السؤال: أستاذي.. أنا ما زلت حائرة في فهم الإسلام.. ولا أجد من يجيبني.. أحاول جمع الحقيقة وكأنّها قطع مبعثرة.. لو شرعنا من البداية، عندما يولد الإنسان، هو يكون إنساناً، شكلاً.. لكن مضموناً.. يكون كالمادة الأوليّة التي يمكن تشكيلها.. سؤالي: كيف يصبح الإنسان إنساناً؟ أقصد ما هي الأشياء أو ربما ما هي القيم التي تجعل من الإنسان إنساناً؟ أليس الله سبحانه يريد منّا أن نكون إنسانيّين؟ كيف نكون؟ (م، الكويت).
الجواب: إذا فهمتُ السؤال بشكل صحيح، فإنّني أعتقد أنّ فيه خطأ واضحاً، فمن جهة نحن نتحدّث عن الإنسان وكيف يصبح إنساناً، وهذا بحث وجودي أنطولوجي يدرس مكوّنات هذا الكائن وعناصر امتيازه عن سائر الأنواع الأخرى المخلوقة كالغنم والبقر والنبات والجماد وغير ذلك. أمّا الجهة الأخرى من السؤال فهي: كيف يكون الإنسان إنسانيّاً؟ وما هي القيم التي تجعله كذلك؟ وهذا السؤال داخل في القيم والسلوكيّات والمفاهيم، ولا ينتمي إلى دائرة الحقائق.
ولكي أوضح مقصودي من الخطأ المنهجي في السؤال، يجب أن نميّز من حيث المبدأ ـ كما فعل الكثير من فلاسفة العالم ـ بين شيء اسمه الحقيقة وآخر اسمه الاعتبار، وسوف أبسّط الموضوع، فلو أخذنا مثلاً عنواناً مثل سريّة الجيش، فسوف نلاحظ مجموعةً من عناصر الجيش تتشكّل معاً لكي تجعل سريةً وتكوّن فرقةً عسكرية، لو نظرنا إلى عالم الواقع بعيون الحقيقة سنجد مجموعةً من الأفراد، وليس هناك شيء آخر ـ غير هذه الأفراد من عناصر الجيش ـ اسمه سريّة. السرية أو الفرقة هي عبارة عن مفهوم اصطنعه العقل واعتبره الذهن لكي ينظّم الأمور واضطرّ إليه اضطراراً، ليس هناك في الواقع شيء اسمه زيد وعمرو وبكر وخالد ومحمد وسعيد وجهاد ـ وهم أفراد الفرقة العسكرية ـ وإلى جانبهم شيء اسمه السريّة أو الفرقة، إنّ السرية مفهوم لا وجود خارجي له أساساً، فلو فتّش الفيزيائي أو الكيميائي أو أيّ عالم من المهتمّين بالواقعيّات عن السريّة، فلن يجد شيئاً يضع يده عليه اسمه السريّة، وإنّما سيضع يده على أفراد هذه السريّة فقط.
1 ـ الحقائق، وهي التي توجد في ذهننا ويكون لها واقع خارجي، مثل الهواء والماء والتراب.
2 ـ الاعتباريّات، وهي القضايا أو التصوّرات التي ينسجها العقل مضطرّاً لغايات ومصالح، ثم يفترض لها واقعاً خارجيّاً، وليس لها أيّ واقع، وهذه نسمّيها الاعتباريّات.
3 ـ الوهميّات، وهي أمور يتوهّمها العقل مخطئاً، مثل تصوّره وجود شبح في البيت، ولا يكون هناك شيء مثلاً.
عندما نسأل: من أيّ شيء تتألّف قطرة الماء هذه؟ فنحن نبحث في أمور حقيقيّة وجودية أنطولوجية، وسيأتي العلماء هنا ليقولوا بأنّها تتألّف من الأوكسجين والهيدروجين، ولكن عندما نسأل: ما هي القيم الأخلاقية التي يمكنها أن تنظّم حياة البشر؟ أو ما هي القوانين التي تصلح لتنظيم أمورنا اليوميّة؟ هذا السؤال لا يجيب عنه العلماء الطبيعيّون مثلاً، فلو بحثوا بالمكبّرات وكلّ الأجهزة فلن يجدو شيئاً اسمه القيمة الأخلاقيّة، ليس هناك أمرٌ أضع يدي عليه ويكون هو القيمة الأخلاقية مثلاً، حسناً فما هي القيم الأخلاقية والقانونية؟ الجواب هو أنّها مجموعة من المصطنعات التي اخترعها الذهن البشري مضطرّاً لتنظيم أموره، وأنّ الغرض منها هو أن يقدم الإنسان على سلوك أفضل يرجع عليه وعلى أبناء نوعه بالمصلحة والفائدة.
عندما أسأل: بماذا يكون الإنسان إنساناً؟ فالجواب هو بدراسة المكوّن النفسي والروحي والعقلي والجسدي لهذا الكائن الحيّ، ولكن عندما أقول: كيف يكون الإنسان إنسانيّاً له نزعة إنسانيّة؟ فهذا يكون جوابه في مكان آخر لا يرتبط بهويّة الإنسان الوجوديّة، بل سيكون لدينا إنسانٌ ليس إنسانيّاً بالمعنى المعاصر لكلمة (إنساني)، وإنسانٌ آخر هو (إنسانيّ) بالمعنى نفسه، فليست القيم مقوّم هويّة الإنسان وجودياً، نعم لو عمل بها يمكن أن تتنامى روحه وتتعالى وتحدث فيها تغيرات، لكنّها تغيرات عمقيّة تطرأ عليه بعد أن كان إنساناً. فالإنسان إنسان بعقله وبوعيه وبقدراته الذهنيّة على فهم الأشياء، بل بقدرته أيضاً على نسج التصوّرات الاعتبارية بوصفها طاقة خلاقة في العقل البشري، سواء توصّل فيما ينسجه إلى (الإنسانية) بمعناها المعاصر أم لا، نعم لو كانت (الإنسانيّة) بمعناها المعاصر هي الصورة الاعتبارية (قانوناً وأخلاقاً وقيماً) الأفضل لصلاح حال الإنسان ـ الفرد والجماعة ـ فسوف تساعد على ترقّيه واشتداد إنسانيّته أكثر فأكثر.
عندما نقول: أليس الله أرادنا إنسانيّين؟ فهذا سؤال لا يعني أنّ من لا ينتمي إلى مدارس الإنسانيات المعاصرة في الفكر الاجتماعي والسياسي والحقوقي فهو ليس إنساناً، إنّه إنسان، وقد تشكّلت هويته وانتهت، (والإنسانية) التي نتحدّث عنها ليست هي هويّته، وإنما هي مفاهيم اصطنعها هو يرى فيها الأصلح لفرده ولمجتمعه، فلا يصحّ أن أخلط بين إنسانية الإنسان بالمعنى الوجودي وإنسانية الإنسان بالمعنى الأخلاقي، وإلا فسوف ارتكب أخطاء كبيرة.
إذا اتضح ما تقدّم، نصل إلى الإشكالية التي يواجهها السؤال المثار أعلاه، وهي أنّه لا يصحّ أن أفترض أنّ إنسانية الإنسان وجودياً تستدعي كونه إنسانيّاً (بالمعنى المعاصر) أخلاقيّاً، حتى أفرض حمولات أخلاقية وقانونية بحجّة أنّ هذا ما تستدعيه الإنسانية الوجوديّة، هذا الأمر بهذا القدر لا يكفي، بل يحتاج إلى عناصر أخَر يجب إقحامها.
مثلاً: كثير من أهل الأديان عندما يريدون ذمّ شيء يقولون بأنّ هذا ما تفعله الحيوانات، التعرّي فعل حيواني، والزنا فعل حيواني، والعدوانية فعل حيواني، لكنّهم من جهة أخرى يقولون: تعلّم من هذا الحيوان كالكلب الصدق والإخلاص، ومن هذا الحيوان كالنملة الصبر، ومن هذا الحيوان كالجمل الحياء و… في تقديري هذه المنظومة الخطابية غير واضحة المعالم؛ لأنّ حيوانيّة الحيوان ليست قيماً وأخلاقيّات خاصّة من الناحية الفلسفيّة، إنّما هي شيء آخر، حتى أنّ الحيوان لا يعي الإخلاص أو الحياء ولا ينطلق نحوهما من وعي قيمي أخلاقي، تماماً كما لا يعي الشهوة الجامحة أو العدوانية القاتلة حتى نقول بأنّه يُقدم عليهما من منطلق وعي قيمي أخلاقي معيّن، نعم كلّما تعاليت أخلاقياً فإنّني سوف أبتعد عن البُعد الحيواني الخالص، وكلّما تسافلت أخلاقيّاً فسوف أشبه نمط عيش الحيوانات، هذه تشبيهات تستخدم للتدليل على أنّ القيم الأخلاقية شأنٌ إنساني؛ لأنّ الحيوان لا يعرف قيماً أو أخلاقيات، فليس عنده عقل قادر على إبداع الأمور الاعتبارية التي تهدف تنظيم الاجتماع، وإنّما يُقدم على ما يُقدم عليه دون أن يعي النتائج، بل بدافع غريزي قهري، فلا تدرك النحل أيّ شيء عن نظام حياتها، بل كلّ نحلة مجهّزة بطريقة تلقائيّة ذاتية غريزية نحو فعلها، دون أن تدري بأنّ فعلها هذا سيشكّل جزءاً من منظومة بالغة التعقيد. أمّا الإنسان فله قدرة الوعي النظري والعملي، وله قدرة إدراك الأشياء إدراكاً واعياً، كما له قدرة فهم غايات أفعاله، وله قدرة وضع معايير تنظيمية لتحسين حياته، أمّا ما هي التنظيمات والقوانين والأخلاقيات التي تنسجم مع مصالحه العليا فهذا أمرٌ يختلف فيه الناس، رغم اشتراكهم جميعاً في الإنسانيّة.
وخلاصة القول: إنّ الإنسانية بمفهومها المعاصر ليست سوى صيغاً تنظيمية لحياة البشر يفترض أنصارها أنّها الأفضل لهم، لا أنّها جزء لا يتجزّأ من المكوّن الخَلْقي الإنساني الوجودي لهم، فإنّ هذا الأمر يحتاج لدليل، تماماً كالمنظومة الأخلاقية الدينية التي تدّعي أنّها المتناسبة مع الفطرة، فإنّ هذا يحتاج أيضاً إلى دليل، ولا تكفي فيه إنسانيّة الإنسان أو تميّزه عن الحيوان، فإنّ تميّزه عن الحيوان إنّما يكون بأصل وجود عقل نظري وعملي له، لا بهذه النتيجة من نتائج العقل العملي ولا بتلك النتيجة من نتائج العقل النظري خاصّة.