السؤال: قبل أيّام سمعت سماحة السيد (…) ينقل مضمون رواية مفادها أنّ المعصومين عليهم السلام يقولون لأصحابهم بأنّنا إذا ذكرنا لكم حديثاً فسلونا أين هو في كتاب الله، فإذا كان هذا صحيحاً، فمن أين جاءت ثقافة أنّه لا يجب على الفقيه أن يجيب المكلّف إذا ما سأله عن دليله على الحكم الشرعي؟ (عماد الرفاعي، العراق).
الجواب: لقد كتبت سابقاً (انظر: دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 1: 56 ـ 57) حول أنّه من المناسب أن نرفق الأحكام الشرعيّة ببعض المستندات لكي تتبيّن المسألة للناس، وأنّه بهذه الطريقة نرفع مستوى الوعي الديني عند الناس أيضاً، ولكنّ الحالة العامّة في المؤسّسة الدينية ترفض أو تحجم عمليّاً عن هذا الأمر، وذلك في تقديري لسببين:
السبب الأوّل: إنّنا لو بيّنا للناس مستند الحكم الشرعي وكشفناه على الطاولة فربما يقوم بعض الناس بادّعاء أنّه لا يفهم ما فهمنا، فيستعجل الحكم ويتمرّد على الفتوى والموقف الشرعي، لهذا فالأفضل أن تظلّ هذه الأمور عصيّةً على الناس مخفيّةً عليهم.
وهذا المبرّر لا أجده صحيحاً، فإذا كانت الحجّة مقنعةً، أو إذا بُيّن للناس عدم حجيّة فهمهم ما لم يكونوا من أهل الاختصاص فلا ضير، ولو قام أحد بفعل ذلك هنا أو هناك فهذه حالة خاصّة يتحمّل هو مسؤوليتها، ومن ثمّ فالناس اليوم صاروا كثيراً ما يسألون عن مستند الحكم الشرعي، بل تنتاب بعض الشرائح الاجتماعيّة حالة من انعدام الثقة بأدلّة العلماء، فتصدّي العلماء للبيان بأسلوب جميل يمكن أن يكون مساعداً على رفع عطش الناس والسائلين في هذا الإطار، ورفع بعض الإشكاليات من الأذهان، وفي بعض الأحيان مساعدة الفقيه نفسه على تصحيح مفاهيمه من خلال إشكال هنا أو هناك، ولو من شخص غير مختصّ.
السبب الثاني: إنّ بعض المسائل الفقهية لا يمكن بيان مدركه للناس؛ لأنّه يدخل في الأمور التخصّصية، أو فيه تعقيدات يصعب تبسيطها للناس، لهذا فإنّ إدخال الناس في هذه التفاصيل قد يكون فيه المضرّة لهم والتباس الأمر، فبحث مثل موضوع بيع المعاطاة لا يمكن بسهولة بيان كلّ مستنداته للناس، أو بحث مثل اشتراط إذن الأب أو الجدّ في زواج البنت الباكرة الرشيدة أو غير ذلك، فضلاً عن جملة من المسائل الأصوليّة أو الفلسفية والكلاميّة.
وهذا الجواب صحيح من وجهة نظري، فإنّ لكلّ علم حرمته ومصطلحه الخاصّ به، وليس وجود لغة خاصّة بكلّ علم أو مصطلح خاصّ بعيبٍ فيه أو رغبة بالضرورة في إغلاق المفاهيم، بل طبيعة العلوم ـ لاسيما في المسائل التفصيلية البحثيّة ـ تستدعي خلق المصطلح والبناء البحثي الذي يصعب جدّاً توضيحه لمن لم يقرأ في هذه الموضوعات إلا ليومٍ أو يومين، وأظنّ بأنّ هذا الأمر ليس خاصّاً بالعلوم الدينية، فمن لا اطّلاع له على علم النفس ولم يسبق أن قرأ فيه كتاباً، سوف يجد أنّ الكتب المتخصّصة في هذا العلم بالغة الصعوبة غزيرة المصطلح غير مفهومة، فلماذا نعيب على العلوم الدينية أن يكون حالها كذلك وهي جزء من العلوم الإنسانيّة؟! أم هي عقدة الإنسان العربي والمسلم عندما لا يرى للعلوم الدينية حرمةً أو قيمة فيما يعظّم أيّ قول يصدر من العلوم الأخرى ولو بلا دليل، ولا نجده يطالب بالدليل أبداً، رغم الإخفاقات التي تبتلي بها بعض هذه العلوم في عالمنا الإسلامي على الأقلّ، بل تجده يلهث راكضاً خلف أفكار لم تصل حدّ أن تبلغ أن تكون علماً أساساً.
وعليه، فمع موافقتي على أصل هذا المبرّر، لكن ليست كلّ المسائل الفقهية والدينية كذلك، بل هذه حالة خاصّة، كما أنّه مع ذلك يمكن توضيح عموميات الموضوع بشكل إجمالي للآخرين والإشارة إلى مفاتيح، مع بيان أنّ هذا الموضوع له تفصيلات واسعة يصعب بيانها هنا، وفي هذه الحال نجمع بين السبب الثاني والذي هو سبب معقول وبين محاولة تبيين مستندات الأحكام للناس.