السؤال: ورد لكم جواب عن سؤال حول نظرية أحمد الكاتب في قضية المهدوية، ولدي بعض الأسئلة والاستفسارات: 1 ـ لم تجيبوا على السؤال الذي وجّه إليكم، فهل ترون صحّة نظرية المهدي النوعي أو أمثالها؟ 2 ـ لقد لاحظت من خلال مدحك وتقديرك لهذه الآراء التي هي متناقضة كلّ التناقض مع ما نعتقد به نحن الشيعة الاثني عشرية ما يشعر أنّك لا ترفضها أو تعارضها حدّ التناقض، فهل أنت ممّن يعتقد بها أو بجزء منها أو تجد لها مساحة من المقبوليّة تتحرّك بها في ثقافتنا الإسلامية ويمكن الاعتقاد بها؟ 3 ـ في معرض كلامك حول فرضيّة إثبات الحلقات الثمانية بما فيها الحلقة الثامنة والسابعة قلت: إنّنا لو أثبتنا هذه الفرضيّات (فإنّ فرضيّة المهدويّة بالتفسيرات التي أشرتم إليها ستغدو صعبة جدّاً)، فهل ترى شيخنا مقبوليّة هذه الأفكار المهدوية كفرضية فلسفية أو تكامل العقل البشري وعدم استحالتها حتى مع إثبات الحلقات الثمانية؛ لأنّك قلت: ستغدو صعبة وليس مستحيلة، أو أنّ كلمة صعبة جداً جاءت لتعطي مرونة للجدل الدائر مع تلك الأفكار والرؤى ليس إلا…؟ وأشكرك شيخنا العزيز (ش. خ).
الجواب: أولاً: لم يثبت لديّ بطريق مقنع حصر المهدويّة بالمهدويّة النوعيّة فقط.
ثانياً: إنّ احترام الأفكار لا يعني تصويبها، بل يعني أنّ من حقّ الناس أن تجتهد في القضايا الكلاميّة كما تجتهد في القضايا الفقهيّة، وأمّا تقصيرها بينها وبين ربّها فالله أعلم بها، وعليه حسابها، وهو الذي يحقّ له أن يخبرنا في كتابه عن خبايا النفوس، أما نحن فلا نعلمها في الغالب، والمطلوب منّا حمل المسلم على الأحسن، لا أن نفرض أنفسنا وكأنّنا الله العالم بخبايا النفوس والأرواح، فلكلّ إنسان ظروفه التي قد تدفعه لتبنّي فكرةٍ ما خطأً أو صواباً، وليس كلّ من أخطأ فهو فاسد السريرة خبيث الطويّة، ولا كلّ من أصاب الحقيقة فهو طاهر النفس نقيّ الروح، بل الأمور تختلف وتتخلّف، وعلينا بالحجّة والدليل، وقد يكون ما نراه بديهيّ الثبوت هو في عقل الآخرين بديهيّ العدم، هذا هو منطق المعرفة ومنطق العقل الإنساني وتجربيّاته. وفي عالم الفكر والنظر والبحث كلّ الأفكار يجب أن يُتعامل معها كفرضيّات محتملة ويتعاطى معها بالاحترام العلمي، مهما كانت ضعيفة من وجهة نظر الباحث، فإنّ ضعف فكرة لا يوجب الاستهانة بها أو قذفها أو التعالي عليها، فقد تعرّض السيد محمّد باقر الصدر للماركسيّة والمادية والإلحاد وكان يتسم في بحوثه بالأخلاقيّة العالية دون أن يستعمل كلمات نابية أو مهينة أو محقّرة، بل كان منهجه هو منهج تقدير الفكرة، بل والدفاع عنها حيث يمكن، ثم نقدها بآليّات علميّة هادئة، لا بمنطق الاستحالات، أو عبر القول بأنّ هذا غير ممكن، وهو باطل، وفساده ممّا لا يختلف فيه اثنان ولا يتناطح فيه عنزان (على حدّ تعبير الدكتور علي الوردي) فالبحث العلمي له قواعده وأخلاقيّاته، وهو يختلف عن قواعد العمل التعبوي وأمثاله، وإنّني أؤمن بأنّه مهما كانت الفكرة بعيدة عنّي وعن قناعاتي فإنّه يجب في مجال المعرفة أن يُتعامل معها بجدّية كما لو أنّها فكرة قريبة منّي، وذلك لكي أستطيع إنصافها والعمل البحثي الموضوعي عليها والابتعاد عن الذاتيّة قدر الإمكان في الحكم عليها. وكم من فكرة أو فرضية أو نظرية عبر التاريخ كانت من الأفكار الضعيفة الهزيلة المهجورة المنبوذة في زمان، لكنّها عادت وتحوّلت إلى حقيقة علميّة في زمان آخر، وهذا المنطق موجود حتى في العلوم الإسلاميّة، فبطلان المنهج العرفاني وآراء المتصوّفة عند كثير من أهل النصّ الديني يكاد يكون أوضح من البديهيات، فيما فساد منهج أهل النصّ والأخبار وقصوره يكاد يكون أجلى من أيقن اليقينيات عند بعض أهل المعنى وهكذا.
ثالثاً: لست ممّن يؤيّد المنطق الجزمي في المعرفة، بحيث يقول دائماً: قطعاً، يقيناً، جزماً، لا خلاف فيه، مسلّم، لا نقاش فيه، أبده من البديهي، واضح جدّاً، وغيرها من التعابير التي تلغي مساحة الفرضيّات الأخرى في البحث، لهذا يجب التمييز في عالم التعابير بين مدرستين: مدرسة جزميّة لا تؤمن بالتعدّدية المعرفيّة، ومدرسة تؤمن بالتعدّدية المعرفيّة وإمكانيّة النقص في المعرفة، وأنّ المعرفة كلّها ليست حكراً عليّ. وفي أدبيّات المدرسة الثانية سنجد كثيراً تعابير مثل: غالباً، قد، يبدو لي، ربما، يحتمل، بعيد، كثيراً، ليس ثابتاً، مرجوح، راجح، أرجّح، لعلّ، بعض الأحيان، البعض، و.. إنّ اختلاف أدبيّات التعبير بين هاتين المدرستين يدلّ على أنّ كلّ واحدة منهما تنظر للفكر الآخر بطريقة مختلفة، رغم اشتراكهما في كونه فكراً آخر لا يتبنّيانه، فالمدرسة التعدّدية تنظر إليه ـ مهما ابتعد الفكر الآخر عنها ـ على أنّه في ساحة الحوار المعرفي أمرٌ محتمل، وأنّ الجزميّات (الاستحاليّات) هي قضايا محدودة، ويحلّ مكانها العلم الاطمئناني الموضوعي، تماماً كما هي نظرية السيد محمد باقر الصدر في (الأسس المنطقيّة للاستقراء)، وكما هي نظرية بعض العلماء الإخباريين في العلم المطلوب في العقائد والأحكام، كما فصّلتُ ذلك في كتابي (نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي)، فإنّ اليقين هو أن أثبت (أ) لـ (ب)، دون أن أتوصّل بالضرورة لاستحالة عدم ثبوت ألف لباء، ويمكنكم مراجعة البنية التحتية الفكرية لهذا النوع من التفكير عموماً في القضايا الكلامية والفقهية والثقافية والاجتماعية وغيرها في كتابي المتواضع (التعدّدية الدينية، نظرة في المذهب البلورالي، نشر دار الغدير، بيروت، 2001م).
لاحظوا هذا الامتياز بين المدرستين في الأدبيات التعبيرية على مستوى أسماء الكتب والمصنّفات أيضاً، وقد أشرت لذلك في (التعدّدية الدينية)، فالمدرسة الجزميّة تسمّي كتبها بهذه الطريقة ـ وهذه أسماء حقيقية، وهي تعبّر عن عقليّة لاشعورية في امتلاك أطراف المعرفة والحقيقة ـ مثلاً: بُلغة الطالب، منتهى الدراية، كشف الغطاء، المطالب العليّة، الحكمة المتعالية، الشواهد الربوبيّة، كشف اللثام، منتهى المطلب، نهاية النهاية، الكفاية، نهاية الإحكام، النهاية، الكافي، الغُنية، نهاية الحكمة، وسيلة النجاة، منهاج الصالحين، مطالع الأنوار، جواهر الكلام، جامع المقاصد، جامع الشرائع، السيف البتّار، الصواعق المحرقة، منتهى المقال، نهاية الدراية، نهاية الأفكار، الإحكام في أصول الأحكام، الفِصَل في الملل والأهواء والنحل، وغيرها الكثير جداً من مثل هذه الأسماء التي يلاحظ فيها التوجّه المنطقي القائل بالحقيقة الناجزة والنهائية، فيما نجد اللغة الأخرى تتمثل في أسماء كتب مثل: بحوث في علم الأصول، مباحث الأصول، بحوث في شرح العروة الوثقى، المدرسة القرآنية، تأمّلات حول المرأة، الحركة الإسلاميّة هموم وقضايا، مسائل حرجة في فقه المرأة، من وحي القرآن، دروس في فقه الإماميّة، قراءات معاصرة في الفقه الإسلامي، في الاجتماع السياسي الإسلامي، الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي، و.. إنّها اختلافات في نمط التفكير وفي أدبيات التعبير، ومن المتوقّع أن لا يستسيغ أبناء كلّ مدرسة فكر وتعابير المدرسة الأخرى.