السؤال: كلّكم آدم، وآدم من تراب، والناس سواسية كأسنان المشط، ولا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، وعشرات الآيات والأحاديث التي تؤكّد على العدل والمساواة والإنصاف. والسؤال هو: كيف نستطيع أن نُقنِع العالم أنّ الشيعة توزّع نصف خمس أموالها على السادة من البيت الهاشمي، وأنّ هناك سيّد وعبد، مهما حاولنا تخفيف ذلك بتبريرات غير مقنعة، خصوصاً مع تنامي الحريّات وحقوق الإنسان، وأنّ السيد لا تُدفع له الصدقة احتراماً له؟ (أبو يوسف، سلطنة عمان).
الجواب: توجد هنا نقاط عدّة ينبغي أن نطلّ سريعاً عليها:
أولاً: ليست المسألة مسألة سيّد وعبد، فإنّ الذرية النبويّة لا يعبّر عنهم في النصوص الدينية بالسادة، وإنّما هذا التعبير جاء من الناس، حيث المعبّر عنهم في النصوص بالهاشمي أو بني هاشم، نسبة إلى هاشم، كما ليس هناك في النصوص تعبير (سهم السادة)، وهذا التعبير السائد اليوم (السادة أو الشريف أو نحو ذلك) مجعولات المسلمين أنفسهم، فالهاشمي له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين. وإنّما استخدمت الناس هذا التعبير من موقع الذهنية التي تريد احترام الرسول في مناخ عشائري أو قبلي، لا من موقع التعبير عن عقل قانوني في المسألة يمكن أن يتحمّل مسؤوليته الفقهاء أو الفقه الإسلامي.
ثانياً: إنّ عدم القدرة على تقديم جواب وسط مناخ الحريّات القائم في العالم لا يسمح لنا بإلغاء هذا الحكم الشرعي لو كان ثابتاً بالنصّ الصحيح، فهناك فرقٌ بين إثبات حكم شرعي من مصادره وبين القدرة على تبريره للرأي العام الذي يعيش وسط مناخ ثقافي معيّن، نعم إذا بلغ النقد العقلاني للحكم حدّ حكم العقل بكونه ظلماً مثلاً فإنّ الموضوع يتخذ سياقاً آخر.
ثالثاً: إنّ التعبير عن الصدقات والزكوات بأنّها أوساخ ما في أيدي الناس، قد ورد في ثلاثة إلى أربعة روايات، كلّها ضعيفة السند ما عدا واحدة، فمن يقول بحجية خبر الواحد يلزمه التعبّد بهذا التعبير، أمّأ من يقول بعدم حجيّة خبر الواحد الظنّي ـ كما هو الصحيح ـ فمن الصعب عليه الجزم بانتساب هذا التعبير إلى أهل البيت عليهم السلام؛ لعدم تعدّد طرقه بحيث يوجب الوثوق بصدوره. وقد قام بعض العلماء بمناقشة هذا التعبير متنيّاً، رافضاً نسبته إلى أهل البيت، ورأى أنّه لا ينسجم مع الثقافة الدينية، مثل الشيخ محمد جواد مغنيّة على ما أذكر، ولعلّ أحد المبرّرات التي ترجّح ـ بنحو التأييد عند مثل الشيخ مغنيّة ـ عدم انسجام هذا التعبير مع الثقافة القرآنية، أنّه قد ورد في بعض النصوص الحديثية، بل في قوله تعالى: (ألم يعلموا أنّ الله يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) (التوبة: 104)، أنّ الذي يأخذ الزكاة هو الله تعالى، وقد استدلّ مثل السيد الخوئي (انظر: موسوعة الإمام الخوئي ـ كتاب الزكاة ـ 24: 269 ـ 270) بهذه النصوص على أنّ الزكاة من العبادات؛ لأنها علاقة مع الله سبحانه، وأنّها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير نفسه، فإذا كان الله هو الذي يقبض الزكاة قبل أن يقبضها الفقير، فلا أدري كيف يتنزّه الهاشمي عن أخذها؛ لأنّها أوساخ بينما يستقبلها الله تعالى بالودّ ويأخذها بيده، حتى أنّه ورد استحباب تقبيل المتصدّق يد نفسه بعد الصدقة، في تعبير كنائي عن ملامستها يد الله سبحانه؟!
رابعاً: حاول بعض العلماء تحصيل تخريجات لهذا التعبير الواضح في الغرابة عن الثقافة الدينية العامّة، ولا بأس بأن أشير إلى تخريجين:
التخريج الأوّل: وهو ما ذكره أستاذنا السيد محمود الهاشمي على ما في بالي، من أنّ هذا التعبير مرتبط بكون الزكاة تعطى من المالك للفقير بينما الخمس يعطى من المالك للإمام، ويقوم الإمام بتوزيعه بسهميه، فلمّا كانت العلاقة في الزكاة بين المالك والفقير أمكن إطلاق تعبير أوساخ ما في أيدي الناس؛ نظراً إلى أنّ طريقة القبض فيها لا تخلو من حالة اجتماعيّة معيّنة، بخلاف أخذ الخمس من الإمام للفقير؛ فإنّه أشبه بالرواتب الشهرية التي تعطيها الدولة لموظّفيها وتجنيها من الناس عبر الضرائب، حيث لا وجود لإحساس التصدّق أو المذلّة في هذه الحال.
التخريج الثاني: وهو تخريج يفضي عمليّاً إلى الإطاحة بهذا التعبير من الناحية الثقافية والقانونيّة، وهو ما ذكره السيد علي السيستاني حفظه الله، حيث يقول ـ على ما جاء في تقريرات بحثه ـ: (التعبير في بعض النصوص عن الزكاة بأنها أوساخ أيدي الناس، وقد وقع الإشكال في ذلك من بعض الأدباء والأقلام المعاصرة، بأنّ الزكاة حقّ للفقراء في أموال الأغنياء، فكيف يعتبر الإسلام هذا الحقّ من الأوساخ، مع أنّ لازم ذلك احتقار الفقراء وإهانتهم وحدوث الطبقية بينهم وبين الأغنياء ما دام الإسلام يعتبر حقوقهم من الفضلات والأوساخ. ولكنّ الجواب الصحيح عن ذلك أن يقال بأنّ هذا التعبير لونٌ من ألوان الاعتبار الأدبي لا الاعتبار القانوني، بلحاظ أنّ الاعتبار الأدبي حقيقته ـ كما ذكرنا سابقاً ـ إعطاء حدّ شيء لشيء آخر بهدف التأثير في أحاسيس المخاطب ومشاعره، وفي المقام عندما أقبل بنو عبد المطلب للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وطلبوا منه أن يجعلهم من عمّال الصدقات حتى ينالوا نصيباً منها أراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إبعادهم عن ذلك، ولعلّه بسبب أن لا تكون جميع وظائف الدولة الإسلامية بيد بني هاشم؛ لأنّ ذلك عامل منفّر ومؤلّب للقلوب عليهم بأنهم استبدّوا بجميع الوظائف والمراكز، فحاول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استخدام تعبير يبعدهم عن الوظيفة المعيّنة، فقال لهم بأنّ الصدقات أوساخ ما في أيدي الناس، وهو تعبير أدبي كما قلنا قصد منه تنفير نفوسهم وأحاسيسهم عن العمل المذكور، لا أنه تعبير قانوني بحيث تترتب الآثار القانونية للأوساخ على الصدقات، كوجوب إزالتها عن المسجد كسائر النجاسات) (الرافد في علم الأصول 1: 70 ـ 71).
وفي كلا هذين التخريجين مجالات للنظر والمناقشة، لا يفسح بها المقام، وإن كانا محتملين. وإنّما أردت بذكرهما بيان أنّ القضيّة مسألة نقاشيّة بين العلماء المتأخّرين، وأنّ في فهم هذا النص رؤى متعدّدة.
خامساً: إنّ مسألة سهم السادة من الخمس موضوع خلافي بين الفقهاء المتأخرين أيضاً، وهناك من يذهب إلى أنّ النصوص الصحيحة لا تفيد أكثر من إرجاع الخمس إلى أهل البيت النبوي لا إلى مطلق الذريّة النبويّة، وأنّ ما دلّ على أنّه لمطلق الذريّة ضعيف السند، والروايات في هذا الموضوع يراها بعضهم لا تتجاوز الثمانية وأغلبها ضعيف السند، ويذهب الإمام الخميني إلى عبثيّة تشريع حكم سهم السادة بالمعنى الشخصي الملكي للسهم (انظر له: كتاب البيع 2: 656 ـ 657، والحكومة الإسلاميّة: 55 ـ 56)، ويرى الشيخ حسين علي المنتظري أنّ تشريع سهم السادة ـ بمعنى الملك ـ ظلمٌ (المنتظري، كتاب الخمس: 270 ـ 271)، فيما يميل أستاذنا السيد محمود الهاشمي إلى أنّ هذا التشريع غير عقلائي (الهاشمي، كتاب الخمس 2: 395). والرأي الذي يترجّح عندي ـ عبر قراءتي البسيطة المتواضعة للموضوع ـ هو أنّهم مصرفٌ من المصارف، وأنّ التقسيم الثنائي إلى سهم الإمام وسهم السادة غير صحيح، بل إمّا هو كلّه للإمام (الدولة وما يقوم مقامها) أو هو للمصالح العامّة للمسلمين، وعلى رأسها معونة الفقراء والمحتاجين وتحقيق التضامن والتكافل الاجتماعيّين. وتفصيل البحث في هذا الموضوع يحتاج لبسط كلام لا يتحمّله الاختصار هنا.