السؤال: أخي وأستاذي المحترم، أنا شاب مغترب منذ فترة طويلة، ولديّ القليل من الثقافة الدينيّة، وأعمل مع أشخاص من مختلف الجنسيات والملل، ويدور حديث بيننا حول مسائل مختلفة، أجيبهم فيها في بعض المرات، دون بعض، وأحياناً بعض الأسئلة تحتاج لمختصّ من أمثالكم، وأنا أرشدني أحد طلاب العلم في النجف الأشرف إليكم للاستفسار عن سؤال وجّهته لي امرأة مسيحيّة باحثة عن الحقيقة، والسؤال هو: إنّ الله تعالى يقول في القرآن الكريم: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون)، فهل الله ماكرٌ مثلنا؟ (علي الساعدي).
الجواب: دائماً عندما نواجه مفردةً عربيّة، علينا أن لا نغترّ بما لها من معنى في أذهاننا اليوم، لاسيما لو كنّا من العرب، بل من الضروري العودة لكتب اللغة واستعمالات الكلمة في التراث العربي لننظر فيما تعطيه هذه الكلمة من دلالة. وفي سياق الفهم لمعنى مكر الله الذي جاء الحديث عنه عدّة مرات في القرآن الكريم، طرحت عدّة أقوال هنا أبرزها:
1 ـ إنّ مكر الله هو مجازاة الله العباد على مكرهم ومعاقبتهم على ما فعلوا.
2 ـ إنّ مكر الله هو ردّه وإبطاله لمكر العباد الكافرين الفاسقين، فالله لا يمكر بالمعنى الذي نفهم بل هو يردّ المكر، فسمّي ردّ المكر مكراً.
وهذان المعنيان يبدوان مجرّد افتراض، لا يصحّ إلا في حال ما يُسمّى في اللغة العربيّة بمجاوزة الكلام، كما في مثل قوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِين) (آل عمران: 54)، فإنّ تعبيره بالمكر هنا جاء لمقابلة مكرهم فسمّاه مكراً، وهذا موجود في اللغة العربيّة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 39 ـ 40)، وقال تعالى: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة: 193 ـ 194)، فإنّه سمّى ردّ السيئة بأنّه سيئة، وعبّر عن ردّ العدوان بأنّه عدوان، مع أنّ الردّ لا هو بالسيّئة ولا هو بالعدوان، وإنّما ذلك ـ كما قال اللغويّون والبلاغيون ـ من باب مجاوزة الكلام ومقابلته، فإنّ العرب قد تسمّي عقوبة الشيء باسم ذلك الشيء، وقد تسمّي دفع ذلك الشيء باسمه، وقالوا بأنّ مثله قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 142)، وقوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون) (البقرة: 14 ـ 15). وبناء عليه فإنّ إطلاق المكر على الله من باب المجاوزة، ومعناه: إنّ الله يردّ مكر الماكرين، أو معناه: إنّ الله يعاقب الماكرين على مكرهم.
3 ـ ما أجده من أفضل الأجوبة، وهو أنّ المكر في أصل اللغة يعني الاستعانة بالحيلة، ومعنى الحيلة ليس ما يتبادر اليوم إلى أذهاننا من الدلالة السلبيّة لهذه الكلمة، بل الحيلة هي الوسيلة، ففلانٌ يحتال، تعني في أصل اللغة أنّه يبحث عن وسيلة لحلّ الموضوع أو للوصول إلى الهدف، فالمكر في اللغة يعني التدبير والتخطيط بإحكام واجتماع فيساوي مطلق التدبير المحكم، وإذا أخذته في مقابل شخص آخر أخذ معنى غفلة هذا الآخر عن التخطيط الذي تقوم أنت به، فعندما يخطّط المجاهدون في الحرب ضدّ المعتدين بخطّة محكمة فهذا مكرٌ وحيلة.
دعونا في البداية نقوم بجولة سريعة على بعض كتب اللغة، ثم ننظر في التعاطي القرآني مع هذه المفردة، فقد قال في (كتاب العين 5: 370): (المَكْرُ: احتيال في خفية). وقال في (المحيط في اللغة 6: 263): (المَكْرُ: احْتِيَالٌ بغَيْرِ ما تُضْمِرُ)، وقال في (الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربيّة 2: 819): (المَكْرُ: الاحتيالُ والخديعةُ. وقد مَكَرَ به يَمْكُرُ فهو مَاكِرٌ ومَكَّارٌ)، وقال في (معجم مقائيس اللغة 5: 345): (الميم والكاف والراء كلمتانِ متباينتان: إحداهما المَكْر: الاحتيال والخِداع. ومَكَرَ به يمكُر. والأخرى المَكْر: خَدَالة السَّاق. وامرأةٌ ممكورة السَّاقَين)، وقال في (مفردات ألفاظ القرآن: 772): (المَكْرُ: صرف الغير عمّا يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكرٌ محمود، وذلك أن يتحرّى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال: وَاللّٰهُ خَيْرُ الْمٰاكِرِينَ [آل عمران: 54]. ومذموم، وهو أن يتحرّى به فعل قبيح، قال تعالى: وَلٰا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلّٰا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43]..)، وقال في (لسان العرب 5: 183): (الليث: المَكْرُ احتيال في خُفية).
فالمعاجم اللغوية تتحدّث عن المكر بأنّه احتيال أو احتيال في خفيّة، ولو راجعنا كلمة الاحتيال والحيلة فهي لا تعني في لغة العرب الأمر المذموم فقط، بل تعني مطلق الوسيلة، فالشخص يقوم بتحويل الشيء وتقليبه ليرى كلّ طرقه ومنافذه، قال في (كتاب العين 3: 297): (الاحتِيالُ والمُحَاوَلة: مطالبتك الأمر بالحِيَل)، فقد جعل المحاولة مثل الاحتيال، وأنّهما بمعنى الوصول إلى الشيء بالحيل، وقال في (المحيط في اللغة 3: 208 ـ 209): (الحَوْلُ: الحِيْلَةُ، ما أَحْوَلَهُ. والْمَحَالَةُ: الحِيْلَةُ، وكذلك الحَوِيْلُ. والحِوَلُ والمَحِيْلَةُ. والمُحَاوَلَةُ: مُطَالَبَتُكَ الأمْرَ بالحِيَلِ. ورَجُلٌ حُوَّلٌ قُلَّبٌ: ذو حِيَلٍ، وحَوَالِيٌّ أيضاً. ويقولونَ: لا حُوْلَةَ: أي لا حِيْلَةَ. وحالَ الرَّجُلُ حَوْلًا وحِيْلَةً، واحْتالَ. وما فيه حائلَةٌ: أي حِيْلَةٌ..).
ومن هذا كلّه نستنتج أنّ المكر هو الاحتيال، لاسيّما مع عدم شعور الطرف الآخر، وأنّ الاحتيال معناه في اللغة الاستعانة بالحِيَل، وأنّ الحِيَل في اللغة هي الوسائل والطرق والأسباب والإمكانات، ولهذا تربط الحيلة في اللغة بالحول والقدرة، ومنه (لا حول ولا قوّة إلا بالله)، أي لا حيلة لنا إلا به، أي لا إمكانات لدينا لفعل شيء أو للخروج من شيء إلا بالله تعالى. ومن هذا الباب قول العرب: فلانٌ لا حيلة له، أي لا إمكانية ولا مفرّ ولا وسيلة له لفعل شيء أو للخلاص من شيء، فهو عاجز مفتقر.
فإذا أدركنا الجذر اللغوي للكلمة، أمكن أن نعرف بأنّ الله يمكر أيضاً بلا حاجة للمجاوزة ولا للمقابلة ولا لغير ذلك، ومعنى أنّه يمكر هو أنّه يخطّط ويدبّر ويستخدم الوسائل والأسباب ليصل إلى ما يريد، من حيث لا يعرف البشر أسرار فعله وتخطيطه، ولأنّ الله هو المالك المطلق والمقتدر الأعلى لكلّ الوسائل والإمكانات قال: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّار) (الرعد: 42). ومن الطبيعي أنّ المكر بهذا المعنى العام قد يكون فعلاً جيّداً وقد يكون فعلاً مذموماً، ولهذا لاحظوا كيف أنّ القرآن الكريم صنّف المكر إلى سيء وغير سيء، قال تعالى: (ومَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (آل عمران: 54)، وقال سبحانه: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (الأنفال: 30)، وقال تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر: 10)، وقال عزّ من قائل: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: 42 ـ 43).
وخلاصة الكلام: إنّ الله يمكر، والمعنى لغةً هو أنّه يخطّط ويدبّر ويأخذ بالوسائل للوصول إلى هدفه، فيما الناس في غفلةٍ عن ما يراد بهم، وهم منشغلون بالدنيا والملذات والأهواء. وأهداف الله حقّةٌ خيرٌ يواجه بها المفسدين والظالمين، فليس في استخدام هذه الكلمة أيّ منافاة لمقام الألوهيّة، نعم، قد تطلق كلمة المكر، وتنصرف في بعض الاستعمالات إلى التخطيط العدواني الخفيّ على الآخرين، لكنّ هذا ليس هو المعنى اللغوي الحصري لها، بل أصلها اللغويّ أعمّ من ذلك.
شكرا جزيلا بارك الله بكم