السؤال: قال أحد العقلانيين: (إنّ البشريّة لا تحتاج إلى المعصوم لكي يحقّق العدالة الاجتماعيّة، فاليابان مثلاً حقّقوا السعادة من دون الحاجة إلى المعصوم، بل العكس في ذلك، أي مع وجود المعصوم ضاعت الحقوق، كما في تجربة الإمام علي في سنوات حكومته، بمعنى أنّ الأمن الاجتماعي في اليابان أفضل من مجتمع الإمام علي، كيف نحاكم مثل هذه الأفكار؟ (عمار الكعبي، العراق).
الجواب: سبب مثل هذا النقد هو في تقديري هشاشة الخطاب الديني العام تارةً، وعدم فهم محدّد لغاية الدين وهدف البعثة أخرى، وذلك:
أولاً: أمّا عن هشاشة الخطاب الديني العام عندنا، فيرجع إلى أنّنا نتصّور ـ على ضرب من المبالغة ـ أنّ نفس وجود المعصوم فيه حلّ لكلّ مشاكلنا، وننسى أو نتناسى أنّ الله سبحانه قد أخضع الأنبياء والرسل لمنطق الأشياء، وأنّ المعجزات التي أتوا بها كانت لإثبات دعوتهم أو لأغراض دعوية لا لتحقيق الرسالة السماوية على الأرض مباشرةً، فلم يشأ الله سبحانه أن يحقّق الرسالة السماوية على الأرض عبر قانون ما فوق طبيعي، قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: 253)، وقال سبحانه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة: 48)، وقال عزّ من قائل: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (الأنعام: 35)، وقال تعالى: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الأنعام: 106 ـ 107)، وقال سبحانه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99)، وغيرها من الآيات الصادحة بأنّ الله لو أراد لآمن الناس، لكنّه إنّما يبعث الرسل والنذر، فوظيفة المعصومين ليس تحقيق التغيير في الأرض كيفما كان بحيث لو لم يتحقّق لفشلوا، بل وظيفتهم الدعوة إلى التغيير ومحاولة فعل التغيير في الأرض، وإلا فمن يصنع التغيير هم الناس أيضاً، فصلاح الحياة الإنسانية لا تكون بطرف واحد، بل بطرفين، هما: الداعي والمدعوّ.
ثانياً: إنّ النصوص القرآنية واضحة في تحديد وظيفة النبي من حيث إنّه لم يأتِ لكي يُحدث التغيير والصلاح والسعادة بالقوّة أو بفعل المعجزة، بل وظيفته الدعوة لذلك والتوجيه وباقي الأمور على الناس، فلنلاحظ معاً الآيات التالية، حيث قال تعالى: (فذكّر إنّما أنت مذكّر لست عليهم بمسيطر إلاّ من تولّى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر) (الغاشية: 21 ـ 24)، فليس النبي سوى مذكّر وداعية لهم بما هو نبي، وقال تعالى: (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد) (ق: 45)، فليس النبي جبّاراً عليهم يقهرهم على الصلاح، بل هو يذكّر الناس بالقرآن الكريم، وقال سبحانه: (ما على الرسول إلاّ البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) (المائدة: 99)، ومثله قوله تعالى: (إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) (آل عمران: 19 ـ 20)، وقوله تبارك اسمه: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولّوا فإنما عليه ما حمّل وعليكم ما حمّلتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين) (النور: 54)، وقوله عز من قائل: (وإن تكذّبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين) (العنكبوت: 18)، وقوله سبحانه: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) (النحل: 35)، وقوله تعالى: (إنما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فقل إنما أنا من المنذرين) (النمل: 91 ـ 92). فهذه الآيات جميعها واضحة في أنّ هدف بعثة الرسل أن يذكّروا الناس وأن يهدوهم إلى الحقّ، ولكنّ المسؤولية التطبيقية تقع على الناس أيضاً. فخطابنا الديني غير السليم يوحي للناس بأنّ ظهور المعصوم في حياتهم سوف يغيّر كلّ شيء بشكل تلقائي، وأنّ بيده العصا السحريّة التي ستغيّر كلّ شيء دون أن تكون هناك ظروف موضوعيّة ـ وفقاً لنظام الأسباب والمسبّبات بشكله العادي ـ لفعل التغيير. وهذا لا يعني إنكار المعجزة أو الكرامة وإنّما يعني أنّ إدارة الأمور لم تكن بالمعاجز والكرامات، بل كانت المعاجز والكرامات حالة طارئة على الوضع الطبيعي، بل هي حالة خادمة للدعوة لا متخطّية لها بحيث تلغي المنطق القرآني المشار إليه أعلاه. نعم وجود النبي يحول دون نزول العذاب على الناس، قال تعالى: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال: 32 ـ 33). وهل أنّ الدولة المهدوية في آخر الزمان سيكون لها منطقها الخاص؟ هذا موضوع آخر لا نخوض فيه الساعة.
ثالثاً: إنّ السعادة الدنيوية أمرٌ له عناصر متعدّدة، وواحد منها هو العنصر الديني، فليس الدين مسؤولاً عن التكنولوجيا والتقانة المعاصرة، التي سهّلت للناس أموراً كثيرة، بل وظيفته الروح وتنظيم أمورهم في ظلّ حياةٍ، زراعية كانت أم صناعية أم ما بعد صناعية، وهذا يعني أنّ السعادة لها عناصر متعدّدة بعضها ليس بيد الأنبياء أساساً، وإنّما هو جهد بشري. وخطابنا الديني ـ وبعض خطاب الحركات الإسلاميّة ـ عندما يتحدّث عن السعادة وكأنها حكر ديني فإنّما يقصد ـ لو أردنا أن نجد له تبريراً ـ أعلى مراتب السعادة وهي السعادة الروحية والأخرويّة.
رابعاً: طبيعة السؤال ناتجة ـ إذا سمح لي السائل الموقّر ـ عن ذهنية إنسان عربي منهزم روحياً، بحيث يشعر بأنّ الآخرين ليست لديهم مشاكل. إنّني أرفض هذا المنطق، وأرى فيه تسطيحاً للوعي وتبسيطاً للأمور، أراه غير موضوعيّ، بل هو خيالي ما فوق واقعي، إنّ الفرق بين مشاكل عالمنا الإسلامي ومشاكل الآخرين في العالم الأوّل، هو الفرق بين أنواع الأمراض، فهناك أمراض تقليدية، وهناك أمراض أفرزها العصر الحديث وتتسم بظرافة أعلى، لم ينهِ العصرُ الحديث الأمراض، بل تغلّب على التقليدي منها، ولكنّ تغلبه كان بواسطة نظام حياة متكامل أفرز بدوره أنماطاً جديدة من الأمراض، تحتاج بدورها مرةً أخرى لجهود علماء الطبّ. هذا هو أيضاً واقع الحال في أمراض مجتمعاتنا العربية والإسلامية إذا أردت أن أشبّه الأمور بنحو التقريب، فمجتمعاتنا ما تزال تعاني من أمراض تقليدية عتيقة لم تستطع أن تتخطّاها، ولم تتمكّن من الحصول على علاجها، كالاستبداد، وقمع الحريات، والديكتاتورية، وهيمنة الأيديولوجيا على العلم وأمور كثيرة جدّاً، لكنّ الغرب الذي تخطّى الكثير من هذه الأمراض بدرجة معيّنة، وقع هو الآخر في أمراضه الخاصّة، والفرق بين نوعَي المرض أنّ بعض الأمراض غليظ وبعضها ظريف رقيق، فيخيّل لك أنّ الثاني مرضٌ خفيف، فهناك من يشكّل عصابة سرقة بسطو مسلح، وهناك من يجلس خلف مكتبه الفاخر واضعاً ربطة عنقه ومرتدياً أفخم الثياب ومتأنقاً ومؤدّباً في الكلام، لكنّه يقوم ـ بطرق معقّدة ـ بسرقة المليارات التي تفوق ما سرقته العصابات المسلحة. لا أريد أن أقول بأننا أحسن حالاً من الغرب كما يقول بعض رجال الدين في خطاباتهم الدوغمائية والطوباوية، ولكن ما أريد قوله لشبابنا العربي هو أنّه ليس المهم أن تفكّر في أن تفرّ من مرضك، بقدر ما المهم في أن تفكر إلى أين تذهب، وهل إذا لم يكن عند الآخر أنواع الأمراض التي عندي فهو سليم البُنية، أم أنّها الهزيمة النفسية التي نعاني منها؟! أترك هذا الأمر للتفكير الموضوعي البعيد عن طوباوية بعض رجال الدين ودعاة القوميّة والحركات الإسلاميّة، وبعيداً أيضاً عن دعاة الانهزامية النفسيّة والشخصيات السلبيّة التي لا تتكلّم إلا عن نواقص الأمور، والهدف لي هو أن نحقّق روحية سليمة في النظر إلى الغرب والتعامل معه.
خامساً: يفترض السؤال أنّ عدم الحاجة للمعصوم في تحقيق العدالة الاجتماعية تعني الاستغناء عنه مطلقاً، وهذه قفزة غير صحيحة من الناحية المنطقية، فالمعصوم حتى لو فرضنا أنّنا لسنا بحاجة إليه لتحقيق السعادة الاجتماعية لكنّ هذا لا ينفي الحاجة إليه لأمور أخرى كتحقيق السعادة الأخروية أو تحقيق السعادة الروحيّة، فليس كل شيء في حياة البشر هو السعادة الاجتماعية. كما أنّ مفهوم الحاجة يختلف عن مفهومي: المصلحة والحقّ، فلنفرض أنّه لا توجد حاجة للمعصوم أساساً، لكنّ هذا لا يعني أنّ ما أتى به يصبح بلا معنى، بل يمكن أن يكون معيناً ومساعداً وعنصراً جيداً في تحقيق المصالح النوعية، فهناك فرق بين عدم الحاجة لشيء وبين بطلان هذا الشيء وعدم صدقه أو صوابه أو كونه أحد البدائل النافعة، فليلاحظ ذلك جيّداً.
شكرا دكتور
أحسنتم .. وجزاكم الله خير الجزاء