السؤال: كيف نفهم ونبرّر الفتوى التي تجيز تفخيذ الرضيعة؟ (أبو ياسر).
الجواب: تارةً نتكلّم على مستوى الأدلّة الاجتهادية التي يعتمدها الفقهاء في التوصّل إلى الأحكام الشرعيّة، وثانية نتكلّم على مستوى طبيعة بيان المسائل الفقهية والفتاوى الشرعيّة، وكيف يفترض أن تصاغ الفتاوى وفقاً للمناخات الزمانية والمكانيّة، وثالثة نتكلّم عن قبح المضمون الذي تحمله فتوى معيّنة وبشاعة الصورة التي تقدّمها لنا، بصرف النظر عن طريقة البيان وعن طبيعة الأدلّة الاستنباطية:
1 ـ أمّا على المستوى الأوّل، فإنّ الفقيه الذي يفتي بهذه الفتوى ينطلق من خلال إطلاقات وعمومات النصوص الدالّة على حقوق الزوج على الزوجة واستمتاعه بها وعلى طبيعة العلاقة بينهما، فهذه النصوص الإسلاميّة القرآنية والحديثيّة عند الفرق الإسلاميّة كافّة، تتحدّث عن أنّ للزوج أن يمارس مع زوجته أيّ فعل غريزيّ أراد ما لم يلزم منه الضرر له أو لها، ولا تستثني هذه النصوص إلا بعض الموارد، كمقاربة الزوجة وهي حائض أو نفساء، والدخول بالزوجة التي لم تبلغ سنّ التاسعة من عمرها، ومقاربة الزوجة من دبرها عند بعض الفقهاء، على تفصيل في ذلك، ونحو هذه الأمور. وقد ذهب الفقهاء ـ إن لم نقل بأنّ المسألة إجماعيّة بينهم ـ إلى أنّ الزوجيّة علاقة تجمع بين طرفين، وأنّ هذين الطرفين لا يشترط فيهما أن يكونا بالغين، فيمكن أن يكون الزوج بالغاً دون الزوجة وبالعكس، ويمكن أن يكون الطرفان بالغين أو غير بالغين معاً، وفي حالة عدم البلوغ يتولّى الوليّ عن غير البالغ شؤون العقد وقراره. وهذا معناه أنّ الزوجة عنوانٌ يطلق على البالغة وغيرها كعنوان الزوج الذي يطلق على البالغ وغيره، فإذا دلّت سائر النصوص على أنّ للزوج من زوجته كذا وكذا، فإنّ هذه النصوص تشمل الزوجة البالغة وغيرها؛ لصدق عنوان الزوجة عليها، وقد خرجت غير البالغة بمسألة الدخول، فيبقى أيّ شيء غير الدخول مشمولاً للأدلّة، ومنه التقبيل بشهوة أو غيرها والتفخيذ ونحو ذلك. ومن هنا يفتي الفقيه بجواز تفخيذ الرضيعة؛ لأنّ الدليل الذي بين يديه يعطيه هذا الاستنتاج، وهو لا يسمح لنفسه بأن يستمزج الأمور أو يرفض الفتوى الموافقة للنصوص بحجّة أنّه يرى المسألة غير منسجمة مع ذوقه الشخصيّ أو مع ذوق الناس. هذا هو المنهج الاجتهادي الذي يؤدّي بالفقيه إلى مثل هذه النتيجة. وطبعاً هناك من يتحفّظ على هذه المقاربة الاجتهاديّة المتداولة، ويرى أنّ النصوص التي تحدّثت عن علاقة غريزيّة بين الرجل وزوجته منصرفةٌ عن حالة الرضيعة وأمثالها، وأنّ تلك النصوص كانت تحكي عن الحالة الطبيعيّة في مجال العلاقة الغريزيّة، وهي حالة كون الزوجة في سنٍّ تصلح ـ نوعاً ـ للتعامل معها غريزيّاً وجنسيّاً. وهذه قراءة أخرى للنصوص يراها بعض العلماء أو قد يرونها مثلاً، بل ذهب بعضهم إلى احتمال صدق عنوان الاستمناء على هذه الحال مرجّحاً احتمال التحريم. والحكم في ذلك كلّه هو طريقة فهم النصّ وتحليله ودراسة مضمونه، ومن حقّ أيّ باحث يحمل عدّة البحث الاجتهادي هنا أن يناقش فتوى تفخيذ الرضيعة أو يناقش من يرفضها، ما دام يملك وجهة نظر معتمدة على تحليل معقول.
2 ـ وأمّا على المستوى الثاني، وهو صياغة الفتاوى، فإنّني أوافقكم على أنّه ليس من المناسب بيان الأمور بطريقة توجب جرحاً ما عند القارئ بحسب الحالة العامّة، بحيث قد يؤدّي ذلك إلى تشويهٍ في صورة الدين والشريعة، وأنّه ينبغي صياغة الفتاوى بطريقة تخدم الأحكام الشرعيّة نفسها، لكنّني لا أوافق على إخفاء الفتاوى والأحكام بحجّة أنّ زيداً من الناس ستثيره هذه القضيّة أو تلك؛ لا سيما في مثل هذا العصر الذي بتنا نرى فيه أنّ بعض الناس مهما صغت لهم من فتاوى، فإنّهم يعيشون عقدةً مع الفتوى الشرعيّة، ولا يرون فيها بقعة ضوء، مع اعتقادي الشخصي في الوقت نفسه بأنّ هناك الكثير من الفتاوى غير الصحيحة وفقاً للمنطق العلمي السليم بحسب ما يبدو لي شخصيّاً.
3 ـ وأمّا على المستوى الثالث، وهو قضيّة القبح الذاتي في الفتوى، بحيث يأباها العقل السليم ويرفضها الذوق المستقيم، فهذه المسألة بالغة النسبيّة، فالذوق وقضاياه موضوعٌ معقّد خاضع للثقافات المختلفة ولصناعة الإعلام ووسائله. وما أريد أن ألفت النظر إليه في موضوع بحثنا هنا هو أنّ الفقيه يتعامل مع الأمور كما يتعامل معها القانوني، فالفقيه يقول بأنّ هذا الفعل جائز، ولكنّه لا يقول بأنّه واجب أو مستحبّ، وجواز فعلٍ من الأفعال من وجهة نظر القانون لا يعني حُسنه وجماليّته النهائية من وجهة النظر القيمية الأخيرة. لاحظوا معي أنّ غنيّاً كبيراً من الأغنياء جاءه فقيرٌ بالغ الفقر واحتاجه في مبلغٍ ماليٍّ هو بالنسبة للغني (لا شيء)، هنا يقول القانون بأنّ الغنيّ غير ملزم بالدفع، لكنّني لو أردت أن أصوّر الأمور بطريقة تراجيديّة لأمكنني أن أسفّه كلّ قوانين العالم التي تحكم بذلك، وأجعل الناس تبكي على مثل هذا القانون. إنّ الترخيص الذي يعطيه القانون لشيء ما لا يمنع من دخول عناصر أخلاقيّة على الخطّ أو ذوقيّة أو عرفيّة تستكرهه، فالشرع والقانون يجيزان للإنسان الخروج بلباسه الداخلي إلى الشارع، لكنّ هذا الأمر مستقبح في كثير من الأعراف. والشرع والقانون يجيزان للإنسان أن يبقى منظره قذراً لكنّ هذا الفعل مستقبح في أكثر الأعراف والأذواق. إنّ رؤية القانون للأشياء قد لا تلتقي مع رؤية الأخلاق أو العرف أو الذوق لها، بمعنى قد تلتقي الرؤيتان وقد تختلفان، وقد يكون ذلك أحياناً هنا وأحياناً هناك. ولهذا قلتُ في أكثر من مكان: إنّ الإسلام ليس فقهاً فقط، بل هو منظومة كبيرة من الفقه والأخلاق. والشريعة إنّما تعالج جانب الحقوق والواجبات في علاقات الإنسان، ولا تحسم الأمور في الأبعاد القيمية كلّها.
وأشير أخيراً إلى أنّ بعض الذين هاجموا هذه الفتوى ركّزوا نظرهم على السيد روح الله الخميني، من حيث وجود هذه الفتوى في رسالته العمليّة، مع أنّ هذه الفتوى موجودة في كتب الكثير من الفقهاء. كما أودّ التعليق على الاستخدام المذهبي لهذه القضيّة، فإنّه بالنسبة لي أمرٌ مثير للغرابة والتفكّه معاً أن يلجأ أبناء المذاهب الأخرى للتشنيع على مذهب فقهي بمثل هذه الفتوى، تماماً كما لا أوافق على التشنيع الذي يمارسه بعض الشيعة على فتاوى آخرين من المذاهب الأخرى مستخدمين هذا النهج من التعامل مع الأمور؛ فإنّه ـ والحقّ يقال ـ بأنّ كلّ مذهبٍ من مذاهب المسلمين لديه في الفتاوى غرائب وعجائب، إذا أردنا أن نتكلّم بهذا المنطق، ولو وسعنا المقام لذكرنا الكثير منها.
وأكتفي هنا بذكر كلامين، فالإمام ابن قدامة المقدسي يقول في كتاب المغني متحدّثاً عن موضوع الصغيرة ما نصّه: (فأمّا الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، فظاهر كلام الخرقي تحريم قُبلتها ومباشرتها لشهوة قبل استبرائها، وهو ظاهر كلام أحمد، وفي أكثر الروايات عنه قال: تستبرأ وإن كانت في المهد، وروي عنه أنّه قال: إن كانت صغيرة بأيّ شيء تستبرأ إذا كانت رضيعة؟ وقال في روايةٍ أخرى تستبرأ بحيضة إذا كانت ممّن تحيض، وإلا بثلاثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل فظاهر أنه لا يجب استبراؤها ولا تحرم مباشرتها، وهذا اختيار ابن أبي موسى، وقول مالك، وهو الصحيح؛ لأنّ سبب الإباحة متحقّق وليس على تحريمها دليل، فإنّه لا نصّ فيه، ولا معنى نص؛ لأنّ تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعياً إلى الوطئ المحرّم أو خشية أن تكون أمّ ولده لغيره، ولا يتوهّم هذا في هذه، فوجب العمل بمقتضى الإباحة) (المغني 9: 159)، فانظر إلى هذا النصّ لتعلم أنّ القضيّة عند المذاهب الأخرى محلّ بحث في مسألة الصغيرة عموماً. وأمّا الكلام الثاني فهو للشيخ محمد حسن النجفي الذي يستخدم هو الآخر نفس أسلوب المستهزئين هنا في التشنيع على فقه الأحناف، مجمّعاً شواذ فتاويهم. ولا أوافقه أبداً في أسلوبه وأراه مرفوضاً أيضاً وغير علمي، فهو يقول (وأعتذر لنقلي شخصيّاً هذا النصّ؛ لما فيه من بعض الكلمات) في بحث التسليم في الصلاة ـ متعرّضاً لفقه أبي حنيفة ـ ما نصّه: (ولعلّ الذي ألجأه إلى التخيير المزبور بعد القياس، أنه راعى التناسب بين أفراد ما ابتدعه من الصلاة وبين المحلّل لها، إذ منها عنده ـ بعد الوضوء بنبيذ التمر المغصوب منكوساً عكس الكتاب العزيز ـ الصلاة في الدار المغصوبة على جلد كلب، لابساً لجلد كلب، وبيده قطعة من لحم كلب، وعليه نجاسة، ثم يكبّر بالفارسيّة، ويقرأ كذلك مدهامّتان، ثم يطأطئ رأسه حداً يسيراً غير ذاكر ولا مطمئن، ثم يهوي إلى السجود من غير رفع، ثم يحفر حفيرة لينزل جبهته أو أنفه فيها، من غير ذكر ولا طمأنينة ولا رفع بينهما، ثم يقعد من غير تشهّد، وهذه لا يناسبها إلا التحليل بضرطة قطعاً، وحقّ للآمر بها أن يأمر بهذا المحلّل لها) (جواهر الكلام 10: 283). وهذا كلّه يكشف عن أنّ مجال التشنيع المتبادل بمثل هذه الطرق لن يسلم منه مذهب فقهي عند المسلمين قاطبة، فلنذر هذه الأساليب التحريضيّة، ولنرجع إلى المستندات الفقهيّة، وإلى دراسة الأمور بعقلٍ باردٍ وهادئ بعيداً عن المذهبيّات، علّنا نتمكّن من إنتاج فقه إسلامي أفضل من الذي أنتجناه حتى الآن، بدل تضييع الوقت بمثل هذه المماحكات التي صارت ـ مع الأسف الشديد ـ خُلُقاً لبعضنا هنا وهناك.