السؤال: ذكرتم في أحد الأجوبة الموجّهة إليكم حول التقليد، أنّ الدليل النقلي على وجوب التقليد فيه مناقشة، وأنّ أقوى دليل هو الدليل العقلي، أي رجوع الجاهل إلى العالم، سيدي العزيز: لماذا لا يأخذ علماؤنا بهذا الدليل فيرجعون لأهل الاختصاص العلمي في مسألة الهلال مثلاً؟ (أبو حسن العبيدي، العراق).
الجواب: يلتبس هذا الموضوع على كثيرين، فيظنّون أنّ الفقهاء المسلمين يعادون العلوم الحديثة أو يتنكّرون لها، وهذا الأمر ليس صحيحاً في أغلب موارده على الأقلّ؛ لأنّ الفقهاء وعلماء أصول الفقه الإسلامي مطبقون ومجمعون على أنّ العلم واليقين حجّة في لحظته، ما دام موضوعيّاً ينطلق من دراسات إنسانيّة منطقية وممنهجة، سواء انكشف بعد ذلك أنّه أصاب الواقع أم لا. والقضيّة التي تحصل لا تكمن في مسألة مرجعيّة العلم أو عدم مرجعيّته، وإنّما في مكان آخر بعيد عنها، وهو أنّ الفقهاء يرون الحكم الشرعي متعلّقاً بشيء يسمّونه موضوع الحكم، فمثلاً وجوب صلاة الظهر، هذا حكم شرعي، يقول فيه الفقهاء: إنّ تنشّطه (فعليته بحسب اصطلاحهم) وتعلّقه بذمّة المكلف لا يكون إلا بعد تحقّق الظروف الموضوعية للتكليف، وهي هنا أن يكون الإنسان بالغاً عاقلاً وقد زالت الشمس عليه، أي بلغت وسط السماء في المكان الذي هو فيه، فإذا تحقّقت هذه الشروط وغيرها صار وجوب صلاة الظهر عليه منشّطاً وفاعلاً، وإذا لم يحصل ذلك لا يكون الوجوب متعلّقاً به، فلو لم تصبح الشمس في كبد السماء لا يجب عليه أن يصلّي الظهر، رغم أنّ صلاة الظهر موجودة في الشريعة الإسلامية.
لكنّ السؤال هو: من يحدّد لي موضوع الحكم الشرعي؟ بمعنى من الذي يقول لي: إنّ زوال الشمس شرط أساس في تعلّق تكليف صلاة الظهر بنا؟ يجيب الفقهاء هنا بأنّ المرجع في هذا التحديد هو المشرّع نفسه، أي الله سبحانه وتعالى، فالمشرّع ـ كأيّ مقنّنٍ آخر ـ هو الذي يبيّن حكمه الشرعي، ويبيّن حدود هذا الحكم وشروط نشاطه، فيقول لي بأنّ صلاة الظهر مشروطة بالزوال، أو هي مشروطة بشيء آخر، وهو الذي يستطيع أن يرفع هذا الشرط؛ لأنّ الشرط وعدمه شأن تشريعي بيد المشرّع نفسه.
إذا فهمنا هذه القضية البسيطة ننتقل إلى الخطوة التالية، حيث لاحظ العلماء عند مراجعتهم للنصوص الدينية أنّ النصوص على حالتين: الحالة الأولى: أن نجدها تضع الحكم الشرعي على عنوان واقعي، دون أن تتدخّل في هذا العنوان نفسه، ومثال ذلك الزوال، فإنّ النصوص قالت بأنّ صلاة الظهر مشروطة بوصول الشمس إلى وسط السماء، وهو المسمّى بالزوال، أو قالت النصوص بأنّ صلاة الصبح ينتهي وقتها بشروق الشمس، أو قالت النصوص بأنّ شرب الماء جائز، أو قالت النصوص بأنّ لحم الخنزير يحرم أكله، وهكذا. وهنا يرى الفقهاء أنّ النص إنّما ربط الحرمة بلحم الخنزير،، وربط الجواز بالماء، وربط الوجوب بالزوال، وربط القضاء بشروق الشمس، لكنّه لم يتدخّل في معنى هذه الأمور، فشروق الشمس أمر واقعي ربط الشارع قضاء صلاة الصبح به، ولم يخترع المشرّع مفهوم شروق الشمس، ولا أعطى تفسيراً خاصّاً له به، وهذا معناه أنّ الحكم الشرعي هنا مترتّب على الشروق والزوال وكون المأكول لحم خنزير أو المشروب ماءً، أمّا من يُثبت لي أنّ هذا المأكول هو لحم خنزير، ومن يثبت لي أنّ هذا المشروب هو ماء، ومن يُثبت لي أنّ هذا الوقت هو الزوال، وقد عبرت الشمس كبد السماء؟ فهذا شأنّ بشري تركته الشريعة لوسائلك المعرفيّة والإثباتيّة والعلميّة، وفي هذه الحال لو جاءت العلوم وأثبتت بالدقّة أنّ الزوال حصل في المنطقة التي أنت فيها، أو الشروق قد حصل، أو هذا اللحم لحم خنزير نتيجة إجراء الفحوصات عليه، ففي هذه الحال يؤخذ بهذه العلوم، فالعلم حجّة وله قيمته المعرفيّة.
أمّا الحالة الثانية، فهي أن يتدخّل المشرّع نفسه في صياغة مفهوم جديد للشيء الذي ربط هو نفسه الحكم الشرعي به، وهذا شيء يحصل في الفقه الإسلامي وفي القوانين أيضاً. لكن كيف أعرف ذلك؟ أعرف ذلك بمراجعة النصوص الدينية نفسها، وهنا لاحظ الفقهاء أنّ الشريعة الإسلامية ونصوصها ربطت الصيام برؤية الهلال، ولم تربطه بواقع الشهر، هكذا فهم الفقهاء المسألة من النصّ، ولك الحقّ في أن تناقشهم في فهمهم هذا، لكنّهم يقولون بأنّ النص ما دام قد ربط وجوب الصيام برؤية الهلال، فهذا معناه أنّه لم يجعل وجوب الصيام رهيناً لثبوت وتحقّق الشهر الواقعي التكويني، كما كان وجوب الظهر رهيناً لواقع الزوال التكويني، ومن هنا اخترع الفقهاء شيئاً أسموه الشهر الشرعي مقابل الشهر التكويني، وقالوا بأنّ الشهر التكويني يبدأ منذ خروج الهلال من تحت شعاع الشمس وفراره من المحاق، أمّا الشهر الشرعي الذي فهمناه من النصوص، فيعني رؤية الإنسان للهلال وليس نفس خروج الهلال. إنّ القانون هو اعتبارات تشريعيّة بيد المشرّع، فله أن يربط أحكامه بأيّ شيء أراد، وهنا إذا جاءت العلوم كلّها لتثبت أنّ الشهر قد بدأ، فإنّ الفقيه يحترمها ويجلّها، ويقول: إنّني أقطع وأؤمن معكم بأنّ الشهر التكويني قد بدأ، ولا مشكلة عندي، لكنّ وجوب الصيام ـ بحسب ما فهمت أنّا الفقيه شخصيّاً ـ ليس مربوطاً بما أثبتته العلوم من الشهر التكويني، بل مرتبط بما أثبته النصّ من الشهر الشرعي، وهذا ليس إنكاراً لقيمة العلم، بل هو تغايرٌ بين ما يُثبته العلم وبين ما يبني الشرعُ وجوبَ الصيام عليه، هكذا يفهم الفقهاء القضيّة.
سأعطي مثالاً آخر، مسألة الحيض، فالفقهاء لديهم أحكام مرتبطة بالحيض، مثل ما هو المعروف بينهم من أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيام، وهنا إذا جاء العلم وأكّد أنّ هذا الدم الخارج من هذه المرأة هو حيض، رغم أنّه لم يستمرّ أكثر من يوم واحد، وأنّه هو نفسه الدم الذي يتكوّن في الرحم نتيجة أوضاع خاصّة تؤدّي إلى خروجه عند العادة الشهرية. إنّ الفقهاء هنا يقولون للعلم: نحن نحترم اكتشافك وإخبارك لنا، لكن مع ذلك نحن نقول للمرأة بأنّه يجب عليها أن لا تعتبره حيضاً، لماذا؟! لأنّنا فهمنا من النصوص أنّ الشرع اخترع مفهوماً شرعيّاً قانونيّاً للحيض غير مفهومه التكويني، ورتّب الأحكام كلّها على هذا المفهوم الشرعي، فصار هناك حيضٌ تكويني، وصار هناك حيض شرعي، وأحكام الحيض تترتّب على الحيض الشرعي، فيما يثبت العلمُ الحيضَ التكويني. وبهذا نفهم أنّ عدم عمل الفقهاء أحياناً بمواقف العلم يرجع إلى اختلاف موضوع الحكم الذي ترتّبت عليه الأحكام وبيّنته النصوص بحسب فهم الفقهاء. وإذا أردت أنّ تناقش الفقهاء في فهمهم فليس المدخل للنقاش معهم هو أنّكم وقفتم بوجه العلم، فهذا المدخل غير صحيح، بل تناقشهم في أنّ فهمكم للنصوص على أنّها أرادت إثبات شهرٍ شرعي غير الشهر التكويني، أو أرادت إثبات نفاس أو حيض شرعي غير النفاس أو الحيض التكويني، أو أنّها أرادت إثبات منيٍّ شرعي للمرأة غير المنيّ التكويني الذي ينفي العلم وجودَه أو غير ذلك… هذا الفهم منكم غير صحيح، فمركز الموضوع هو فهم النص وسلامة هذا الفهم، لا تناقض الشرع مع العلم في هذه القضايا.
وعليه، إنّ العلم حجّة مطلقاً في كلّ الأمور عند الفقهاء، بل لديهم بحثٌ في أصول الفقه تحت عنوان (حجّية القطع والعلم) يُطبِقُون عليه في الجملة، وإذا رأينا عدم أخذ الفقهاء أحياناً بنتائج العلوم، فهذا معناه أنّ موضوع الحكم الذي تترتّب عليه الأحكام والنتائج القانونية ليس هو الواقع الذي يكشف العلم الحديث عنه، وإنّما هو أمرٌ جعليّ اعتباري تشريعيّ قانوني يفترضه الشارع المقدّس نفسه ويبني الأحكام عليه، كالشهر الشرعي والحيض الشرعي وغير ذلك. ومنه نفهم أنّ المدخل لمناقشة الفهم هو منهج فهمهم للنصوص لا تصادم فهمهم مع العلم الحديث، كيف وهم يجمعون على ضرورة الرجوع لأهل الخبرة، ويرتّبون آلاف الآثار على أقوال أهل الاختصاص في مختلف الأبواب الفقهيّة. وقد كانت لي بعض البحوث النقديّة المتواضعة على طريقة فهم الفقهاء لهذا الموضوع، لا مجال للحديث عنها الآن؛ بسبب ضيق المقام، نتركها لمناسبة أخرى. كما يهمّني أن أشير أخيراً إلى ضرورة الإقرار بأنّه توجد حالة عند بعضٍ قليل من العلماء، من الجهل بواقع ما وصلت إليه العلوم الحديثة وهذا يوجب عدم تصديقهم أحياناً بما تقوله هذه العلوم، ويعتبرونها ظنّاً أقلّ من اليقين وأقلّ من الاطمئنان، وهذا لا ينبغي إغفال وجوده في بعض الأوساط، وطريق تلافيه هو بفتح آفاق طلاب الحوزات الدينية على المنجزات العلمية الجديدة وطريقة تعاطيها مع الأمور.
السلام عليكم. ماذا تقولون للذي يشنع ويفسق عالم من الفقهاء لمجرد انه يستخدم العلوم الحديثة لاسناد الحكم الفقهي.