السؤال: إذا كانت أدلّة وجوب التقليد تعتمد على السيرة العقلائية فهنا لنا تساؤلات: إنّ نفس قيام العقلاء بذلك لا يفيد الوجوب بل أقصى ما يفيده هو الإباحة. كما أنّ الوجوب لا نستطيع إثباته من طريق النقل لضعف المرويّات، وعليه نسأل: كيف جاز للفقهاء إبطال أفعال المكلّفين التي من دون تقليد اعتماداً على أمرٍ مظنون؟
الجواب: لا يستدلّ الفقهاء والأصوليون بالسيرة العقلائية هنا، بمعنى أنّ العقلاء عملوا بهذا إذاً فيجب العمل على وفق ما عملوا به، بل يستدلّون بعنصر الإلزام العقلائي، الذي يُفهم من ذمّ العقلاء لشخص لا يرجع إلى أهل الخبرة في الأمور التي لا خبرة له بها، فلو أنّ شخصاً أصيب بمرض ثم قال: أنا لا أرجع إلى أهل الخبرة بل أعمل بما أرى، والحال أنّه لا فهم له بالطبّ، فإنّ العقلاء يذمّونه، وعنصر الذمّ والمؤاخذة هذا نفهم منه أنّ العقلاء لا يجيزون الرجوع إلى أهل الخبرة فحسب، بل يلزمون بذلك حفظاً للمصالح النوعية، فلا يقبل العقلاء أن يترك الناس الرجوع إلى أهل الاختصاص، بل يرفضون هذا أشدّ الرفض. تصوّروا معي أنّ الناس في كلّ القضايا الطبية والهندسية والمعمارية والتقنية لا يرجعون إلى أهل الخبرة، بل كلّ شخص يتصرّف بما يراه مناسباً، إنّ هذه الظاهرة يرفضها العقلاء ويرونها توجب الهرج والفوضى، وما يستدلّ به الفقهاء هو عنصر الارتكاز الملزم بالرجوع لا عنصر الممارسة الخارجية التي لا تكشف سوى عن الجواز والمشروعية، ونفس الشيء يجري في قول الأصوليين بحجية خبر الواحد مثلاً، فهم يستدلّون بالسيرة العقلائية، ويقصدون بذلك أنّ العقلاء يُلزمون بالعمل على وفق إخبار الثقة. وبناء عليه، فالسيرة تكشف عن عنصر الإلزام المستكنّ في الوعي العقلائي، وهذا العنصر ـ إضافة إلى الممارسة الخارجية ـ يشكّل مركز الإمضاء الشرعي لهذه السيرة، حتى لو كانت كلّ الروايات الواردة في باب التقليد ضعيفة، هذا ما يقوله الفقهاء.
إنّني أعتقد أنّ التقليد ظاهرة بشريّة من حيث المبدأ، ويعمل عليه أهل السنّة أيضاً، فهم يرجعون للمفتين والفقهاء ومشايخ مناطقهم والمشايخ الذين يتصدّون للإفتاء عبر وسائل الإعلام وغيرها، وليس حكراً على الشيعة، نعم الامتياز الذي هو موجود في الفكر الشيعي يكمن في نظريّة تقليد الأعلم من جهة، وحرمة تقليد الميّت من جهة ثانية، فإنّ هاتين النظريّتين المشهورتين عند الإماميّة هما اللتان تخلقان عنصر المركزية في التقليد عند الشيعة، وتصنعان ظاهرة المرجعية العليا والتقليد الواسع الذي نشاهده اليوم في حياتنا، فعلينا أن نحدّد مركز التمايز، كي نعرف أين ينبغي البحث والتداول.
وأمّا إبطال الأفعال فليس بالشيء الجديد، والمشكلة أنّ بعضنا لا يفهم طريقة تعامل الفقه الإسلامي مع الأمور، فالفقهاء هنا قالوا بأنّ من لا يعمل على وفق التقليد، ثم لا يتبيّن أنّ عمله هذا مطابق للواقع أو مطابق لفتاوى من كان يجب عليه تقليدهم فسوف يكون باطلاً، بمعنى غير كافٍ وغير مجزء وغير موجب لفراغ الذمّة عن التكاليف التي توجّهت إليه؛ لأنّ هذا الفعل لا يحرز تطابقه مع المأمور به في الشريعة حتى يكون مجزياً، فأنا لو صليت بطريقة معيّنة من دون الاستناد في الصلاة هذه إلى فتوى شخص أو إلى اجتهادي الشخصي أو إلى الاحتياط، فهنا لا أستطيع تحصيل فراغ الذمّة، فذمّتي كانت مشغولةً بالصلاة، لكن هل فرغت ذمّتي نتيجة ذلك بحيث لا يجب عليّ الإعادة ولا القضاء أم لا؟ لا أعرف، فالأمر محتمل، فإذا أحرزت أنّ فعلي هذا كان مطابقاً للواقع الذي أراده الله ـ كما لو طابق الاحتياط ـ فسوف أتأكّد من أنّني أتيت بالفعل الموجب لفراغ الذمّة، وكذا لو اعتمدتُ على فتوى فقيه بحيث طابق ما فعلتُه مع فتواه، فهنا حيث يجيز لي الشرعُ التقليدَ فسيكون تطابق فتواه مع عملي موجباً لتصحيح العمل، وفي غير هاتين الحالتين لا أتأكّد من صحّة عملي ما دمت غير مجتهد، والقاعدة العقلانية تقول بأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، ومن هنا عبّر بعضهم ـ على ما في بالي ـ بأنّ البطلان هنا هو بطلان بنظر العقل ومرتبط بباب الإجزاء. وشبيه هذا الكلام يجري في مجال المعاملات أيضاً، فلو أوقعت عقد بيع بطريقة معيّنة، ثم لم أعرف هل هذا العقد يطابق شرع الله أم لا؟ فلو طابق صحّ العقد ونفذ مثلاً وترتبت عليه نتائجه القانونية من نقل الثمن إلى البائع والمثمن أو السلعة إلى المشتري، ولو لم يصحّ لا تترتب عليه النتائج القانونية، فأنا الآن لا أعرف هل يرتب الشرع عليه النتائج فأتمكّن من التصرّف في الثمن عندما أكون أنا البائع أم لا يرتّب الشرع الصحّة والجواز والأثر هنا فلا يحقّ لي التصرّف في الثمن من باب أنه ملك لي؟ فإمّا أن أعلم بأن فعلي ومعاملتي مطابق لواقع الشريعة، أو أرجع إلى من يجوز لي الاكتفاء بقوله، وهو الفقيه أهل الخبرة في الأمور الشرعية، فإذا فعلت هذا استطعت ترتيب الأثر على المعاملة البيعية، وإلا فأنا لا يمكنني ترتيب الأثر ـ حيث إنّ الأصل أنّ المعاملة لم تقع قانونيّاً ونحن نشك في وقوعها ـ لأنني لا أعلم بموقف الشرع من هذه المعاملة مثلاً ما دمت ليست مجتهداً حسب الفرض.
هذا ما يريده الفقهاء. والبطلان هنا بطلان فقهي، بمعنى أنّ إحراز تصحيح فعله هذا ليس له مبرّر ما دام قد فعل الفعل من غير وجهه، ولم يحرز مصادفة تطابق الفعل للواقع أو للحكم الظاهري المجزئ، ولا يعني ذلك عدم قبول عمله يوم القيامة، فهذه مسألة أخرى، وأقصد بذلك أنّ البطلان هنا طريقي، بمعنى أنّ إبطالنا لعمله يوجب عليه تصحيح فعله، فلو صلّى بلا ركوع مثلاً لزمته الإعادة؛ والسبب في ذلك أن التقليد في نفسه تكليف طريقي وليس ذاتياً، فلا يجب على الإنسان التقليد، بل يجب عليه تفريغ ذمّته وتصحيح أعماله، ولا سبيل ـ من الناحية المنطقية ـ أمامه إلا العلم بواقع الشرع الموجود في اللوح المحفوظ بدليل قاطع، أو الاجتهاد الشخصي أو الاحتياط أو الرجوع لمن يعرف من الفقهاء، أمّا أنّ الله يعاقبه لو لم يقلّد أم لا، فهذا لا علاقة للبحث الفقهي هنا فيه، وليس قبول الأعمال مشروطاً بالتقليد كما يقولون مثلاً بأنّ قبول الأعمال مشروط بالولاية، فالمسألتان مختلفتان فليلاحظ جيداً، فقد نقبل شرط العمل بذلك، وقد لا نقبل، لكنّه على أيّ حال موضوع آخر يرتبط بعلم الكلام لا بعلم الفقه.