السؤال: سألني صديق: كيف يمكن أن نؤمن بقصص القرآن في وقت لم تثبت في علم الانثروبولوجيا كالآثار مثلاً، كما هو ديدن البحوث العلميّة في جامعات الغرب، وإن ثبت وجود آثار فكيف نثبت أنّها صحيحة، فقد تكون حينئذ كآثار السومريّين التي هي عبارة عن أساطير؟ وقال أيضاً: كيف يمكن أن نتحدّث إلى عالم أحياء في وقت أنّ القرآن يقول: إنّ العصى تحوّلت إلى أفعى مع العلم أنّ جينات كلا النوعين مختلفة؟ (علي، من العراق).
الجواب: القضيّة بسيطة جدّاً:
أ ـ فإذا ثبت لديك بدليل منطقي مقنع أنّ هذا القرآن من عند الله الحقّ المطلق الذي لا يقول الباطل، وأنّ هذه القصص تخبر عن وقائع حدثت، فمن الطبيعي أن تصدّق بما فيه حتى لو لم تُثبته الدراسات العلميّة الحديثة، فهذه الدراسات لم تُثبت كلّ شيء ولم تحسم كلّ القضايا، وهي ما تزال تتطوّر، ولنكن واقعيين ونبتعد عن اللغة الإعلاميّة، والمفروض ـ حسب سؤالكم ـ أنّ هذه الدراسات لم تُثبت صحّة القصّة، لا أنّها أثبتت بطلانها بالوثائق، وهناك فرق بين الحالتين.
وبناءً عليه، فإنّ قناتك المعرفيّة لن تكون هي علم الآثار وأمثاله فقط، بل بحكم قناعتك بصحّة هذا النصّ الصادر عن الله تعالى سوف تؤمن تلقائيّاً بمصدرٍ معرفيٍّ جديد، وهو القرآن أو (النصّ)، وعندما ثبت لديك منطقيّاً أنّ هذا المصدر المعرفي صحيح، فمن الطبيعي أن تأخذ بما فيه، طالما أنّ سائر المصادر المعرفيّة لم تقدّم معطيات ناقدة أو مبطلة لما قدّمه هذا المصدر المعرفي، فهذا مثل أن يخبرك خمسةٌ من أصدقائك بأنّك نجحت في الثانويّة، ولكنّ خمسةً آخرين لم يطّلعوا على الموضوع أساساً بل كانوا نائمين في بيوتهم، فإنّ عدم اطّلاعهم لا يُبطل بالضرورة ولا يُسقط خبر المجموعة الأولى.
ب ـ وأمّا إذا كنت لا تؤمن بمنطقيّة الأدلّة التي قيلت حول إثبات صحّة نسبة القرآن لله تعالى بوصفه الحقّ المطلق والصدق المحض، ورأيت أنّ القرآن الكريم ليس سوى نتاج لعقل محمّد بن عبد الله، أو اعتقدت أنّه منسوب صدقاً إلى الله لكنّ القصص التي فيه هي قصص خياليّة أو أسطوريّة الهدف منها تربويٌّ، وليس الهدف منها إخباريّاً تاريخيّاً، ففي هذه الحال من الطبيعي أن لا تؤمن بما جاء من قصص في هذا الكتاب الديني بوصفها وثائق تخبرنا عن وقائع حدثت بالتأكيد، سواء قالت العلوم الطبيعيّة شيئاً عن مضمون هذه القصص أم لا، فالقضيّة على الحالتين لا تأثير فيها لسكوت العلوم الطبيعية والإنسانيّة هنا، وإنّما المعيار هو مدى قناعتك بصحّة نسبة هذا الكتاب لله، مع قناعتك بطبيعة الدلالات التي جاءت هذه القصص من خلالها.
إذن، فأنت أمام حالتين: إمّا يثبت عندك منطقيّاً أنّ القرآن مصدر معرفي من خلال إثباتك النبوّة والإعجاز ونحو ذلك مثلاً، فمن الطبيعي لك أن تأخذ منه معلوماتٍ، وتضيف إلى معلوماتك منه معلوماتٍ جديدة، وسكوت أو عدم قدرة العلوم الأخرى على إثبات ما نقله لك القرآن لا يؤثر شيئاً، ما دامت هذه العلوم لم تقدّم معطيات عكسيّة للمعطى القرآني. وإمّا أن لا يثبت عندك مصدريّة القرآن معرفيّاً، وهنا لا حاجة لهذا الإشكال أعلاه، فالقرآن عندك كتاب كتبه شخص منذ ألف وأربعمائة عام دون أن نتأكّد من أنّه من عند الله، وهذا يعني أنّه كتاب لا قيمة معرفيّة له بوصفه مصدراً من مصادر المعرفة، سواء تحدّثت سائر المصادر المعرفيّة عن بعض قصصه أم لا.
ولابدّ لي أن أشير إلى مسألة في غاية الأهمية يكثر قيام الحوارات الفكريّة عليها، فبعض الناس آمنوا بأنّ المصدر الوحيد الذي يمكن من خلاله بناء علمنا هو العلوم الطبيعية والإنسانية الحديثة التي يعتبر الغرب رائدها الأبرز اليوم، وهؤلاء بعد أن آمنوا بذلك أخذوا يقيسون أيّ شيء آخر على هذا المقياس الذي آمنوا به، وهذا شيء طبيعي جدّاً، فإذا جاء نصّ ديني فلا قيمة له إلا إذا عرض على هذا المقياس لإثباته، فإذا لم يُثبته فلا قيمة علميّة ولا معرفيّة له، والنقطة المهمّة هنا ليس في أدائهم هذا فهذا أداء صحيح ومنطقي، إنّما المهم في خوض حوار معهم هو أن يجعل الحوار في البُنيات الفلسفية لهذه القناعة بالمرجعيّة الحصريّة لهذه العلوم، فالحوار الديني ـ الإلحادي (بالمعنى المعاصر الواسع لكلمة الإلحاد، وليس إنكار الله فقط) إذا ظلّ يدور حول الخلاف في نقاط معيّنة هنا وهناك في قضية دينية هنا وهناك فلن ينتهي، وقد لا يصل إلى نتيجة؛ لأنّ المُلحد يطالب الديني بأن يثبت له شيئاً وفقاً للمعايير التي آمن هو بها، فهو يفرض على الديني معاييره، فإذا لم يقدّم له دليلاً من معاييره فهذا يعني عنده أنّ معطيات الديني باطلة، وهذا صحيح قياسيّاً، لكنّه يُفهمنا أنّ الحوار كان ينبغي ـ لكي يكون مفيداً ويتجنّب تكرار المشاهد المتشابهة ـ أن يقوم على الأسس، أي على اعتبار العلم الحديث مرجعية معرفيّة حصريّة أم لا، واعتبار الفلسفة مرجعيّة معرفيّة فاشلة أم لا، واعتبار النصّ الديني مرجعيّة معرفية باطلة أم لا، واعتبار مثل الفيزياء النظريّة جهداً تجربيّاً محضاً أم نشاطاً فلسفيّاً في جوهره.. وغير ذلك، فيجب أن يكون البحث ايبستمولوجيّاً بامتياز، وإلا فلن نصل إلى نتيجة سوى تسجيل نقاط بشكل متكرّر على بعضنا.
ولكي أوضح فكرتي أكثر لنعكس المشهد، ولنفرض أنّ الديني لا يؤمن بمصدر معرفي آخر غير النصّ الديني (القرآن أو الإنجيل أو التوراة..)، ثم جاءت العلوم الطبيعيّة وأثبتت شيئاً ما مثل أنّ الشمس متكوّنة من الهيدروجين والهيليوم وبعض الغازات الأخرى، فهنا سيقول الديني لخصمه: هل يمكنك أن تثبت لي بالنصّ الديني أنّ الشمس متكوّنة من الهيدروجين والهيليوم و..؟ فإذا أمكنك فسوف أقتنع معك، وإذا عجزت فلن أؤمن بنتائج العلوم الطبيعية، وستكون مدّعياتك باطلة ومُخْجِلَة.. وسوف يجيبه الخصم: لا يمكن أن أثبت لك ذلك من خلال النصّ الديني، بل الإثبات عندي هو علميٌّ بحت، بالمعنى المعاصر لكلمة (علمي)، فهل سيصل نقاشهم إلى نتيجة في هذه النقطة؟! إنّ المفترض هنا ليس أن يفرض شخص على آخر أن يقنعه بطريقته، بل أن يتناقشا في ما هي المصادر المعتمدة للوصول إلى نتائج في القضيّة الفلانية؟ فهل النصّ الديني مصدرٌ معرفي في قضايا التاريخ والكون أم لا؟ وهل العلوم الطبيعيّة مصدرٌ معرفي في قضايا الغيب أم لا؟ فالبحث مركزه هنا، وما لم ينتقل الحوار إلى هذه النقطة، فإنّ كلّ أو أغلب الحوارات التي من هذا النوع ستبدو تكراريّة وجدليّة ذات طابع تنافسي أو سياسي فقط.
ومن هنا، فإنّ عالم الأحياء الذي لن يقتنع بتحوّل العصا إلى حيّة ـ رغم أنّه لم يكتشف كلّ حقائق الكون بعدُ ـ لا يعني عدم اقتناعه ضعف الفكرة الدينية بالضرورة، كما أنّ عدم اقتناع الديني بفكرة الجينات الوراثية لأنها ليست موجودة في القرآن مثلاً لا يفرض على عالم الأحياء ضعفاً أو تراجعاً عن قناعته أو هزالاً في فكرته؛ لأنّ العجز عن إقناع كلّ طرف للآخر ليس سببه ضعف فكرته بالضرورة، بل سببه أنّ الآليّات التي اعتمدها كلّ طرف مختلفة عن الآخر، فهذا مثل شخص يقول: أثبتوا لي أنّ زيداً قتل عمرواً من خلال سماعي لصوت الملائكة، فهل إذا عجزنا عن تلبية طلبه فهذا معناه أنّ فكرتنا باطلة؟! أم أنّ الموضوع يجب أن يتمّ النقاش فيه على مستوى إقناعه أوّلاً بأن إثبات هذه القضية قضائيّاً لا يجب أن يكون عبر سماع صوت الملائكة فقط.
نعم، لو قدّم العلم معطيات تثبت بطلان الإخبار الديني في القصص، فهذا شيء آخر مختلف تماماً، فلا ينبغي الخلط بين الأمور.
ماذا عن جزم الانثروبولجيا وغيرها من العلوم حسبما يقول المتخصصون فيها من ان مصرا لم تحمل يوماً على ارضها قوما من بني اسرائيل؟
وكيف جزموا؟
وكيف جزموا اخي العزيز؟
سلام عليكم شيخنا
كلام رائع فيما ورد في اعلاه ..
واتمنى ايضاح مسألة
اولاً كيف نفسر ماورد حسب الكشوفات الاثارية ان القصص التوراتية والقرآنية لها اصول في اساطير الامم القديمة التي هي اقدم من ناحية الزمن كحدوث وكورود على لسان من الزمن الذي تتحدث عنه القصص القرآنية والتوارتية، كما في قصة خلق السموات والارض ،قصة آدم وحواء ،قصة الطوفان وقصص لشخصيات واحداث تشابه شخصيات واحداث الانبياء نوح ابراهيم وموسى وادريس وعيسى وأيوب الخ.
ثانياً كيف نفسر انه لا وجود ولا لديل آثاري واحد من بين مئات الالاف من الرُقم الطينية والبرديات لاحداث عظيمة كما التي حدثت للانبياء او حتى على وجودهم على عظمهم وعظم تأثيرهم في زمنهم ، في حين هناك الالاف الادلة الاثارية والتاريخية لوجود شخصيات كالملوك وغيرهم.
ومنه كأن لا دليل آثاري ولا دليل تاريخي واحد حتى على وجود مملكة عظيمة كمملكة سليمان عليه السلام كما الوصف القرآني رغم انها عاصرت ممالك عظيمة في زمنها في وادي الرافدين ووادي النيل ،فلم تذكر هكذا مملكة رغم كونها عجيبة وعظيمة في سجلات تلك الممالك ولم يذكر ملكها ،في حين ان هناك سجلات تذكر الممالك والدول المحيطة وتذكر حروباها معها وتجارتها وغيرها.
مع ملاحظة الجهود المبذولة من اسرائيل بنفسها لاثبات وجود مملكة سليمان ع لما يرتبط بأثبات حقها التاريخي والمعنوي، الا انهم فشلوا لحد اللحظة كما يبدو من اثبات وجودها تاريخياً و آثارياًرغم تطورهم التكنلوجي والعلمي في هذا المجال بل اكثر من هذا ذهب بعض العلماء في بحوثهم الى استحالة وجود هكذا مملكة تاريخياً.
ويمكن الاطلاع على مانقله فراس السواح بهذا المجال.
كل هذا وغيره ، من تفاصيل تُأخذ من اهل الاختصاص تدفع بالكثير من التساؤلات التي تحتاج الى اجابة شافية ووافية ،علماً بأني قد اطلعت على محاضراتكم في تفسير سورة الفيل ،ولما فيها من فائدة عظيمة ،الا انه لم يتم التطرق الى هذا الجانب من الموضوع ،وانما تم التطرق الى الاسطورة بالمعنى القرآني لا بالمعنى الاصطلاحي الحالي ، ولم يتم التطرق الى تفسير تشابه هذه القصص القرآنية مع الاساطير القديمة التي تحكي عن اللازمان لبعض الاحداث او تحكي عن احداث لشخصيات معروفة ،بأزمان قديمة ،او على الاقل تم تدوين هذه القصص قبل التوراة بالالاف السنين ، كما لم تبين هل ان التوراة تكون قد نقلت هذه القصص بتصرف خاصة بأنه من المعروف انه عصر تدوين التوراة كان بعد السبي البابلي وبعد النبي موسى ع بما لايقل عن ٦٠٠ سنة.
نسأله تعالى لكم الموفقية وارشادنا الى مايخدم في هذا المجال.