السؤال: قال الله تعالى: (إني أخاف أن يمسّك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً)، كيف خاف عليه العذاب مع أنّه حَسَنٌ؛ لأنّه صادرٌ منه تعالى؟! ثم كيف نسب العذاب إلى اسم الرحمن مع أنّ العرفاء اتفقوا على أنّ كلّ اسمٍ لابدّ أن يتناسب مع مقتضاه؟! (الكعبي، العراق).
الجواب: أولاً: حُسن الفعل بملاحظة الصادر منه الفعل، لا يساوق حُسنه بملاحظة من يصل إليه الفعل، فأن تدافع عن نفسك بقتل من يعتدي عليك فعلٌ حسن من طرفك، ولو كان سيئاً بالنسبة للمقتول. وسوءُ الشيء بالنسبة للواصل إليه أثرُ الفعل لا يعني عدم استحقاقه لذلك وعدم وجود مصلحة نوعيّة فيه، كما لا يعني سوء صدور الفعل من الفاعل. وهذا معناه أنّ العذاب الإلهي بملاحظة صدوره من الله تعالى هو فعلٌ حسن كمعاقبة المعتدين المجرمين في الدنيا، فإنّ ما تفعله الدولة وأجهزة الأمن والسلطة القضائية أمورٌ حسنة، أمّا بملاحظة من وقع عليه الفعل فقد يكون سيئاً في حدّ نفسه، وعن استحقاق منه لأخذ هذا الأثر السيء بالنسبة إليه. من هنا، ذكر بعض الفلاسفة والمتكلّمين وعلماء أصول الفقه الإسلامي أنّ الحُسن والقبح يمكن أن يكونا نسبيّين، بمعنى أنّ الفعل قد يكون حسناً ولكنّ الفاعل قبيح، وقد يكون سيئاً والفاعل حسن؛ ولهذا قالوا بأنّ هناك حُسن فعلي وحُسن فاعلي، فأنت تعطي المال للفقير بقصد الرياء، فهذا حُسن فعلي؛ لأنّ إعطاء المال للفقير أمرٌ حسن، لكنّه قبح فاعلي؛ لأنّ الإعطاء الذي يقصد منه الرياء قبيح مثلاً، والعكس هو الصحيح، فقد يكون الفعل فيه قُبح فعلي مثل سلب إنسانٍ مسالمٍ الروحَ، ولكن لا يوجد قبح فاعلي، وذلك فيما إذا علم القاتل أنّ هذا الإنسان المسالم يريد قتله فقتله، وتبيّن بعد ذلك أنّه كان مخطئاً، فهنا لم يصدر منه قبح فاعلي بل صدر منه قبح فعلي. وبتعبير آخر: إنّ الفعل بملاحظة صدوره من الفاعل ليس فيه سوء، حتى ننسب السوء إلى الفاعل، بل فيه حسن، لكنّ الفعل بملاحظة حال المفعول به فيه سوء، وهذا السوء يتحمّله المفعول به لأنه أخذه باستحقاقه، ولا يتحمّله الفاعل. والنبي إبراهيم أراد لأبيه أن يحظى بفعلٍ إلهيّ يكون حُسنه ثنائي الطرف، فهو بالنسبة للفاعل حسن، وبالنسبة للمفعول به حسن أيضاً.
ثانياً: إنّ الآية الكريمة تحتمل وجهاً بليغاً في التعبير، وهو أنّني أخاف عليك أن يلحقك عذابٌ ممّن هو رحمان، في تعبيرٍ مجازي عن أنّك مستحقّ لهذا العذاب وأنّك المتحمّل لمسؤوليته، فأن يصدر العذابُ من شخصٍ علامتُه الرحمة معناه أنّ هذا العذاب حقّ، وأنّ من نزل عليه العذاب كان مستحقّاً له، فالشخص الغضوب الهجومي العدواني لو عذّب شخصاً لاحتملنا أن يكون عذابه هذا له بغير وجه حقّ؛ لأنّ طبعه العدوان، أمّا لو صدر العذاب من شخص لطالما عهدناه رحيماً رؤوفاً عطوفاً متسامحاً صبوراً، فهذا معناه ـ بحسب ما يفهم العرف والعقلاء ـ أنّ من نزل عليه العذاب قد فعل فعلاً هو بالتأكيد يوجب استحقاقه للعذاب، لتضاؤل احتمال دوافع أخرى فيه، وهذا أمر منطقي ومعقول جدّاً؛ لهذا أحتمل جدّاً أن يكون هذا التعبير في الآية الكريمة بليغاً ذا معنى لطيف فليلاحظ ذلك، ومن ثمّ فلا يوجد تنافٍ بين ما قاله العرفاء والمفسّرون وبين طبيعة البُعد الدلالي والبلاغي في الآية الكريمة، فهذا مثل قولك: إنّ رأي فلانٍ لا يقول به جاهل فضلاً عن عالم، في إشارةٍ بليغة لشدّة ضعفه ووهنه ووضوح ذلك فيه.