السؤال: سؤالي حول قاعدة «سوق المسلمين» الفقهية.. هل هذه القاعدة تسري حتى في هذا الزمن الذي كثر فيه استيراد الأطعمة من الدول غير الإسلامية أم لا؟ فهل الحجيّة لسوق المسلمين نفسها بحيث لا تتقيّد بكون اليد التي على اللحم مثلاً يد مسلم كما يقول البعض؛ لإطلاق الروايات الواردة في هذا الشأن أم أنّ الحجيّة ليست لنفس سوق المسلمين، بل لكونه كاشفاً عن أنّ اليد التي على اللحم يد مسلم، بالتالي ففي هذا الزمن الذي اختلط فيه المستورد مع المحلّي في سوق المسلمين يكون العمل وفق هذه القاعدة غير سليم؟ وهناك رواية عن زرارة أنّ أحدهم سأل الإمام الباقر عليه السلام عن شراء اللحوم من الأسواق، ولا يُدرى ما صنع القصّابون، فقال عليه السلام: «كُل إذا كان ذلك في سوق المسلمين، ولا تسأل عنه».. فمع وجود احتمال ولو ضئيل جداً بأن يكون اللحم غير حلال إلا أنّ الإمام أمر بالأكل دون سؤال.. سؤالي هو أنّنا دائماً نسمع أنّ الأكل «غير الحلال» يؤثر تكويناً على الروح وتكاملها حتى لو عملنا بقاعدة: «سوق المسلمين» وكان واقع الأمر أنّ الأكل لم يكن حلالاً، فصحيح أنّ الذي لم يسأل لم يعمل محظوراً شرعيّاً وفق قاعدة «سوق المسلمين»، لكن تكويناً روحه قد تأثرت بعدم الحليّة.. فما مدى صحّة هذا الأمر؟ وإذا كان هذا الأمر صحيحاً فلماذا نلمس بعض التساهل من جانب الأئمة ومنعهم الناس عن السؤال إذا كانوا في سوق المسلمين؟ مع خالص الشكر (خديجة).
الجواب: أولاً: هناك عدّة قواعد في هذا الموضوع، منها قاعدة السوق، وقاعدة أمارية يد المسلم، وقاعدة أمارية أرض الإسلام، وهناك كلام كثير في تداخل هذه القواعد عند الفقهاء، أو كون بعضها ـ كقاعدة السوق ـ مجرّد أمارة على اليد التي هي أمارة التذكية، ولا داعي للدخول في هذا البحث الطويل، إلا أنّ ما يُفهم ـ بنظري القاصر ـ من مجموع الروايات والأحاديث الواردة في هذا الموضوع، وما تقتضيه كلّ من السيرة العقلائية والمتشرّعية، هو أنّ الحكم بتذكية الحيوان وترتيب آثار التذكية كلاً أو بعضاً، تابع لكون هذا الحيوان قد ذبح على الطريقة الشرعيّة. وأمّا كون هذا اللحم موجوداً في سوق المسلمين أو كونه قد ذبح من قبل مسلم يعطينا إيّاه بيده، أو نحو ذلك.. فهو يعدّ قرينة جليّة على رفع احتماليّة كونه من الحيوان المذكّى، ومن ثمّ فالحالة التي تحكي عنها الأحاديث هي الحالة التي كانت سائدة في ذلك الزمان حيث يمكن أن تكون هناك بعض الجلود التي تمّ استيرادها من الخارج، لكنّ الغالب هو كون اللحوم وما ينتج عن الحيوان هو من إنتاج الداخل الإسلامي، وبمقتضى قاعدة الصحّة في عمل المسلم نحكم بتصحيح طريقة الذبح ويكون الحيوان مذكّى، ونتجاهل الاحتمالات الضئيلة القائمة، وهذا يعني أنّ هذه القواعد تعتمد على عنصرين:
الأوّل: عنصر رفع الظنّ بالتذكية، بشكل واضح، بحيث يكون احتمال التذكية هو الغالب جدّاً.
الثاني: عنصر عدم التشدّد في السؤال، وإمكانية العمل بالحالة الغالبة بلا حاجة للتدقيق.
والعنصر الأوّل معرفي علمي، فإنّه يقوّي الظنّ بكون اللحم مذكى مثلاً، فيما العنصر الثاني هو عنصر تسهيلي، إذ لو قلنا لكلّ إنسان بأنّه لو احتمل كون اللحم غير مذكى حكم بعدم التذكية لوقع المسلمون في حرج في اللحوم والجلود على مستوى النجاسات وعلى مستوى الأكل ونحو ذلك. فهذه من قواعد التسهيل على المكلّفين مقابل التشدّد والحرج، ولهذا ورد في بعض روايات هذا الموضوع التعريض بالخوارج الذين يكثرون السؤال ويتشدّدون بحيث يضيّقون على أنفسهم وعلى الناس.
ووفقاً لما تقدّم، فنحن أمام حالات:
الحالة الأولى: أن يكون ما في السوق (أيّ سوقٍ مكان، في بلد مسلم أم غيره) أو في يد المسلم من الإنتاج الإسلامي، بحيث نعلم بذلك (ولو كان علمنا أو اطمئناننا هذا ناتجاً عن كون اللحم قد رأيناه في سوق المسلمين مع غلبة لحوم المسلمين جدّاً في أسواقهم بحيث يندر الاستيراد مثلاً)، وفي هذه الحال حيث الغالب هو التذكية، والأصل صحّة عمل المسلم، فلا يعتدّ بالاحتمالات الضئيلة التي لا تُبنى عليها حياة الناس، وإنّما يعيشها الوسواسي أو المتديّن القلق في طبعه مثلاً.
الحالة الثانية: أن يكون ما في السوق أو في يد المسلم من إنتاج غير المسلمين، بحيث نعلم في العادة بكونه غير مذكّى، وهنا نجري القانون نفسه، حيث لا يعتدّ بالاحتمالات الضعيفة، ليُترك الأمر للحالة الغالبة والسائدة التي عليها تتكوّن القناعات.
الحالة الثالثة: أن يكون ما في السوق أو في يد المسلم ممّا لا يدرى ـ من حيث المبدأ ـ هل هو من إنتاج المسلمين أم غيرهم؟
وهنا صور:
الصورة الأولى: أن تقوم القرائن المفيدة لغلبة الظنّ أو العلم بأنّه من إنتاج إسلامي، وهنا نتّبع قرائن التذكية، كما لو رأينا البائع يأكل من هذا اللحم ونحن نعرف تديّنه مثلاً، أو نعرف انّ هذا التاجر متعهّد بأن لا يستورد اللحوم غير الشرعيّة، الأمر الذي يؤدّي إلى قناعتنا بكون اللحم مذكّى وأنّه مطلعٌ على هذا، فيعمل بمثل هذه القرائن، ونخرج من حالة الشكّ إلى حالة الطمأنينة، ونصبح مصداقاً للحالة الأولى المتقدّمة.
الصورة الثانية: أن تقوم القرائن المفيدة لغلبة الظنّ أو العلم بأنّه من إنتاج غير إسلامي، وهنا نتّبع قرائن عدم التذكية، ولو كنّا في سوق المسلمين، كما لو اشترينا اللحم من سوبرماركت في بيروت أو القاهرة، وغالباً ما تبيع المستورد من بلاد غير المسلمين، بحيث يندر أن تبيع الإنتاج المحلّي عادةً، وهنا يترك اللحم؛ لانعدام الأماريّة العقلائيّة، رغم كوننا في بلد إسلامي وأرض الإسلام ويبيعنا مسلم.
الصورة الثالثة: أن نفقد قرائن العلم أو الظنّ الغالب بأنّ اللحم من إنتاج إسلامي أو غيره، ويدور الأمر وتتساوى الاحتمالات، أو تتقارب، فهنا يُشكل الاعتماد على مثل قواعد السوق واليد، فهي قواعد غير تعبّدية.
وعليه، فلو كثر الاستيراد بشكل كبير بحيث لم تعد حالة اللحوم المستوردة حالة قليلة، بل صارت حالة كبيرة، وفي الوقت نفسه لم نحرز أنّ المستوردين أو التجّار أو البائعين عادةً يهتمّون لقضيّة التذكية، ففي هذه الحال لو أحرزنا أنّ هذا اللحم الذي اشتريناه أو الجلد هو من نتاج المسلمين ـ كما لو قامت قرائن التذكية المشار إليها في الصورة الأولى من الحالة الثالثة ـ حكم بتذكيته، وإذا أحرزنا أنّه من المستورد مع عدم إحراز التحفّظ على تذكيته من قبل الجهات المستوردة، ففي هذه الحال لا يحكم بالتذكية؛ لأنّ قواعد السوق واليد وغيرها قواعد عقلائيّة لا تعبّدية، والغرض منها عدم الالتفات للاحتمالات القليلة والجري على الغالب المفيد للاطمئنان وشبهه، لكن لو كثر اللحم المستورد وضاع الاطمئنان ووقع الشك الحقيقي من حيث عدم إحراز اهتمام المستوردين بجهة التذكية أشكل الحكم بالتذكية في غير اللحم الذي نحرز أنّ انتاجه في داخل البلد المسلم، أو قامت القرائن العرفيّة على كونه مذكّى كما قلنا.
هذا هو فهمي لقضية أمارية اليد وأرض الإسلام والسوق في قضيّة التذكيّة، وأرجو أن تكون الفكرة واضحة لأنّ فيها بعض الدقّة في التمييز، وهو فهم قريب جدّاً من فهم بعض الفقهاء أيضاً، والعلم عند الله.
ثانياً: إنّ الترخيص الشرعي في التخلّي عن التشدّد، وإن أمكن معه الوقوع في خلاف الواقع في بعض الحالات، لكنّ هذه المفسدة المحتملة الواقعيّة لا يمكن أن تقف أمام مصلحة التسهيل، إذ لو دعونا الناس للعمل بكلّ احتمال بحيث يحتاطون في كلّ الحالات المشكوكة مطلقاً ولو كان الشك ضئيلاً، فهنا سيقع حرجٌ على المسلمين وستقع مفاسد أكبر بسبب هذا الضيق العام الذي سيلحق المجتمع كلّه، ولا ضير في القبول بوقوع الفساد القليل لأجل الحيلولة دون وقوع فساد أكبر، وهذا أمر منطقي وعقلائي، بل عليه تقوم مجمل قواعد الرخصة والتسهيل في الفقه الإسلامي.