السؤال: لماذا نجد أكثر كتاباتك تدور حول محور تهميش النصّ الوارد عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وجعل القرآن الكريم هو المرجع الوحيد أو شبه الوحيد في انتزاع المفاهيم والنظريات، وثناءك على بعض الكتّاب مثل السيد فضل الله، حينما يستشهد بالقرآن الكريم فقط، ويُعرض عن ذكر الأحاديث أو نادراً ما يستشهد بذلك؟ أليس هذا الرأي يتعارض مع مفهوم ومؤدّى حديث الثقلين، وتلازم مرجعيّتي النصّ والقرآن، بل واستمراريّتهما أفقيّا وعاموديّاً، ويلتقي مع نظريّة (حسبنا كتاب الله) التي يؤمن بها المخالفون لخطّ الولاية؟ (دريد الجزائري، العراق).
الجواب: أولاً: ثمّة دمج بين مفهومين ينتميان إلى سياقين فكريّين مختلفين، يوجب التوصّل إلى النتيجة الواردة في سؤالكم، فتارةً نتحدّث عن اتجاه فكري لا يؤمن بسنّة أهل البيت أو يقصي هذه السنّة، ولا يرى فيها مرجعيّة معرفيّة، أو إذا رأى فيها ذلك فلا يراها ذات بال أو قيمة عالية، وهذا السياق هو سياق أصولي (أصول الفقه) كلامي، يرجع إمّا إلى عدم الاعتقاد بإمامة أهل البيت أو عصمتهم، أو إلى الاعتقاد بأنّ سنّتهم ليست حجّة. وتارةً أخرى يكون الباحث لديه وجهة نظر في قيمة الحديث الشريف؛ لأنّ العلماء عبر التاريخ انقسموا في قضيّة الحديث إلى متشدّد ومتساهل، دون أن نذمّ أحد الفريقين، فبعضهم كانت لديه حالة وثوق عامّة أو غالبة بالأحاديث المنقولة، مثل حالة جمهور أهل السنّة مع صحيحي البخاري ومسلم، وحالة الإخباريين من الشيعة مع الكتب الأربعة على الأقلّ، وهناك من كان متشدّداً في أمر الحديث يصعب أن يثق بحديث أو يصحّح سند خبرٍ من الأخبار، ومن أشهر رجالات هذا الفريق الشيخ حسن بن الشهيد الثاني (1011هـ) صاحب كتاب (منتقى الجمان)، فهذا الشخص وهو من كبار علماء الإماميّة، كان يرى أنّ ما لا يزيد عن ثلاثة آلاف حديث في كتاب (الكافي) صحيحٌ وحسن، والباقي كلّه غير معتبر من وجهة نظره، وهذا معناه أنّ حوالي ثلاثة عشر ألف حديث في الكافي فقط سيسقط عن الاعتبار عنده!! إنّ منطلق الشيخ حسن ليس كلاميّاً أو ناتجاً عن موقف من سنّة أهل البيت أو رغبة في تهميش نصوصهم والعياذ بالله، بل ناتج عن منهج ورؤية في قواعد التعامل مع الحديث. وهكذا الحال مع السيد الخوئي الذي ضعّف قرابة تسعة آلاف حديث في كتاب الكافي؛ ليس لأنّ لديه مشكلة أصوليّة كلاميّة مع سنّة أهل البيت، بل لأنّ لديه منهجاً مبرهناً ـ من وجهة نظره ـ على طريقة التعامل مع الحديث. وقد ذكر علماء الحديث والأصول معاً أنّ هناك فرقاً بين السنّة والحديث، فالسنّة هي واقع ما صدر عن المعصوم، وأمّا الحديث فهو الخبر الحاكي لنا عمّا صدر عن المعصوم، فمن ينكر الحديث لا ينكر السنّة، وأمّا من ينكر السنّة وقيمتها فهو بالتأكيد لا يرى قيمة مرجعيّة ـ بالمعنى الأصولي ـ للحديث. وهذا يعني أنّ هناك سياقين منفصلين ينبغي تحديد أنّ الإطاحة بالحديث عند الباحث ترجع إلى أيٍّ من هذين السياقين: السياق الكلامي الأصولي الذي يرجع إلى رفع الاعتبار عن سنّة أهل البيت وتهميشها، والسياق الحديثي الذي لا يناقش في الجانب الأوّل، وإنّما لديه منهج متشدّد في الجانب الثاني؛ فلا يصحّ اتهام مثل السيد الخوئي أو صاحب المعالم بأنّه يريد تهميش حديث أهل البيت!! والملفت أنّ ابن إدريس الحلّي كان قد اتهم بهذه التهمة من قبل؛ لأنّه كان متشدّداً في قبول الأحاديث. وبالنسبة لي شخصيّاً فإنّ منهجي المتواضع هو منهج التشدّد في إثبات الحديث، وهذا لا فرق فيه بين أن يتعامل الإنسان مع الحديث الشيعي أو السنّي، فلو أراد الباحث أن يتعامل مع الحديث السنّي، فإنّ المنهج المتشدّد سيجرّه هناك أيضاً إلى المناقشة في الكثير من الأحاديث، ولهذا بالنسبة لي شخصيّاً عندما بحثت في دروسي عن نظريّة عدالة الصحابة وعالجتها وفق الأصول السنّية فضلاً عن الشيعية، لم أتوصّل إلى عدالتهم جميعاً، لا لأنّ منهجي الكلامي هو منهج شيعي؛ لأنّ المنطلق لم يكن كلاميّاً، بل لأنّ المنهج الرجالي والحديثي هو منهج متحفّظ لا يثق كثيراً بالأحاديث وبسهولة، منطلقاً في ذلك ـ أي من التحفّظ الشديد في أمر الحديث ـ من مبرّرات تتعلّق بالحديث والرجال وتاريخ تناقل الأخبار وتدوين المصنّفات. وهذا أمر لطالما وجدناه بين علماء المسلمين بجميع مذاهبهم، كما يعرف ذلك المهتمّون بشأن الحديث الشريف.
ثانياً: إنّ مناهج المحدّثين في التشدّد في الحديث على ثلاثة اتجاهات: فهناك اتجاه التشدّد السندي، كما كانت الحال مع ابن إدريس والشيخ حسن صاحب المعالم والسيد جواد العاملي صاحب المدارك والسيد الخوئي وأمثالهم، وهناك مناهج التشدّد في المتن، كما هي الحال مع مثل السيد هاشم معروف الحسني، وهناك من يتشدّد في الاثنين معاً. وإذا ذهب الإنسان ـ كما هو الصحيح ـ إلى توسعة مفهوم معارضة القرآن الكريم لمعارضة الروح القرآنية، وفاقاً لما ذهب إليه السيد الصدر وغيره، فإنّ مجال النقد الحديثي متنيّاً سيصبح أكبر بشكل تلقائي، فالنقد الحديثي ليس أمراً اعتباطيّاً دائماً، بل مناهج النقّاد تتبع البنيات التحتية لآرائهم الأصولية من جهة وتوجّهاتهم الخاصّة في قراءة الحديث وتاريخه وعلم الرجال أيضاً، وفهمهم للنصّ القرآني كذلك من جهة ثانية. وما يبدو لي صحيحاً هو أنّ النقد الحديثي يجب أن يعتمد على النقد السندي وكذلك على النقد المتني؛ إذ ليس مجرّد صحّة السند بكافٍ في الأخذ بالحديث، بل لا ينعقد للحديث حجيّة إذا لم نحرز أنّه موافق للكتاب بمعنى الموافقة المضمونيّة العامّة، بلا فرق بين الأحاديث المتعلّقة بالعقائد أو بالتاريخ أو بالتفسير أو بالفقه أو بالأخلاق أو بغير ذلك.
ثالثاً: إنّ العلامة الفقيد السيد محمّد حسين فضل الله ـ رحمه الله ـ لا يترك الحديث ويكتفي بالقرآن الكريم، كيف وهذه كتبه الفقهيّة والتاريخيّة وبحوثه ومحاضراته في السيرة وغيرها واضحة في أخذه بالأحاديث الواردة من طرق الإماميّة وغيرهم، ومجرّد التشدّد الحديثي القائم في بعض الموضوعات ـ كقضايا الإمامة التفصيليّة ـ انطلاقاً من وجهة نظر متنيّة، بصرف النظر عن تصحيحها وعدمه، لا يعني قوله بكفاية القرآن الكريم، فهذه فتاويه الكثيرة للغاية مرجعها، بحسب أدلّته الفقهيّة المسطورة في كتبه الاستدلالية، هو أحاديث أهل البيت، مع عدم وجود تفصيلاتها في الكتاب العزيز، فينبغي التريّث في اتهام الآخرين. نعم من حقّ أيّ شخص أن يناقشه في منهجه التشدّدي والنقدي، لكن ليس من الصحيح أن نقول بأنّه لا يأخذ بالحديث الإمامي أو لا يعير له اهتماماً، فهذا خلاف ما تركه من تراث علمي وثقافي.
رابعاً: إنّ حديث الثقلين يثبت ـ كما يقول أستاذنا الشيخ عبد الله جوادي آملي ـ الملازمة بين نفس أهل البيت والقرآن الكريم، ولا ربط له بحجيّة حديثهم الذي لا يصلنا بطريق معتبر، فلو انعدمت كلّ روايات أهل البيت من العالم مثلاً يبقى حديث الثقلين صحيحاً ونافذاً؛ لأنّه يربط بين الإمام عليّ والقرآن ربطاً واقعيّاً، سواء وصلني حديثٌ علوي أم لم يصل، فلا ربط لحديث الثقلين بمناهج قبول الروايات، وإنّما غايته أنّ السنّة الواقعية الصادرة منهم عليهم السلام حجّة بمقتضى حديث الثقلين كما ذكرتُ ذلك في كتابي (حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي)، وهذا غير أنّ هذا الحديث أو ذاك صدر منهم عليهم السلام أم لا؟ فلو شكّك الباحث في صدور هذا الحديث أو ذاك، ولو بلغ تشكيكه آلاف الأحاديث، إمّا نتيجة دراسة سنديّة قام بها، كما فعل السيد الخوئي، أو نتيجة دراسة نقدية متنيّة نفى من خلالها صدور هذه الأحاديث عنهم، فإنّ مثل هذا الشخص لا يقال له بأنّه ترك حديث الثقلين. ينبغي التركيز بطريقة علميّة على المفاهيم؛ كي لا نخلط الأمور ببعضها بطريقة خطابيّة.
خامساً: لا أعرف أحداً من العلماء عند الإماميّة ـ إلا أفراداً معدودين على أصابع اليد من الباحثين الجدد المتخصّصين ـ ينكرون حجية سنّة أهل البيت ورسول الله محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، بل لقد بحثتُ في كتابي (حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي) عن موضوع منع تدوين الحديث، وتوصّلت إلى أنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لم يكن مؤمناً بإسقاط حجيّة سنّة النبي بالمطلق، حتى نقول بأنّه دعا لعدم العمل بسنّة النبي، كيف والشواهد لا تعدّ ولا تحصى على روايته الحديث، وعلى أخذه الحديث من الصحابة ضمن شروط، فهذه المقولة التي تُنسب إليه جاءت في سياق خاصّ، ومنعه التدوين جاء في سياق موضوعات محدّدة، لا أنّه كان ينكر حجية سنّة النبي ويكتفي في كلّ شيء بالقرآن الكريم. أليس الإمام عليّ في عشرات الموارد ـ كما تروي الإماميّة وأهل السنّة معاً ـ كان يذكر لعمر بن الخطاب دليلاً على مسألة من غير القرآن الكريم، فكان يقتنع بها وبأنّ الرسول قالها ويقضي على وفقها؟! لو كان هذا الشخص لا يؤمن بحجيّة سنّة النبي فما معنى هذه النصوص؟! إنّ الذين يقولون: حسبنا كتاب الله، بالمعنى الواسع الشامل الذي يرفض السنّة كلّها، نادرون جدّاً في الأمّة الإسلاميّة، فكيف نقول بأنّ المخالفين للإماميّة ـ كما جاء في سؤالكم ـ يؤمنون بمقولة حسبنا كتاب الله؟! ألم يصنّفوا آلاف الكتب في الحديث؟! فلو كانوا يكتفون بكتاب الله ويتركون السنّة النبويّة فلماذا ألّفوا كلّ هذه الكتب واحتجّوا بأحاديثها؟! لا يصّح أن نتهم أهل السنّة بأنّهم يتركون السنّة ويكتفون بكتاب الله! نعم من حقّك أن تتهم بأنّهم تركوا بعض السنّة وتقيم على ذلك الشواهد، كأن تقول بأنّهم تركوا سنّة النبيّ فيما أوصى به من اتباع عترته وتقدّم شواهدك على هذا المدّعى، ولكنّ هذا غير مقولة (حسبنا كتاب الله) التي يردّدها بعض الإماميّة على إطلاقها اتهاماً للناس صباحاً ومساءً. نعم، الذين يتشدّدون في حجيّة الحديث كثيرون، وقد قلتُ آنفاً بأنّ هناك فرقاً بين شخص يرفض السنّة، وآخر يتشدّد في أمر الحديث الحاكي عن السنّة الواقعيّة.