الجواب: يذهب الكثير من الفلاسفة المسلمين وغير المسلمين، إلى أنّ العلوم الطبيعية ليست جزميّة نهائية قاطعة بالمعنى الفلسفي للجزم، ويطرحون لذلك أسباباً عديدة، منها أنّ العلوم الطبيعية تقوم على الفرضيات، فنحن نشاهد ظاهرةً ما، فنفترض أنّ سببها هو (أ) مثلاً، ونبدأ بدراسة كل الآثار والنتائج العمليّة على أساس افتراض أنّ الظاهرة ناتجة عن العلّة (أ)، فنلاحظ أنّ كل التجارب كانت نتائجها تنسجم مع افتراض أنّ العلّة هي (أ)، فنقول بأنّ النظرية العلميّة أثبتت بعد التجارب الكثيرة أنّ علّة الظاهرة الفلانية هي (أ).
وهناك بحث طويل جدّاً في الدراسات الاستقرائيّة والعلميّة حول أزمة الفرضيات في العلوم، فكيف أضع الفرضيات للظاهرة المعيّنة؟ ولو غمضنا الطرف عن هذه المشكلة، فإنّه من الممكن أن تنسجم التجارب مع (أ)، لفترة معينة، ولكنّها لا تنسجم معها لفترة أخرى، فالعلماء أقاموا تصوّراتهم الفلكية لمئات السنين وفقاً لنظريات بطلميوس، ووجدوا دائماً أنّ نظريات بطلميوس تفسّر لنا الظواهر الفلكيّة المستجدّة، لكن مع ذلك رأينا بعد مئات السنين بطلان فلكيات بطلميوس، لصالح نظريات أخَر باتت واضحة اليوم.
ومن الأسباب الأخرى التي طرحوها لعدم جزميّة الطبيعيات، ما يذكره (فيلسين شاله) من أنّ مرجع النظريات الطبيعية إلى الحسّ، والحسّ عرضة للخطأ، فلا يمكن جعل الطبيعيات في عرض الرياضيّات التي لا تنطلق من الحسّ أساساً، بل من العقل نفسه.
إنّ هذا يعني ـ من وجهة نظر جمع من الفلاسفة ـ أنّ العلوم الطبيعية تظلّ دائماً مفتوحة على احتمالات تشكّل الفرضيات. والعقل الإنساني لا يمكنه حصر الفرضيات التفسيرية والتعليليّة لكلّ ظاهرة من ظواهر الكون والوجود، بل هو دائماً يتعاطى مع الفرضيات التي تكون قريبة منه ومتصوّرة ذهنيّاً عنده، انطلاقاً من نطاقه المعرفي وخلفيّاته العلميّة.
وأمّا يقينية الرياضيات، فهي ـ عند الفيلسوف الألماني عمّانوئيل كانط ـ ناتجة عن أنّ قضايا الرياضيّات قضايا تحليلية ليس فيها أيّة إضافة معلوماتيّة، فقولنا قدّس سرّه ليس فكرةً جديدة أضيفت إلى العقل، وإنّما هي تحليل لرقم 2، على خلاف فكرة: إنّ تناول قرص الاسبرين يساعد على الشفاء، فإنّ هذه الفكرة ليست تحليلاً لقرص الاسبرين، ولهذا قسّم كانط القضايا إلى تركيبية وتحليلية، والتحليلية حيث إنّها لا تزيد عن الطرف الآخر كانت يقينية، وقد حاول الفلاسفة الإسلاميّون تفسير يقينية الرياضيات عند كانط، بأنّ مرجعها إلى قياس المساواة الأرسطي، فإنّ هذا القياس هو الذي تعبّر عنه المعادلات الرياضيّة، فإنّ المعادلة تعبير آخر عن وضع شيء وافتراضه مساوياً لشيء آخر، ثم افتراض الثاني مساوياً لثالث، فيكون الأول مساوياً للثالث، وهذا هو عين قياس المساواة الأرسطي، فمنشأ يقينيّة الرياضيّات هو القياس، وحيث إنّ منشأ يقينيّة الميتافيزيقيا عندهم هو القياس نفسه، فلابد أن تحظى الميتافيزيقيا بنفس القوّة اليقينيّة التي كانت تحظى بها القضايا الرياضيّة.
وأمّا قولكم بأنّ البناء التحتي للبديهيات يجبر النقص الحاصل في الطبيعيات، فهذا لا يصحّ منطقيّاً؛ لأنّ النتائج تتبع أخسّ المقدّمات، كما هي القاعدة المقرّرة في العلوم المنطقيّة.