السؤال: مجدّداً، بخصوص الشيخ ابن عربي، كيف نفسّر التناقض البادي في آراء علمائنا؟ فهناك من يثني عليه ويعظّمه أمثال الإمام الخميني والسيد الطباطبائي، ومن الحاضرين السيد كمال الحيدري، في حين هناك من علماء المذهب من يذمّ ابن عربي ويجعله في صفوف النصب والزندقة، كالسيد جعفر مرتضى والسيد مرتضى الشيرازي وغيرهم. بأيّ الرأيين نأخذ؟ وبأيهما نرتب الأثر إن كان من أثر؟ لاسيما وأنّنا نتّبع العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ومنهم نأخذ الدين. (محمّد عباس إبراهيم، البحرين).
النقطة الأولى: من الطبيعي أن يختلف العلماء في شخصيّةٍ مثل شخصيّة ابن عربي، فلو أنتم قرأتم كتبه وراجعتموها ستجدون أنّ الرجل في مواضع كثيرة من كتبه يستخدم لغةً يشوبها الغموض والترميز، لاسيما في كتاب (فصوص الحكم)، ومن الممكن ـ وسط لغة صوفيّة مكثفة ـ أن يحصل اختلاف في فهم الرجل، وليس هذا الأمر حكراً على ابن عربي، فهناك عدّة شخصيات في التاريخ وقع خلاف في تشيّعها وتسنّنها أو في حقيقة مذهبها، مثل الإمام أبي حامد الغزالي (505هـ) الذي ادّعى بعض علماء الإماميّة تشيّعه في آخر عمره، كما ذهب إليه ـ على ما في بالي ـ الفيض الكاشاني وغيره، ومثل الإمام فخر الدين الرازي، الذي سمعتُ شفاهاً عن الشيخ حسن زاده آملي من بعض تلامذته المعروفين المعاصرين، أنّه ـ أي الشيخ حسن زاده آملي حفظه الله ـ يصلّي للفخر الرازي كلّ ليلة ركعتين؛ لأنّه يعتقد بأنّه شيعي! وقد تقرأ وتسمع بأشياء غريبة عجيبة في هذا المجال، فهناك من يتداول حديثاً ـ ولست مازحاً فيما أنقل ـ عن تشيّع آنشتاين وأنّه دارت بينه وبين بعض العلماء بحوث، ويُقحمون هنا اسم المرجع الديني السيد حسين البروجردي رحمه الله، وهناك عشرات الشخصيات التي وقع خلاف في توجّهها المذهبي الدقيق عبر التاريخ، لاسيما من المعتزلة والصوفيّة، حيث اتهمهم التيار السلفي السنّي بالتشيّع، فيما انقسم الشيعة الإماميّة في الموقف منهم، وذهب غالبيّة السنّة للقول بأنّهم من أهل السنّة.
وأحياناً تنطلق القضيّة من وجود نصوص منقولة أو موجودة في كتب هذا العالم تبعث على الالتباس، وأحياناً أخرى نجد رغبة لدى كلّ طرف للفوز بهذا المفكّر الكبير والعقل المبدع؛ لأنّ الإتيان به إلى هذا المذهب أو ذاك هو مكسب لهذا المذهب إذا صحّ التعبير، فتجد بعض الأشخاص يهتمّون بإدخاله في مذهبهم نتيجة ذلك. وقد يكون السبب هو اختلاف المعايير؛ فأنت تجد أنّ القول بتفضيل عليّ على أبي بكر ـ ولو مع تصحيح خلافة أبي بكر ـ يراه بعض أهل السنّة تشيّعاً، ولهذا اتهموا الكثير من المعتزلة بالتشيّع؛ لأنّهم يقولون بذلك، حتى قال أحد المعتزلة قولته: الحمد لله الذي قدّم المفضول (أبا بكر) على الفاضل (علي). بينما لا يرى الإماميّة هذا تشيّعاً؛ لأنّ لكلّ مذهب فهمه الخاصّ للإطار العامّ للتشيع والتسنّن ونحو ذلك من المقولات.
ويجب أن ننتبه لأمر بالغ الأهميّة هنا، يتعلّق بالمتصوّفة والمعتزلة، فالتصوّف والاعتزال لم يكونا مذهباً أو طائفة، فقد تجد من جميع المذاهب من هو معتزلي، وكذلك الحال في المتصوّفة والعرفاء. إنّ التصوّف والاعتزال منهجٌ فكري ونسق اجتهادي وتيار ثقافي أكثر منه مذهباً أو طائفة، كما هي الحال مع الشيعة الإماميّة أو الزيدية أو السنّة، هذا الأمر أوقع الكثيرين في التباسات عميقة في فهم معتقدات المعتزلة والصوفيّة، بل في كثير من الأحيان يبدو لي أنّ الصوفي لا يهتمّ أساساً بالقضيّة المذهبيّة، وأنّ الاهتمام الصوفي والعرفاني بالمذهبيّات شهد نشاطاً مطّرداً منذ عصر صدر الدين الشيرازي (1050هـ)، حيث اقتربنا أكثر من مَذْهَبَةِ العرفان وتشييعه، وهذا موضوع طويل وله تشعّبات كثيرة.
النقطة الثانية: العلماء مرجعيّة في القضايا الفقهيّة، فنحن نرجع للفقيه لكي يقول لنا ما هو معيار الإسلام والكفر؟ وبماذا يصبح الإنسان مسلماً؟ وكيف يخرج المسلم عن الإسلام؟ إنّ هذه المعايير يبحثها الفقيه ويحاول استنباطها من النصوص الدينية، وهي وظيفته التي يعنى بها وتقع ضمن اهتماماته، وتكون قناعاته ذات سمة إلزاميّة فيها لمقلّديه. أمّا أنّ زيداً من الناس هو مشركٌ أم كافر أم فاسق أم سنّي أم شيعيّ أم زيدي أم.. فهذه ليست من وظائف الفقيه والعالم، بل هي من وظائف الإنسان نفسه، فعليه أن يطالع أو يراجع أو يستمع إلى وجهات النظر المختلفة في الموضوع، ثم يحدّد هل القاعدة الفقهيّة تنطبق على هذا الشخص أم لا؟ لهذا لا أجد صحّةً لما يتصوّره الكثير من عموم الناس من الرجوع إلى الفقيه لتحديد تشيّع ابن عربي أو تسنّنه، أو لتحديد أنّ فلاناً إلى أيّ مذهب ينتمي، فهذه موضوعات، وتشخيصها ليس من شأن الفقيه، بل من شأن المكلّف، تماماً كتشخيص أنّ هذا الماء الذي هو أمامي هل هو نجس أم طاهر؟ فإنّ هذا من شؤون الإنسان نفسه، وهو عليه أن يطبّق القاعدة، وليس من وظيفة الفقيه ولا صلاحيّاته الملزِمة للآخرين، فلو توصّل الفقيه إلى أنّ وفاة أبي حنيفة كانت عام 156هـ، وكان هذا الفقيه هو المرجع الأعلم في المسلمين، لكنّ مؤرّخاً معاصراً له توصّل إلى أنّ أبا حنيفة توفّي ـ كما هو الصحيح ـ عام 150هـ، فإنّ المؤرّخ ليس ملزماً بقناعة هذا الفقيه، ولا عامّة الناس ملزمين بالانحياز للمرجع ضدّ هذا المؤرّخ، فلا تقع مثل هذه القضايا في دائرة عناصر التقليد والمرجعيّة. فإذا راجعتَ وجهات النظر في مذهب ابن عربي واقتنعت بوجهة النظر التي تقول بتشيّعه أو أقنعتك وجهة النظر التي تقول بتسنّنه أو نصبه، فإنّ بإمكانك أن تتّبع قناعتك عندما تجد نفسك قد وفّرت المعطيات اللازمة لتكوين قناعة من هذا النوع، حتى لو كان رأي كلّ فقهاء عصرك بعكس ما تقول، فهذه موضوعات وليست أحكاماً شرعيّة، ما لم يصدر الحاكم حكماً ولائيّاً أو قضائيّاً تكون له حيثية إلزام قانوني، وهذا ما لا يحصل في العادة.