السؤال: كثير من الفتاوى ظهرت عبر الزمن وقد كانت فتاوى متخلّفة في حينها حسب المنتقدين لها في زمنها، فضلاً عن الأزمنة المتأخّرة لها والتي تجاوزها الفقهاء المتأخّرون لها، وقد أدّت هذه الحالة إلى فقدان كثير من الناس الثقة بالفتاوى والفقهاء، وأنّ بعض الفتاوى الغريبة سوف لن تبقى على حالها وأنّ زمن تغييرها قادم ﻻ محالة، هذا في دائرة الملتزمين دينيّاً. وأمّا في دائرة العلمانيين وأشباههم فإن دعواهم أكبر بكثير من هذه، فهم يطالبون بإقصاء السنّة بسبب حجم المشاكل والعقبات الموجودة، ولما تسبّبه من مشاكل تؤدّي إلى إضعاف المسلمين وتشتّتهم وتناحرهم وتخلّفهم حسب زعمهم، ويطالبون بالاعتماد على الاجتهاد البشري والاستفادة من التراث مع عدم الاتكاء عليه، وحال رجال الدين هو حال بقيّة الناس فإذا كانت اجتهاداتهم عقلانية وتساير العصر ومقبولة فلا مانع من الأخذ بها، وإلا فلا. والسؤال شيخنا: ما هي وجهة نظركم أمام هذه الآراء ووجهات النظر؟ (كمال).
الجواب: توجد هناك نقاط أشير إليها سريعاً لنكون أكثر علميّةً في تداول الأمور:
1 ـ لم يتضح لي ما هو معيار تخلّف الفتوى؟ فمن الذي يحدّد هذا التخلّف؟ وكيف؟ وفي ضوء الجواب عن هذا السؤال نستطيع تحديد: كم هي درجة التخلّف في بعض الفتاوى. ما أريده هو أنّ تخلّف الفتاوى شيء وخطؤها شيء آخر، فمن الممكن أن يأتي فقيه فيؤسّس لمنهج فقهي جديد فتتكشّف لنا أخطاء العلماء السابقين في مجموعة من اجتهاداتهم، لكنّ هذا لا يساوي مفهوم تخلّف الفتوى، يهمّني جدّاً التمييز بين هذين المفهومين: تخلّف الفتوى، وخطأ الفتوى.
2 ـ انطلاقاً من النقطة السابقة، كيف أعرف أنّ هذه الفتوى متخلّفة؟ المشكلة هنا هي مشكلة منهجيّة بامتياز، فالفقيه يدّعي بأنّ الفتوى شأن تعبّدي يحكمني من خلال النصوص التي أجد نفسي ملزماً بها بمقتضى قانون التسليم لله ورسوله، وهذا ما يجعل الفقيه رافضاً لأيّ شكل من أشكال نقد مضمون النصّ التشريعي؛ لأنّه يرى أنّ فهم أسرار الحياة البشرية وما هو الصالح لها وغير الصالح ليس في يدي، فهناك مساحات كبيرة معقّدة من تركيبة الحياة الإنسانيّة لا أستطيع ـ ما دمت جاهلاً بها ـ أن أدّعي خطأ هذا الاستنتاج الفقهي وتخلّفه ما دام معتمداً على النصّ المتعبّد به. إنّ فهم طريقة عمل عقل الفقهاء بالغ الأهميّة لفهم تصرّفاتهم وردود أفعالهم. بل يمكنني أن أزيد أكثر بأنّ الفقيه قد لا يقتنع عقلانيّاً ببعض النتائج الفقهيّة التي يتوصّل إليها بنفسه، لكنّه يجد نفسه محكوماً لنظام النصّ ومعطياته، ولو حرّرنا الفقيه من النصّ فقد نجد الكثير من الفقهاء أكثر نقداً للفتاوى منّا، لكنّ الفقيه ـ بحكم نظامه الاجتهادي ـ يجد نفسه غير مرخّص له في عملية النقد هذه؛ لأنّ الدليل والحجّة قاما على هذا الحكم أو ذاك، وهذا هو معنى النهي عن التفسير بالرأي وعن تحكيم الأهواء في الدين وعن القياس وغير ذلك. إنّ معيار التخلّف وعدمه يجعل اليوم عبارة عن مواكبة الغرب وعدم مواكبته في مشاهده المتنوّعة، والفقيه لا يقبل بإطلاقيّة هذا المعيار ولا يرى عليه ـ من منطلق قناعاته الدينية ـ دليلاً يستوعب كلّ الحالات، فليس كل ما قاله الغربي هو حقّ، ولا كلّ ما قاله الشرقي هو باطل وتخلّف، وليس كلّ ما صدر من الغربي فهو نور، ولا كلّ ما أتى من الشرقي فهو ظلمة. إنّ هذه المعايير بنفسها معايير تقليدية وليست اجتهاديّة، وهي معايير ناتجة عن الأزمة النفسيّة والحضارية الكبرى التي تعيشها أمّتنا، وهي معايير غير مبرهن عليها بشكل إطلاقي ما لم تُشفع هنا أو هناك بالمبرّر الموضوعي، فليلاحظ هذا الأمر جيّداً.
3 ـ يمكن للفقيه أن ينشّط نظام اللاعقلانية لنسف بعض الفتاوى عندما تسمح له الفرصة بتحويل ذلك في حدّ نفسه إلى دليل، مثل أن يقول بأنّ هذه الرواية تدلّ على حكم مخالف للعقل أو للقرآن، ففي هذه الحال سوف تجده فاعلاً في مجال الإطاحة بهذه الرواية أو تلك.
4 ـ إنّ مشكلة مشاكل الناس هي نحن أنفسنا، فالمؤسّسة الدينية في الغالب هي التي أوهمت الناس ـ أو على الأقلّ لم توضح لهم ـ أنّ الاجتهاد ليس أمراً مقدّساً ولا هو بالوحي الذي ينزل علينا من السماء، بل إنّ رجال الدين أنفسهم عندما عرّفوا الاجتهاد وصفوه بأنّه ملكة قدسيّة، ولنتوّقف قليلاً عند كلمة (قدسيّة)، فهي تعني نوعاً من الربط بمركز الطهر والقداسة أيّ بالله تعالى، فيما الاجتهاد ليس سوى عملية بشريّة بامتياز لفهم مراد الله من خلال البحث والتفتيش والتنقيب في النصوص. نحن الذين أخطأنا في التربية النفسيّة والاجتماعية حتى أدّى الوضع إلى ردّة فعل عكسيّة في الناس، وفي هذا كلامٌ رائع للشيخ مرتضى مطهّري يتحدّث فيه عن خطأ رجال الدين في إيهام الناس بأنّ علماء الدين هم ماء معتصم لا ينفعل بالنجاسة. من هنا فالقضية تكمن في أنّ هذه الفتاوى هي اجتهادات، وهذه الاجتهادات ليست نهائيّة، وباب العلم والاجتهاد مفتوح للخلق، عندما يسعون لامتلاك العُدد اللازمة لذلك، وليس الاجتهاد سرّ الله ولا ذاته ولا كنهه ولا غوامض خلقه، بل هو طاقة مباركة أودعها الله في الإنسان ليفكّر في النصّ، تماماً كما يفكر في الطبيعة وفي الحياة، ومن الممكن للفقهاء أن يخطؤوا وليسوا بمعصومين أبداً، بل نحن المخطّئة نصرّ على تخطئتهم في بعض الأمور، فما من فقيه ـ والله العالم ـ إلا وهو مخطئ في بعض الاستنتاجات، وتلك سنّة الله في خلقه. وإنّني أرفض تفسير أيّ خطأ في فهم النص بأنّه هوى وغواية وشيطنة وانحراف وكفر وفسق ونفس أمّارة، كما يريد الكثير منّا، وكما يصرّ على ذلك حتى بعض نقّاد رجال الدين المعاصرين ـ المفكّر عالم سبيط النيلي رحمه الله على سبيل المثال ـ فإنّ النصّ كالطبيعة مساحات ليست سهلة، وإذا كانت اللغة هي الفكر، فالفكر ليس أمراً بسيطاً لكي ندّعي فهمه، إنّه أسرار النفس الإنسانيّة، فمن الطبيعي أن يخطأ العلماء في فهم النصوص الدينيّة، ومن الطبيعي أن تمرّ مراحل تحصل فيها كشوفات تؤدّي إلى قفزات كبيرة في فهم النصّ، تماماً كالعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة، ولا يحقّ لمن اتخذ رأياً جديداً أن يصبح أحادياً قمعيّاً إقصائياً فيتهم الآخرين بالتخلّف والرجعيّة؛ لأنهم خالفوه في الاجتهاد الفقهي، فهذا على النقيض من دعاوى التعدّدية والحريّة التي ينادي بها بعضنا اليوم.
5 ـ هناك من يتصوّر أنّ الاجتهاد الفقهي يفقد قيمته عندما يقع الخلاف بين العلماء، أو تظهر مشاريع فكريّة جديدة تتحدّث عن أخطاء في المنهج وقع فيها العلماء من قبل، ولكنّ هذا الأمر خاطئ من أساسه فيما يبدو لي. إنّ الإجماع قد يبعد الشكوك، لكنّ عدم الإجماع على قضيّة لا يعني أنّ هذه القضيّة لم يعد لها قيمة موضوعيّة أو عمليّة، وحتى القفزات النوعية محكومة لذلك. لنأخذ مثالاً أوّل وهو علماء الطبيعيات، فكم من قفزة مذهلة ومدهشة حصلت في علوم الطبّ والكيمياء والفيزياء والفلك والأحياء، بحيث نسخت مئات السنين من اجتهادات العلماء الطبيعيين السابقين وأبحاثهم؟ بل حتى في عصرنا هذا: كم من تحوّل رهيب حصل في الفيزياء نفسها خلال القرن العشرين؟ وكم نُسخت مدارس لتحلّ محلّها مدارس أخرى؟ وكم من مذاهب في العلوم الطبيعية نُسخت وحلّت محلها مذاهب أخرى ثم عاد الجديد ليُنسخ بعد مجيء ما انتصر للمذاهب القديمة؟ ولنأخذ مثالاً ثانياً: علماء القانون، فها هي المجالس القانونية والدستورية وفقهاء القانون في العالم، وها هي البرلمانات والمجالس النيابيّة تسنّ القوانين كل ّ يوم؟ هل كلّ قانونٍ سُنّ في دولةٍ من الدول كان إجماعيّاً من قبل كلّ فقهاء القانون ومن قبل كلّ البرلمانيين ومن قبل كلّ اللجان القانونية والنيابيّة والدستوريّة المشكَّلة لسنّ قانون مدني هنا أو قانون جنائي هناك؟ القضيّة تخضع لخلافات، فمدارس القانونيين كثيرة أيضاً، فكيف إذا فتحنا الباب على علم مثل علم الاجتماع الذي يضرب اليوم بيد من حديد كلّ العلوم الإنسانية الأخرى ويترك بصماته عليها، هل هذا العلم يقيني إجماعي لا خلاف فيه؟ هل كلّ نظريّاته متقدّمة أم أنّ اللاحق ينسخ السابق وتظهر العيوب، بل تظهر الطفوليّة أحياناً على بعض النظريات القديمة؟
الأوّل: إنّ الناس تتصوّر نتائج اجتهادات رجال الدين مقدّسة مرتبطة بالله، فلا يمكن أن تخضع لمنطق التغيّر في الاجتهاد، وكل تغيّر سوف يُبعدها مسافة عن مركز القداسة، وهو الله؛ لأنّ الله ثابت لا تغيّر فيه ولا جهل ولا عدول عن رأي لرأي آخر.
الثاني: حجب بعض أجنحة المؤسّسة الدينية واقع المشهد الفكري المتنوّع الموجود داخلها، وعدم رغبة بعض الفرقاء في انعكاس هذا المشهد للناس، فتظلّ الناس تتصوّر أنّ الأمور متفقٌ عليها، وأنّ أصحاب وجهة النظر المخالفة هم شواذ أو شذّاذ، وعندما ظهر عصر المعلوماتيّة انكشفت أشياء كثيرة، ولعب الإعلام دوراً في خروج الكثير من المعلومات إلى خارج أسوار المؤسّسة الدينية، فتفاجأ الناس بالمستجدات المتتالية.
والحلّ هو بالعمل على أن نفهم جميعاً ونعي هذه القضيّة، وهي أنّ الخلاف لا يلغي قيمة الفتوى، تماماً كالخلاف القانوني لا يلغي إلزامية القانون عندما يتمّ تبنّيه، ولهذا علينا العمل لتكوين كلّ عناصر الوثوق، من خلال مجالس محيطة بالمرجعيّة بحيث تكون الفتوى ناتجة عنه مدارسة موسّعة للأمور من قبل لجان ومجموعات متعدّدة من الفقهاء، ولو خرجت في نهاية المطاف باسم مرجعيّة معينة.
الحلّ هو بتغيير الثقافة المهيمنة، وهي الثقافة الأسطوريّة التي تحاول دائماً أن توحي لنا بأنّ اجتهادات هذا الفقيه أو ذاك قد ختم عليها بخاتم إلهي، نعم من الممكن أن تحصل أمور وحالات من هذا النوع، لا أريد أن أنفي ذلك، لكنّ هذا الأمر لا يمثّل بأيّ حال من الأحوال الظاهرةَ العامّة، إنّ الثقافة الدينية الشعبية في تعاملها مع الفقهاء هي الخطأ، فلو أعدنا تكوين هذه الثقافة فسوف نتمكّن من الجمع بين الالتزام بالفتوى بوصفها بُعداً قانونيّاً وسبيلاً من سبل براءة الذمّة أمام الله تعالى، وبين عدم اعتبار ما جاء به هذا الفقيه أو ذاك هو الحقّ المطلق.