السؤال: شيخنا العزيز، لا يسعني وأنا أتصفّح موقعكم المبارك إلا أن أسأل الله لكم دوام التوفيق والتسديد، ففيه آراء صريحة وواضحة لكثير من المسائل الشائكة… شيخنا الكريم، أحببت السؤال عن عدم إجزاء الصلاة جماعة خلف إمام ليس إماميّاً لماذا؟ أليست صلاته ـ بناءً على قاعدة الإلزام (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) ـ صحيحة وفق مذهبه وإن كانت باطلة بنظرنا للتكتّف أو لقول آمين؟ فكما يستطيع الإمامي الزواج من مطلّقة غيره من أبناء المذاهب الأخرى وإن كان الطلاق باطلاً بنظره بناءً على القاعدة المذكورة، لماذا لا يستطيع تصحيح صلاة غير الإمامي بنفس القاعدة فيجوز له الصلاة خلفه؟! ودمتم في أمان الله وحفظه (علي الجودي).
الجواب: هناك قاعدتان في الفقه تتعلّقان بحالات اختلاف التشريعات بين المذاهب الإسلاميّة، بل عمّمهما بعض الفقهاء لاختلاف التشريعات بين المسلمين وغيرهم، وهما قاعدة الإلزام وقاعدة الإمضاء، ورغم ما يلوح من بعض الكلمات من وحدة القاعدتين، إلا أنّ الفقهاء المتأخرين ميّزوا بينهما، وذكروا أنّه كثيراً ما يقع الخلط بين القاعدتين فتتشوّش الصورة على بعض طلاب العلوم الدينية فضلاً عن غيرهم. فقاعدة الإلزام تقول بأنّ أيّ تصرّف يصدر من شخص غير إمامي يعتقد هو بصحّة تصرّفه، فيما الإمامي يعتقد ببطلان ذلك التصرّف، فإنّ بإمكان الإمامي أن يتعامل مع الطرف الآخر وفق اعتقاده بالصحّة، فيُلزمه بما اعتقد به، وتكون نتيجة قاعدة الإلزام لمصلحة الإمامي دون أن تخرق اعتقاد غير الإمامي، فمثلاً لو طلّق السنّي زوجته بلا إشهاد الشاهدين العدلين، فإنّ هذا الطلاق صحيح في الفقه السنّي، بينما هو طلاق باطل في الفقه الإمامي، ففي هذه الحال تجري قاعدة الإلزام، وتكون نتيجتها أنّ الإمامي يمكنه الزواج من مطلَّقة هذا الشخص، فيُلزمه بعقيدته التي ترى صحّة طلاقه، وبهذا يكون الإمامي قد حصل على مصلحة، وهي إمكانيّة الزواج من المطلّقة بلا إشهاد، دون أن يكون فيما فعله الإمامي ما ينافي اعتقاد غير الإمامي؛ لأنّ المفروض أنّ غير الإمامي يرى الطلاق صحيحاً، ومن ثم فالزواج التالي سيكون صحيحاً أيضاً. فقاعدة الإلزام تعني البناء على ما يعتقده الآخر ولو لم تعتقده أنت، بحيث يرجع هذا البناء لمصلحتك دون أن يخرق اعتقاد الآخر. أمّا قاعدة الإمضاء فهي بالعكس، إذ لن تكون النتيجة راجعةً لمصلحة الإمامي بالضرورة، فلو تزوّج السنّي من امرأة بطريقة نحكم نحن ببطلانها فيما يحكم هو بصحتها، ففي هذه الحال لا تجري قاعدة الإلزام، بل تجري قاعدة الإمضاء، أي إمضاء نكاحه الذي هو باطل من وجهة نظرنا (لكلّ قوم نكاح)، وإمضاء النكاح ليس لمصلحتنا بالضرورة، إذ يمنع الشيعي من التزوّج بهذه المرأة بعد فرض تصحيح العقد الذي وقع بينها وبين زوجها، وإن كان هذا العقد من وجهة نظرنا باطلاً، فعادةً ما تكون قاعدة الإلزام لمصلحة الشيعي، فيما قاعدة الإمضاء بالعكس، ولعلّه يمكن بالتحليل إرجاع القاعدتين إلى خصوصيّة واحدة.
وهنا لو أخذنا مثال صلاة جماعة، فكيف يمكن تطبيق قاعدة الإلزام؟ فبماذا نحن نلزمه؟ فهو يرى صحّة صلاته، وليس في صلاتنا خلفه أيّ إلزام له قانونيّاً، وظاهر نصوص قاعدة الإلزام هو خصوصيّة الإلزام قانوناً، بحيث نفرض عليه الأثر الذي يعتقده وإن لم نكن نحن نعتقده، وأين هي عملية فرض الآثار في صلاة الجماعة؟! ومن هنا قد يشكّك في شمول قاعدة الإلزام لمثل صلاة الجماعة، ويدّعى انصرافها عن مثل هذه الموارد، ولهذا يلاحظ الباحث أنّ تطبيقات الفقهاء لقاعدة الإلزام كانت قليلةً في الفقه، وغالباً ما جرى تطبيقها في بابَي: الطلاق والإرث، وما ذلك إلا لوجود هذه الحيثيات الإلزاميّة القانونية في مثل هذه الموارد، بحيث يندر أن تجد لها تطبيقاً في باب العبادات مثلاً. هذا هو فهم الفقهاء للموضوع، وهو الذي برّر عدم إجرائهم مثل هذه القاعدة في باب صلاة الجماعة.
بل حتى لو فرضنا أنّ قاعدة الإلزام تجري هنا، فإنّ العلماء والفقهاء لم يُبطلوا صلاة الجماعة خلف غير الشيعي لأجل أنّ صلاته باطلة فقط، حتى نستعين بقاعدة الإلزام لترتيب آثار الصحّة على صلاته، بل إنّ بعض مستنداتهم هنا ترجع:
أ ـ تارةً إلى اعتقادهم بعدم عدالة غير الشيعي، حيث يشرطون في العدالة سلامة الاعتقاد، فما لم يكن سليم الاعتقاد فلن يكون عادلاً، وحيث إنّ العدالة من شروط إمام الجماعة في الفقه الشيعي، فلا تصحّ الصلاة خلف غير العادل حتى لو كانت صلاته صحيحة في نفسها، وسيكون غير الإمامي غير عادل فتبطل الجماعة خلفه، فكما لا تصحّ الصلاة خلف غير البالغ، وخلف المرأة لغير المرأة، وخلف من هو غير صحيح القراءة خلقةً، وخلف الأعرابي، وخلف من أقيم عليه الحدّ، وخلف القاعد للقائم، وخلف المضطجع للقائم والقاعد، على المشهور في هذه كلّها، رغم صحّة صلاتهم في نفسها، كذلك الحال في غير الإمامي، فإنّه لا تجوز عندهم الصلاة خلفه جماعة رغم صحّة صلاته في نفسها أو لقاعدة الإلزام أو غيرها، بل لو فرض أنّ غير الإمامي لم يرتكب أيّ شيء في الصلاة يوجب بطلانها بحسب الفقه الإمامي، كما لو لم يتلفّظ بآمين ولم يتكتّف في الصلاة أو نحو ذلك، ومع ذلك لا تصحّ الصلاة خلفه جماعة، وهذا يعني أنّ العبرة ليست بصحّة صلاته أو بطلانها عندهم، بل لخصوصيات أخرى.
ب ـ وأخرى للنصوص الخاصّة التي وردت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في عدم إجزاء الصلاة خلف غير الشيعي، لا لأنّ صلاته باطلة، بل لأنّ من شروط الجماعة مستقلاً أن لا يكون الإمام غير شيعي، وعليه فقاعدة الإلزام هنا لم تعد تجري ـ لو فرضنا جريانها ـ بعد قيام الأدلّة الخاصّة على المنع عن الصلاة خلف غير الشيعي.
هذا هو عمدة مبرّر مشهور الفقهاء الشيعة في هذه المسألة، وإن كان هناك من استند أيضاً لدليل بطلان صلاتهم نتيجة عدم قبول الأعمال بدون ولاية. وأمّا القول الراجح فنتركه لمناسبة أخرى.