السؤال: يتحدّث البعض عن التواضع فيقول فلان متواضع؛ لأنه يقود سيّارة عادية بالرغم من غناه، ولكن في نفس الوقت يملك بيتاً فخماً، وهكذا.. بحيث يبدو المشهد متناقضاً وغير مركّب بشكل صحيح. هل التواضع نسبي؟ وهل يصحّ أن نقول عن فلان متواضع مع هذا المشهد المتناقض أم أنّ التواضع إما أن يؤخذ بكلّه أو يترك بكلّه، خصوصاً الأمور البارزة التي تربك الناس ويتعرّض الشخص معها إلى القيل والقال؟
الجواب: أولاً: التواضع مفهوم يقابل التكبّر، وهما يعبّران عن علاقة بين طرفين، فإذا شعر الإنسان بإحساس أنّه أكبر من شخصٍ ما، ثم مارس هذا الشعور عبر تعبير اجتماعي علائقي معيّن، فهو متكبّر، وإذا أحسّ بأنّه أقلّ من الآخرين أو مارس ما هو أقلّ من مستواه في علاقته معهم فهو متواضع، مثلاً، لو كان عالماً كبيراً ثم ناقشه شخص جاهل بمناقشة سخيفة، فطبيعة الموقف تستدعي أن يعرض عنه أو لا يهتمّ به، لكنّه مع ذلك ينصت إليه ويستمع وكأنه يستفيد منه، فهذا نقول عنه بأنّه بنى علاقة تواضع مع الشخص الآخر. وهكذا لو كان غنيّاً من شأنه ركوب أفخم السيارات لكنّه عندما يناديه صديقه للصعود معه في سيارة بائسة فهو يستجيب ولا يتمنّع، وهذا ضربٌ من التواضع، فالتواضع هو علاقة بين شخصين كالتكبّر، ولهذا تحدّث علماء الأخلاق عن التواضع ناسبينه إلى طرف آخر، كما تحدّثوا عن التكبّر كذلك، فقالوا: التكبّر على الله، والتكبّر على الرسل، والتكبّر على الناس، بحيث يرى نفسه أعظم وأهمّ من الآخرين ويتنامى عنده هذا الشعور بالعظمة. وهذا كلّه يعني أنّ مقولتي: التكبّر والتواضع لا علاقة لهما بنفس طبيعة عيش الإنسان، ما لم نأخذ بعين الاعتبار طرفاً آخر، يعيش الإنسان حالةً نفسية معه تنعكس سلوكاً اجتماعياً، فنفس الحياة الرغيدة ليست تكبّراً، كيف وهذا سليمان النبي عليه السلام كانت حياته من أفخم الحياة وأعظمها، وكان سلطانه كبيراً ولم يتّهم بالتكبّر، بل هو دعا الله سبحانه أن يكون له ملك لا ينبغي لأحد من بعده، ولم يسمّ هذا تكبّراً وعظمة، بل قد استجاب الله تعالى دعاءه وأمدّه بالعطاء غير المجذوذ.
ثانياً: يمكن فرض درجات متعدّدة للتكبّر والتواضع، فهذه مفاهيم ذات تطبيقات نسبيّة، فقد يكون إنسانٌ في نمط حديثه مع الآخرين متواضعاً، لكنّه في قبوله بالأكل معهم إذا كانوا فقراء لا يبدي تواضعاً، فليس هذا تناقضاً في المشهد، وإنّما هو نقصان في الصورة، تماماً كالإنسان الخاشع عندما يصلّي صلاة الصبح، لكنّك تجده في سائر صلواته لاهياً غافلاً، نعم من المستحسن أن تكتمل الصورة.
ثالثاً: لا أعلم دعوةً دينية لإظهار الغنيّ نفسه فقيراً، فهذا شيء لم يثبت بوصفه قاعدة في التواضع، إذا ما استثنينا إمام المسلمين الذي يوجد كلام في الدعوة لظهوره بمظهر الفقر، ففي بعض الروايات أنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده، وهذا قولٌ في تفسير قوله تعالى: (وأمّا بنعمة ربّك فحدّث) (الضحى: 11)، كما ورد في النصوص ما يفيد مدح الدار الواسعة والمركب الهنيّ وغير ذلك، بل الوارد في بعض النصوص أنّ بعض الأئمّة وبعض رموز الصحابة المنتجبين كانوا يلبسون ثياباً فاخرة، وهذا أمر معروف في النصوص التاريخية. وهذا يعني أنّ تطبيق التواضع مسألة نسبيّة تختلف من طريقة إلى أخرى ومن ظرف لآخر، وأنّ الدين عندما حثّ على التواضع لاحظ أيضاً أنّ هذه القيمة الأخلاقية عليها أن لا تلغي سلباً قيماً أخلاقية أخرى، فليس من التواضع الظهور بمظهر الفقر أمام غير المسلمين مثلاً. وهذه نقطة مهمّة جدّاً، وهي أنّ القيم الأخلاقية متعارضة دوماً، ويندر أن توجد قيمة أخلاقية مطلقة لا تقبل التخصيص، ولو كان هناك دعوة للتواضع بالظهور بمظهر الفقر دوماً أو بمظهر الجهل أو بمظهر الاستكانة الاجتماعية لتناقلت النصوص هذا المعنى ولرأيناه سنّةً في أعمال الأنبياء والأولياء والصالحين.