السؤال: لماذا بعض إجاباتك ـ رغم صحّة محتواها ـ كما يبدو لي، لكنّي أراها خالية من (قال الله)، و (قال رسوله وآله) صلوات ربّي عليهم؟
الجواب: بعد شكركم على هذه الملاحظة الكريمة، يمكنني ـ لو أجزتم لي ـ التعليق بنقطتين، واحدة توضيحيّة وأخرى نقديّة:
النقطة الأولى: وهي توضيحيّة، إذ ربما كان تقويمكم هذا ناتجاً عن مراجعة غير مستوعبة لما كتبتُه من موضوعات متواضعة، وإلا فبالتأكيد لو قمتم بمراجعة أوسع في كتبي ومقالاتي وأجوبتي لربما رأيتم أنّ حضور النصوص ليس قليلاً، كما قد يوحيه عدم ارتياحكم الذي يحكي عنه السؤال، لهذا أظنّ أنّ عذركم فيما أفدتموه هو في رؤيتكم لبعض ما كتبت، وليس بنظرة أكثر استيعاباً وشمولاً، مع علمي بأنّ ما يفيده سؤالكم أعلاه هو عن بعض ما أجبتُ به وليس عن الكلّ، لكنّني أحببت التوضيح.
النقطة الثانية: إنّ الاستشهاد بالنصوص الدينية من الكتاب والسنّة، ليس أمراً لازماً في كلّ الموضوعات، وفي كلّ البيانات، ولا هو حتى بالممكن، ففي العلوم الطبيعيّة غالباً ما لا نقوم بإقحام النصوص، بل إقحامها قد يسبّب مشاكل على مستوى منهج اكتشاف النتائج العلميّة أحياناً، فالقضيّة تتبع نوعيّة الموضوع من حيث المنهج تارةً، ومن حيث وجود نصوص تتعلّق بهذا الموضوع أخرى، ومن حيث المخاطب وغائيّة الكتاب أو الكلام ثالثة، دون أن نمارس في النصوص تكلّفاً أو تأويلاً، ولهذا أنتم لو راجعتم كتب العبادات عند الفقهاء لرأيتم أنّ النصوص كثيرة، فيما لو قرأتم بحوث المعاملات التجاريّة، للاحظتم أنّ الفقهاء يرجعون إلى النصوص ويستحضرونها بشكل أقلّ على المستوى البياني؛ لأنّ الكثير من طرائق الاستدلال هناك ترجع للتحليل المعاملي والارتكازات العقلائيّة وغير ذلك. وهكذا الحال لو ذهبتم مع الكثير من الفلاسفة والمتكلّمين والعرفاء والمناطقة وعلماء اللغة بفروعها، وعلماء الرجال والتراجم، بل علماء أصول الفقه الذين قلّما تجد عندهم نصوصاً في بحوثهم، فقد تجدون شحّاً أو قلّةً نسبيّة في استحضار النصوص، بل لاحظوا الرسائل العمليّة للمراجع الكرام وكم عدد الروايات الواردة فيها. بل أغلب المصطلحات العلميّة التي في الفقه والأصول والتاريخ والحديث والرجال والفلسفة والكلام والعرفان والمنطق واللغة لا وجود لها في أيّ نصّ، لا في القرآن ولا في السنّة، ومع ذلك ابتكرها العلماء ومشوا عليها قروناً وقروناً، وطوّروا بها ـ بحمد الله ـ العلوم الإسلاميّة وما يزالون.
إنّ الموضوع ليس أن تستحضر النصّ، بل أن تستحضر المفاهيم والأطر والمسارات والأخلاقيّات والقيم التي قدّمتها لنا مجموعة النصوص في رسالتها، فاستحضارها كافٍ في استحضار النصّ، وليس من الضروري أن تستحضر صياغة النصوص، فعندما تتكلّم عن ضرورة الأخلاق في الحوار مثلاً، فأنت تستحضر قيمةً أخلاقية موجودة في النصّ، كما هي موجودة في العقل وفي التجربة الإنسانيّة. بل ما المشكلة لو أنّ بعض ما تطرحه من فكر أو رأي أو وجهة نظر لم يستند إلى النصّ؟ وهل هذا عيب؟ وما هو الدليل على أنّ كلّ صغيرة وكبيرة في تفكيرنا ومعالجة قضايانا يجب أن تستند مباشرةً إلى نصّ يتصل بالقضيّة الجزئيّة فوراً؟ إنّ الفقيه في ما يسمّى بمنطقة الفراغ عند بعضهم، يتحرّك بلا نصوص مباشرة، بل بأطر ومؤشرات عامّة فرضتها النصوص، وكم هي النصوص التي يعتمد عليها قادة الحركات الإسلاميّة اليوم في مواقفهم السياسيّة؟ أليس العقل هو صاحب الرؤية والقرار ضمن المؤشرات والأطر العامّة التي وضعتها النصوص؟ هل هناك نصوص على وجود برلمان ومجلس وزراء ومدراء عامّين في الوزارات ومؤسّسة الجمارك وغير ذلك من أجهزة الدولة؟ وأين؟ وهل حقّاً يمكن في كلّ موضوع أن نستحضر نصّاً؟ مثلاً أريد معالجة ظاهرة الكذب عند ابني الصغير فأين النصوص؟ وأريد حلّ مشكلة الحياء المفرط عند ابنتي الكبيرة، فأين النصوص؟ وأريد معرفة أيّ جماعة أنتخب، فأين النصوص المباشرة؟ لابدّ هنا للعقل أن يتحرّك في إطار القيم العامّة التي قدّمتها النصوص لا في توجيه مباشر من نصّ ديني جزئيّ، وهذا ما يقرّ به العلماء أنفسهم، فأين هو النصّ المباشر الذي يجيز للمراجع مثلاً كتابة الاحتياط الوجوبي؟ وأين هو النصّ المباشر الذي يتصل بتنظيم مناهج التعليم في الحوزات مثلاً رغم مساهمة عشرات العلماء في هذا الموضوع؟ فهل أتو بوجهات نظرهم ـ مثل السيد الصدر والشيخ المظفر والشيخ الإيرواني والشيخ الفضلي و.. ـ من نصوص مثلاً؟ وهل رأيناهم كتبوا نصوصاً قرآنية وحديثية عندما بحثوا هذا الموضوع؟ القضيّة ليست في النصوص المباشرة دوماً، وإنّما في قواعد وأطر تقدّمها لي مجموعة النصوص والعقل والبناء العقلائي معاً في أحيان كثيرة، لكي توصلني إلى استنتاجات.
بل لماذا نعيش عقدةً من أن نفكّر نحن ما دامت النتائج في التفكير صحيحة كما أقرّيتم في سؤالكم؟ ولماذا نعيش الخوف من أن نفكّر ما دام التفكير لا يجرّنا إلى معارضة نصّ؟ هل حثّ الإسلام على التفكير أم رفضه ما دام التفكير لا يتعارض مع قطعيّ الدين؟ المهم ـ دينيّاً ـ هو أن لا يفضي بك التفكير إلى معارضة الدين، والمهم ـ دينيّاً ـ هو أن يبقى تفكيرك يستقي قيمه العليا من مجموعة النصوص، فإذا كان هناك نصّ مباشر فيؤخذ به على الرحب والسعة، وإلا فإنّ التفكير هو قيمة إضافيّة موجبة وليس منقصةً أو عيباً، فعلينا أن نربّي الاجتماع الديني على هذا الأمر، ضمن الشرطين سالفي الذكر. هذه هي وجهة نظري المتواضعة، وأجدّد شكري لكم، نفعني الله بكم، وأسأل الله التوفيق لنا جميعاً.