأمور و.. تجعل الحقّ ملتبساً، الأمر الذي يخلط الفهوم الصحيحة للدين مع الفهوم الفاسدة، ويؤثر ذلك في عدم سلامة ظهور الدين في حياة الإنسان بشكلٍ نقي، ولهذا إذا أردنا أن نعرف ماذا يريد الدين بشكل دقيق فعلينا أن نحفر في الطبقات الجيولوجية للنص الديني ـ كما كان يسمّيها الراحل الدكتور محمد أركون ـ لأنّ فهوم العلماء تراكمت على النصّ وألقت عليه غشاوة، وليس ذلك عن قصد سيء منهم، بل هذا هو منطق الخلقة وضعف الإنسان (وخلق الإنسان ضعيفاً). وأمّا جانب الشرّ من حياة الإنسان، فهو المصالح التي تتلاعب بالدين أو ضدّه، فتعيق قدرته على الاستمرار. وهذا كلّه يعني أنّنا نخطأ عندما نظنّ ـ كما هي الحال السائدة في أوساط كثير من المتديّنين ـ أنّ مشاكل مسيرة كرة الإيمان كلّها ترجع إلى عنصر الشرّ في الإنسان، وكذلك نخطأ عندما نطهّر البشر ونصوّر كلّ أخطائهم في مجال الدين على أنّها من مستلزمات المنطق الطبيعي للأشياء، خلافاً لما يميل إليه أمثال الدكتور عبد الكريم سروش.
ثالثاً: لو طبّقنا هذا الكلام على ما ذكرتموه في سؤالكم، فسوف نرى أنّه كلّما كنّا متخلّفين في عمليّة الفهم السليم انعكس ذلك تخلّفاً على الدين الذي يحلّ في عقولنا، والذي يحرّك الإنسان هو فهمه للدين لا واقع الدين، مثل وجود حيوان خلفك فإنّ الذي يحرّكك للهرب منه هو علمك بوجوده لا نفس وجوده فقط. إذاً فالأداء الديني تابعٌ بدرجة كبيرة لفهمنا للدين، وفهمُ الدين عملية بالغة التعقيد كفهم سائر الأمور، فإذا كانت عقولنا صغيرة أنتجت فهما مختزلاً للدين، وإذا كانت عقولنا كبيرة أنتجت فهماً أفضل. وهذا كلّه يؤكّد لنا أنّ سلامة الفهم مرحلة تسبق أيّ شيء. وطبعاً سلامة الفهم في حدّ نفسها ليست مسألة بسيطة، بل هي بنفسها عقدة العقد كما يراها فلاسفة المعرفيّات. ولكي أضيء على المشكلة المعرفيّة في الفهم ألفت نظركم إلى أنّ المسلمين في بعض الأحيان غرقوا في الجانب العقائدي للدين أو التاريخي القصصي، ولم يدخلوا إلى الدين المعاملي، فتجد اليوم مجتمعات إسلامية بأكملها تنزع نحو فهم الدين على أنّه ظاهرة صوفية غنوصية، وهذا يؤدّي إلى غياب الحياة الاجتماعية عن فهم الدين، فعندما يدخل المسجد يبكي في الدعاء إلى حدّ تبلّل لحيته، لكنّه بمجرد أن يخرج يغتاب الناس؛ لأنّ الثقافة المتبلورة للدين هي ثقافة غير اجتماعيّة. إنّ الدين أتى لتذكير الإنسان بأشياء هي في الأصل موجودة عنده، ولإعطائه أشياء أخرى جديدة، فكلّما رجعنا إلى الوجدان والضمير والصفاء الروحي والفطرة الصافية البسيطة، بعيداً عن تعقيدات الفلاسفة وضجيج الخلافات الفكرية، كان بالإمكان الاقتراب أكثر من رسالة الدين، فالدين قبل كلّ شيء خاطب وجدان الإنسان، بل هو في جزء مهمّ منه ليس سوى صوت الوجدان الآتي من الخارج هذه المرّة. وإذا اقتربنا أكثر من رسالة الدين نكون قد سمحنا له بمزيد من التأثير في حياتنا، لتكون العلاقة جدليّة ثنائية هذه المرّة. فالوجدان البسيط الصافي للبشر هو وقود للدين، والضمير والفطرة هما اللذان ينادياننا باستحضار هذا الوجدان مقدّمةً لحلول المزيد من القيم الدينية في حياتنا.
رابعاً: وأمّا على صعيد عنصر الشر في الإنسان، فمن أبرز أمثلته رجال السلطة الذين يواصلون استغلالهم للدين منذ قرون، ويلعبون به كما يشاؤون ويؤثرون في الكثير من رجال الدين. هذا كلّه ينتج أنّ إصلاح الدين لحياتي بعد غياب عصر الوحي ليس كإصلاحه لها في عصر الوحي، ففي عصر الغياب يجب أن أبدأ من الذات الإنسانية لكي أصلح فهمها للأشياء، منطلقاً من قواسم مشتركة بين الدين والوجدان والعقل، ثم أسمح لها بالدخول إلى الحقل الديني لفهم الدين وتفصيلاته، فإذا تمّ ذلك أنتجنا فهماً نفترض أنّه أفضل للدين، فإذا حصل هذا الأمر انتقلنا إلى مرحلة إصلاح الحياة عبر الدين، فيما يعني الدين من مساحات الحياة.
خامساً: هذا كلّه يعني أنّ هناك في أعماقنا ـ من وجهة نظري الشخصيّة ـ ما هو دين وما هو قراءة للدين، أمّا ما هو دين، فهو القيم الروحية والخلقية والعقلية والوجدانية الكامنة في أعماق الإنسان ـ كلّ إنسان ـ بحيث يشعر بها بالإحساس ولا يدركها بالتفكير فقط، هي قوى فاعلة في أعماق النفس ونوازع كامنة، مثل النزوع إلى الحق والخير والعدالة والمطلق والحبّ والرحمة وغير ذلك، وأمّا ما هو قراءة للدين فهي الاستنتاجات التي نخرج بها من التفكير والفهم للنصوص الدينية، فكلّما صفت ذواتنا وتوازنت عقولنا وارتقت استطعنا ملامسة رسالة الدين بشكل أفضل، وليس بشكل مطابق لواقع الدين بالكليّة إلا نادراً للغاية.