السؤال:ورد في بعض الأحاديث الشريفة أنّ الغيبة تبطل الصوم، فلماذا لا يفتي الفقهاء ببطلان الصوم مع الغيبة؟ أليس هذا تجاهلاً لنصوص صريحة واضحة؟ وهل يعتبر من اغتاب مفطراً أم أنّه ينقص من أجر صومه فقط؟ (صالحي).
الجواب: وردت بعض الروايات القليلة جدّاً تفيد أنّ على الصائم ترك بعض الأعمال وأنّه لو أتى بها بطل صومه مثل الغيبة ومطلق الكذب حتى على غير الله ورسوله، بل في بعض الأحاديث أنّها توجب نقض وضوئه أيضاً، والموقف من هذه الروايات اختلف بين العلماء في الجمع بين الفتاوى المعروفة في هذا الصدد وبين دلالة هذه النصوص، وأبرز المحاولات التي تحلّ المشكلة هنا ما يلي:
المحاولة الأولى: وهي محاولة اختارها جمعٌ من الفقهاء والمحدّثين، وتقول بأنّ المقصود من هذه الروايات ليس بطلان الصوم حقيقةً بما يوجب القضاء مثلاً، بل المراد نقض كمال الصوم، فكأنّها تريد أن تقول بأنّ الصوم الكامل لا يتحقّق مع الغيبة، ولا تريد أن تقول بأنّ الصوم أساساً لم يتحقّق من رأس، ويشهد لهذا الفهم التسالمُ والإجماع والاتفاق القويّ جدّاً بين جميع مذاهب المسلمين على عدم اعتبار هذه الأشياء من المفطرات، فيكون ذلك بمثابة شاهد وقرينة على أنّ المراد بنقض الوضوء أو إبطال الصوم هو نقض الكمال لا الحقيقة.
ولكنّ هذه المحاولة التي تعدّ من أبرز المحاولات هنا غير واضحة إذا لم نطوّر من طريقة الاستدلال، فإنّ طريقة البيان في هذه الأحاديث تشابه طريقة البيان في سائر الأحاديث الواردة في المفطرات، بل هي تشبه طريقة البيان الواردة في مفطّرية الكذب على الله ورسوله، فكيف قبلوا هناك بإفادتها المفطرية ولم يقبلوا هنا، مع أنّ التركيب واحد؟! وأمّا القول بانّ التسالم هو الشاهد فهذا المقدار غير واضح، فلعلّ التسالم نشأ من عدم تحصيل القدماء الوثوق بصدور هذه الأحاديث، وهذا غير أنّ تسالمهم يشكّل قرينة دلالية على تفسير النصّ، فما دام تسالمهم يرجع إلى جانب صدوري ـ ولو احتمالاً ـ فلا يصحّ اعتباره شاهداً في باب الدلالات، بل قد يكون منشأ التسالم أنّهم استوحوا من هذه الروايات أنّها بصدد بيان أمر أخلاقي أو كمالي، وفهمهم ليس بحجّة علينا. وسيأتي إن شاء الله أنّه من الممكن أنّهم يريدون شيئاً آخر قد نبيّنه بشكل مختلف فانتظر.
يُشار إلى أنّ بعض فقهاء أهل السنّة ذهب إلى مفطّرية الغيبة، فقد نقل النووي في (المجموع 6: 356 ) أنّ الإمام الأوزاعي قال ببطلان الصوم بالغيبة وأنّه يجب قضاؤه. كما نقل صاحب (مواهب الجليل 3: 371 ) أنّ إفسادالصوم بالغيبة محكيٌّ عن سفيان وعن مجاهد.
المحاولة الثانية: وهي المحاولة التي تبدو لي وأرجّحها هنا، وتعدّ مكمّلاً لما تقدّم، وهي ترى أنّ ما يدلّ من هذه الروايات (وليس كلّها دالّ على البطلان بالغيبة، بل بعضها دالّ على التشديد على الصائم أن لا يغتاب ولا يشتم ولا يكذب.. وهذا غير بطلان الصوم بهذه الأمور).. إنّ ما يدلّ من هذه الروايات ـ على قلّته العددية ـ ضعيف السند، فلا يعتمد عليه، لاسيما بناء على حجيّة الخبر المطمأن بصدوره، لاسيما بعد عدم وجود أيّ مؤشر على أنّ المتشرّعة في عصر النصّ، فضلاً عن جمهور الفقهاء ما بعد عصر النصّ، كانوا يبنون على هذا الأمر، فلو كانت الغيبة ناقضةً للوضوء أو مبطلةً للصوم لظهرت أسئلة في هذا الموضوع؛ لكثرة الابتلاء بالغيبة للصائمين ولغيرهم، مع أنّنا لا نجد عيناً ولا أثراً لأيّ سؤال من المتشرّعة في هذا المجال، وهذا ما يشكّل:
أ ـ إمّا قرينة على ضعف صدور هذه الأحاديث القليلة بحيث يكون مضمونها مكذوباً بشهادة هذا المعطى التاريخي مع ضعف سندها، أو سند أغلبها.
ب ـ أو قرينة على أنّ فهم هذه الروايات في سياق المبطليّة الفقهية غير صحيح؛ إذ لو كان صحيحاً لناسب ظهور فضاء من التساؤلات، ولمّا لم يكن فيحصل لنا شكّ في فهم هذه الأحاديث وينعدم الوثوق بفهمنا الأوّلي لها، وهو ما يفضي إلى تلاشي الظهور عندنا من النصّ فلا يكون حجةً من حيث الدلالة.