السؤال: إذا كان الله سبحانه غنّيّاً بذاته ولا يحتاج الى خلقه في أيّ شأنٍ من شؤوناته، فلماذا خلق الخلق مع عدم حاجته إليهم سبحانه؟ الروايات التي وجدتها بعضها يقول: خلقه ليعبدوه أو ليعرفوه.. ولكنّ الله سبحانه لا يحتاج إلى عبادة الخلق أو إلى معرفتهم إيّاه!! أرجو من جنابكم الكريم أن تجيبوني على هذا السؤال المفصلي في العقيدة الإسلاميّة.. وشكراً لكم (سراج، العراق).
الجواب: هناك جهات من الكلام هنا، أوجز ببعض التعليقات فيها:
أولاً: دائماً يقوم الإنسان بإسقاط ذاته على الأشياء العاقلة التي تشترك معه في العقل، فيرى أنّ مبرّرات فعله يجب أن تكون هي مبرّرات فعل الآخرين، وإذا رأى فعلاً ما ليس له مبرّر لو صدر منه هو، فإنّه سوف يستغرب صدوره من غيره، فيُسقِط عليه عنوان العبثيّة، وهذا يعني أنّ نقطة البداية هي الأنا، ثم قياس غيرها عليها، ثم الخروج باستنتاج.
هذه العمليّة ليست خاطئة؛ لكنّها لوحدها لا تكفي لتفسير الأشياء جميعاً، ولا يوجد دليل فلسفي أو علمي يثبت كفاية عملية القياس هذه في كلّ الأمور، وهذا يعني أنّ افتراض أنّ الله لا يحتاج لنا ليس افتراضاً معيقاً لخلقه إيّانا؛ لأنّ إعاقته معناها أنّنا نصوّر الله على صورة إنسان، ثم نفترض الغايات التي في فعله مشابهةً للغايات التي في فعلنا، وحيث إنّ حجر الزاوية في غايات أفعالنا هي مفاهيم مثل: الحاجة، التكامل، والرغبة، فهذا يعني أنّه لابدّ أن تكون أفعال الله محكومةً لنفس منطق الغايات البشريّة هذه.
هذه الآلية في التفكير لا برهان علميّ عليها بوصفها قانوناً مطلقاً في تفسير الظواهر، ولهذا لا نطبّقها على أفعال الجمادات؛ لأنّنا ندرك أنّ الجمادات لا تتعامل على طريقتنا في الأغراض والغايات، بينما نقوم بتطبيقها كثيراً على الحيوانات؛ لأنّنا نعرف مسبقاً بأنّ هذه المخلوقات تشبهنا كثيراً في طريقة عملنا وردّات فعلنا، فنجري عمليّة القياس هذه انطلاقاً من عناصر التشابه البنيويّة.
حسناً، كيف ينبغي أن ننظر إلى الفعل الإلهي؟ والجواب هو أنّه لا شيء يثبت بالضرورة أنّه لابدّ أن تكون مبرّرات فعل الله كمبرّرات أفعالنا الراجعة إلى حبّ الذات المتفرّع عنه طلب المصلحة أو دفع المفسدة، فكلّ من يقوم بممارسة عملية الإسقاط هذه هو المطالَب بأن يثبت لنا وحدة هويّة الله وهويّة الإنسان من حيث البنية الداخليّة، لكي يتسنّى له أن يقول بأنّ الله يفكّر كما أفكّر، ويتعامل مع الأشياء كما أتعامل، ودوافعه تشبه دوافعي. وما لم يُقم دليلاً على وحدة الهوية أو تقاربها فسوف تصبح عمليّة الإسقاط هذه غير علميّة، إلا إذا قام دليل خاص عليها في حالةٍ هنا أو هناك. والسبب هو أنّ الاختلاف بين الله والإنسان اختلاف عظيمٌ للغاية، وينبغي أخذ درجة حدّة هذا الاختلاف في افتراض أنّ طريقة تعامله مع الأشياء قد تختلف عن طريقة تعاملنا، بمعنى أنّ المنطلقات والدوافع ليست نفسيّة مثلنا.
وهذه النقطة التي أثيرها هنا هي ـ بالتحليل ـ إحدى نقاط الاختلاف في التفكير بين جمهور الفلاسفة والعرفاء من جهة والمتكلّمين من جهة ثانية، إذ يؤخذ على المتكلّمين في الغالب ـ عدا جمع من الأشاعرة ـ أنّهم يدرسون صفات الله وأفعاله وغاياته وكأنّهم يتصوّرونه إنساناً، فيقولون بأنّه سيّد العقلاء، وسيّد أهل العقل، فلابدّ أن يفكّر بالطريقة التي نفكّر نحن فيها. فيما يرى الفلاسفة والعرفاء ـ كثيرٌ منهم ـ أنّ الأمر لا يُدرس بهذه الطريقة دوماً، وأنّه ينبغي الإقرار بأنّ نظاماً ما يحكم ـ إذا جاز التعبير ـ عالم الألوهيّة يختلف تماماً عن النظام الذي يحكم ذواتنا، وأنّ هذه الفرضيّة يجب أن يأخذها الباحث بعين الاعتبار. ولهذا نجدهم يقولون بأنّ الإنسان السالك إلى الله يصبح إلهيّاً، لا أنّ الله يصبح إنسانيّاً، فتأمّل جيداً في الموضوع، فهو نقطة اختلاف منهجيّة كبيرة، فهذا أشبه شيء بالفيزياء الكميّة عندما تقول لنا بأنّنا عندما ندخل عالم الذرّة فسوف تتلاشى كلّ الأنظمة التي كانت تحكم العالم من قبل، وكنّا نتصوّر أنّها قادرة على حكم كلّ شيء، فإذ بها لا تحكم أعماق الذرّة وأسرارها.
ثانياً: لنفرض أنّ الله لأنّه كريم خلق الخلق كي يمنحهم فرصةً للسعادة، بعبادته ومعرفته، دون أن يحتاج هو إلى عبادتهم ومعرفتهم له، فهو شخصٌ ـ مثلاً ـ ينكر ذاته ولا يريد شيئاً من وراء أفعاله لنفسه، بل كلّ ما يريد هو أن يُسعد الآخرين، فخلق (الآخرين) كي يمنحهم فرصة السعادة، فإذا عملوا واستغلّوا هذه الفرصة اكتسبوا السعادة في الآخرة، وإذا تركوها فقد أوردوا أنفسهم في الشقاء.
هذه الفرضيّة لا يوجد ما ينفيها، وعندما نتكلّم في عالم الميتافيزيقا فيجب أن لا نقيس ذلك العالم على ذواتنا كما قلنا، فلسنا نحن نهاية العالم وتمام وجوده، وكلّ الفرضيات تصبح معقولة وممكنة ويجب دراستها ما لم يقم دليل علمي حاسم على بطلانها. حسناً ما المشكلة في الفرضية السابقة، وهي أنّ الله يعطي، وأنّ صفة الكرم والفيض عنده دائمة، لأنّها كمال وجودي، ولهذا كان العالم وكانت الفُرَص، وكان الإنسان. إنّ هذه الفرضيّة ممكنة، ولا يوجد برهان عقلي أو معطى علمي يؤكّد بطلانها، ومجرّد أنّنا لم نثبتها لا يعني ذلك أنّها باطلة، وما دامت ممكنة إذاً فلا موجب لاستنكار خلق الله لنا أو اعتباره عبثاً، فأنت تمنح ولدك ـ أو أيَّ شخص آخر ـ رأس مال لكي يعمل ويبني حياته، ولنفرض أنّك لا تريد شيئاً، بل تريد السعادة له، أيّ مشكلة في ذلك؟ فإذا جدّ واجتهد كسب الفرصة ونال النعيم في باقي عمره، وإلا فقد خسر وبقي إلى آخر عمره في شقاء وضنكٍ من العيش، والعقل يمدح فعلَك ويحسّن عملَك.
ثالثاً: لنفرض أنّه لا توجد بأيدينا فرضيّة ممكنة بوصفها مبرّراً لخلق الله للعالم، حسناً ماذا يعني ذلك؟ إنّه يعني ـ إذا أردنا أن نكون علميّين وأكاديميّين في تعاملنا مع الأمور ـ أنّ عقلنا لم يصل إلى تقديم تفسير علمي لهذه الظاهرة، عنيت ظاهرة خلق الله للعالم من حيث منطلقاتها ودوافعها، لكن هل عدم وصولنا إلى تفسير علمي لفهم منطلقات ظاهرة خلق الله للعالم يعني بالضرورة أنّ هذه الظاهرة عبثيّة أم لا؟
سأذكر مثالاً للتقريب وإن لم يكن مطابقاً، وهو أنّه عندما يواجه العلماء ظاهرةً كونيّةً ما في الفضاء أو في مختبراتهم، ثم يبحثون في تفسير هذه الظاهرة ومبرّرات وجودها، ولكنّهم وبعد مرور عقود من الزمن أو قرون يعلنون أنّهم لم يستطيعوا فهم مبرّر وجود هذه الظاهرة، ما الذي عليهم قوله؟ إنّ عليهم أن يقولوا بأنّنا لم نفهم وجه الحاجة إلى الزائدة الدوديّة في الجسم. لكن ليس لهم أن يقولوا بأنّ الزائدة الدوديّة لا فائدة منها بالتأكيد، ويبرّرون قولهم بأنّنا لم نتوصّل إلى فائدة لها. لماذا؟ لأنّ تجربة المعرفة الإنسانية تؤكّد باستمرار أنّ عدم القدرة على فهم شيء لا يعني أنّ هذا الشيء باطل، إنّما يصبح باطلاً عندما ندرك فساده، لا عندما لا ندرك صلاحه. نعم لا يمكنني القول بأنّ الزائدة الدوديّة مفيدة للجسم وضروريّة؛ لأنّ هذا لم يثبت لي، لكنّ هذا لا يعني أنّ بإمكاني القول بأنّ الزائدة الدودية لا فائدة لها، فإنّ عدم إثبات الفائدة غير إثبات عدم الفائدة.
الأمر عينه يجري فيما نحن فيه، فإنّني عندما لا أملك فرضيّة معقولة وممكنة لتفسير مبرّرات خلق الله للعالم يمكنني القول ـ على أبعد تقدير ـ بأنّه لم يثبت لي فائدة لخلق الله للعالم، لكن لا يمكنني القول بأنّه ثبت لي عدم وجود فائدة، حتى أزعم بأنّ الله قد صدر منه فعل العبث.
وهذا الأمر مرجعه إلى نقطة مهمّة في سلامة نظام التفكير، وهي أنّ الإنسان العلميّ والأكاديمي والمنهجي عليه أن يربّي نفسه وعقله على أنّ ما أعرفه فهو واقع؛ لأنني عرفته، لكن ما لا أعرفه لا يعني أنّه ليس بواقع لأنني لم أعرفه! وهذه هي نزعة التواضع في العقل، والتي دعت إليها العقلانية النقدية المحدثة في الغرب، بعد عصر الاغترار بالعقل وكأنّ كلّ ما لم يصل إليه العقل فهو باطل. كلا، فما وصل إليه العقل ـ سلباً أو إيجاباً ـ بالدليل فهو صحيح، لكن ليس ما لم يصل إليه العقل فهو باطل؛ لأنّ العقل لم يبلغ كلّ شيء، وهذه ملاحظة نقديّة على كثير من نقّاد الفكر الديني في العالم العربي والإسلامي، لأنّهم ورغم دخولهم ـ كما يقولون ـ فضاء العصر ما بعد الحداثوي، لكنّهم في تعاملهم مع الدين ما زالوا يفكّرون بطريقة العقل الحداثي الذي يقول بأنّ معيار الحقّ والباطل هو العقل فقط، وأنّ العقل سلطان لا يمكن أن يتكلّم معه أحد، وأنّ كلّ ما أدركه فهو صحيح وما لم يصل إليه فهو باطل!! وهي مفارقة تستحقّ الوقوف عندها في هذا المجال.
لقد كنّا دائماً نعارض اللغة الدوغمائيّة والطوباوية لبعض أنصار التيار الديني، فيتكلّمون وكأنّهم ينطقون بلسان الغيب، وأنّ بيدهم مغاليق السماوات والأرض، وأنّ ما يعرفونه فهو حقّ، وما يجهلونه فهو الباطل المنكر، ولأنّهم لا يعرفون العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة عارضوها وسخّفوها!! ولكنّنا نجد أنّ هذه الظاهرة لا تقف في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عند التيار الديني، بل هي ـ مع الأسف ـ ضاربة في العمق أيضاً في بعض التيارات العلمانية والنقدية، فبعضهم أيضاً إذا لم يثبت شيءٌ عنده أو لم يرُق له وينسجم مع مزاجه المعرفي قال عنه فوراً بأنه باطل، وكلّ ما لا يعرفونه فهو خيال وسراب وخرافة، وهذا هو معنى الحكمة القائلة بأنّ الناس أعداء ما جهلوا، ولم يقل بأنّ الناس أعداء ما علموا ببطلانه، فالإنسان بطبعه مع الأسف عندما لا يثبت شيء عنده يعتبره لم يقع، نعم نحن لا نطالبه بأن يعتبره قد وقع، فهذا حقّه، ولا يلزمه أحد بأن يرتّب آثار وقوع ذلك الشيء، لكن لا يمكنه نفيه إلا بدليل، تماماً كما لا يمكن إثباته إلا بدليل، وعدم الدليل على إثباته يفيد في أنه لم يثبت، لكنّه لوحده لا يفيد في أنه قد ثبت عدمه. وهذا بالضبط ما نقوله دوماً في حقّ العرفاء، وأشرت إليه في كتابي (مسألة المنهج في الفكر الديني)، فنحن لم يثبت لدينا صحّة دعواهم بوجود كشف وعلم حضوري بالطريقة التي يتحدّثون عنها، لكنّنا لا نستطيع أن ننفي وقع شيء من هذا القبيل إلا بدليل، وعدم قيام دليل على صحّة قولهم يمكّنني من التفلّت من قولهم ولا يحقّ لهم معه إلزامي بقولهم، لكنّه لا يسمح لي بإبطال قولهم بأنّهم قد حصل معهم ما يزعمون أو القول عنه بأنّه خرافة أو تهريج ما لم يقم عندي دليل في ذلك.
إنّنا ندعو دائماً لتواضع العقل وتفكيك المقولات والمفاهيم عن بعضها وعدم خلط الأوراق، كي نخرج بمجتمعاتنا من فضاء فوضويّة التفكير وصخبه واعتباطيّة البحث العلمي إلى فضاء أكثر هدوءاً ونظاماً وتمييزاً وتفكيكاً بين الأشياء.
اولا … يثبن لنا القرآن و بنحو القضية المهملة ان الله محب . و لم ننطلق من انفسنا بالاستدلال ان الله يحب.
بعد اثبات ان الله محب يأتي السؤال هل يحب ذاته اولا . و من ثم يأتي السؤال هل يحب لوازم ذاته و هم الخلق و الموضوع معقد.
ثانيا .. احيانا اشعر ان الشيخ ومن خلال الاجابة عن الاسئلة يرد على مدارس اخرى كالمدرسة العرفانية .. رجائي من الشيخ ان يأتي باقوالهم و ادلتهم ليرد عليها ان امكن.