الجواب: إذا سألتكم اليوم: هل قضيّة أنّ الأوكسجين والهيدروجين وتكوينهما للماء مسألة فقهيّة أم لا؟ فستقولون بأنّها ليست فقهيّة، رغم أنّكم قد لا تكونون متخصّصين في علوم الكيمياء والفيزياء والطبيعة، ولا مجتهدين في علم الفقه. وإذا سألتكم: هل إثبات التاريخ الدقيق لواقعة أصحاب الفيل هو قضيّة تنتمي لعلم النحو أم لعلم العروض أم لعلم التاريخ، فستقولون لي بأنّها تاريخيّة، رغم أنّكم ربما لم تبحثوا فيها بحيث تؤلّفون كتاباً مثلاً في هذا الموضوع.
لماذا ذلك؟ لأنّ إثبات انتماء مسألة إلى علمٍ دون علم، تحتاج لأمرين:
أ ـ تصوّر المسألة وأطرافها حتى لو لم يحصل لك تصديق بها سلباً أو إيجاباً، بحيث تفهم حول ماذا تدور هذه المسألة؟ وما هي النقطة التي تتحدّث عنها؟ وما هي طبيعة البحث فيها؟
ب ـ فهم دائرة الموضوع الذي يشتغل عليه هذا العلم أو ذاك، بحيث نعرف أنّ علم التاريخ هو العلم الذي يبحث في القضايا الفلانية، فيما علم اللغة يبحث في القضايا الفلانيّة الأخرى، أمّا علم الاقتصاد فهو يبحث في دائرة مختلفة عن العلمين السابقين مثلاً.
وبعد الانتهاء من هذين الأمرين تتمّ المقارنة بين المسألة وموضوع العلم ومجاله مثلاً، فتقول: هذه المسألة ليست من العلم الفلاني، إنّما هي من العلم الآخر. أمّا الخروج بنتيجة في هذه المسألة سلباً أو إيجاباً فهذا يحتاج لبحث من نوع آخر، قد تكون قمتَ به وقد لا تكون. فكلّ المؤرّخين يتفقون على أنّ الأحداث السياسية والعسكرية والأمنية التي مرّت في عصر الدولة البيزنطيّة داخل أراضي هذه الدولة، هي قضايا تنتمي إلى علم التاريخ، لكنّ القليل منهم من بحث في تاريخ الدولة البيزنطيّة بحيث توصّل إلى نتائج اجتهاديّة فيها. وهكذا تجد أنّ الأصوليّين في مباحث تعريف علم الأصول يقولون بأنّ المسائل المتعلّقة بوثاقة الرواة ليست من علم الأصول، وفي الوقت عينه قد تجد بعض الأصوليين ليسوا مجتهدين في أغلب مباحث علم الرجال وقضايا التوثيقات والتضعيفات، ولو لكونهم لا يرون لها حاجة مثلاً، كما هو رأي بعض العلماء فعلاً.
هذا هو الفرق الذي يمكّنك من البتّ في انتماءات هذه القضية لهذا العلم أو ذاك، دون أن تكون قد توصّلت اجتهادياً إلى حقيقة هذه القضيّة خارجاً. وبعبارة علميّة موجزة: فرق بين تصوّر القضيّة وتصوّر العلم ومقارنة النسبة بينهما، وبين التصديق بالقضيّة نفسها، ولهذا أنت تقول بأنّ هذه القضية تبحث في علم التاريخ رغم أنّك قد ترى عدم وقوعها تاريخيّاً، وقد تقول بأنّها تبحث في علم التاريخ وأنت ترى وقوعها تاريخيّاً، فالانتماء المعرفي للمسألة غير التصديق بنتائجها سلباً أو إيجاباً.