السؤال: قال الله سبحانه وتعالى متحدّثاً عن القرآن الكريم: (تبياناً لكلّ شيء)، السؤال: كيف بيّن الله تعالى كلّ الأشياء في القرآن الكريم؟ (أمجد، العراق).
الجواب: يذهب الذين يختارون المعنى الشمولي لهذه الآية إلى أنّ طريقة بيان كلّ شيء في القرآن الكريم طريقة ما فوق عرفيّة، وتستخدم لغةً ما فوق لغة البشر والعقلاء، وهم يذهبون إلى أنّ القلّة القليلة من الناس عبر التاريخ هي التي تستطيع فهم هذه اللغة وفكّ هذه الشفرة، إلا أنّ الذي توصّلتُ إليه في أبحاثي المتواضعة هو أنّ هذه الآية خاصّة بالدين، أي أنه في القرآن الكريم توجد كلّ الأمور الدينية، ثم رأيت بنظري القاصر أنّ المقصود من الكليّة هنا هو الغالبية، ولهذا فإنّني أعتقد بأنّ القرآن يحوي أغلب الدين الذي نزل على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلّم، وقد فصّلت ذلك في كتابي (حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم)، وأعتقد بأنّ هذه النتيجة لها تأثير كبير على الاجتهاد الديني.
أمّا أنّ هذه الآية الكريمة مختصّة بالدين ولا يعلم شمولها لغيره، فقد ذكرت هناك أنّ العموم الوارد في الآية لا يراد منه العموم التامّ، بل العموم في قضايا الهداية والدين وأمثال ذلك، وشاهد ذلك نابعٌ من السياق العام؛ ذلك أنه لو كان بين يديك كتاب في الفيزياء وقيل لك: لقد استوعب هذا الكتاب تمام الأمور، فلا تتصوّر أن يريد القائل أنه استوعب أحداث التاريخ، بل نفس كون الكتاب الذي يجري الحديث عنه في الفيزياء يصلح قرينة على إرادة تمام أمور الفيزياء، وهكذا لو حملت كتاباً في التاريخ وقيل مثله فيه فلا يفسّر إلا على الاستيعاب النسبي لا المطلق، ولما كان القرآن الكريم كتاب دين وهداية ورشاد في العقل البشري والفهم العرفي له والسياق التاريخي، فإنّ الحديث عنه بلغة (كلّ شيء) يجعل القدر المتيقّن من الدلالة هو القضايا الراجعة إلى هداية الناس لسبيل الله ودينه وما شابه ذلك لا مطلق الأمور، ولا أقلّ من أنّ هذا السياق المقامي ومناسبات الحكم والموضوع تعيقان حصول اطمئنانٍ بالشمول التام المذكور. وربما يكون هذا هو السبب الذي دفع بعض المفسّرين إلى تفسير الكليّة هنا بالدين أو بالحلال والحرام (انظر: النحاس، معاني القرآن 4: 101؛ وتفسير السمرقندي 2: 287؛ وتفسير ابن أبي زمنين 2: 415؛ والجصاص، أحكام القرآن 3: 246؛ وتفسير الثعلبي 6: 37؛ وتفسير الميزان 12: 324 ـ 325؛ وتفسير الواحدي 1: 352؛ وتفسير السمعاني 3: 195؛ والتفسير الكبير 20: 99؛ وتفسير البحر المحيط 5: 511؛ وتفسير إرشاد العقل السليم 5: 135).
وأمّا أنّ الكليّة في الآية الكريمة يراد منها الغالبية، فقد ذكرت هناك أنّ الاستخدامات القرآنية لكلمة «كلّ شيء» يفيدنا تتبّعها في أنّ بعضها واردٌ على نحو الشمول الحقيقي كعلم الله بكلّ شيء، وهو كثير جداً في القرآن الكريم، وأنّ بعضها الآخر لا يفيد هذا الشمول، ومن أمثلته: قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ (الأنعام: 44). إذ من الواضح أنه لم يفتح عليهم أبواب كلّ شيء بالمعنى الشمولي للكلمة؛ إذ الآية لا تريد القول: إن إغداق الله عليهم كان في كلّ شيء، والشيء يساوي الموجود، أفهل يغدق الله عليهم النبوّة؟ بل هل يشمل أبواب التكنولوجيا المعاصرة وغيرها؟.. وعليه فالظاهر من الآية الإشارة إلى الإغداق وفتح أبواب العطاء بطريقة مذهلة وكثيرة جداً لا غير، فتكون بياناً بالمبالغة. وكذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلَاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام: 154). فهذه الآية ـ طبقاً للعقيدة المعروفة بين المسلمين من نقصان الكتب السماوية السابقة عمّا في القرآن وديانة المسلمين ـ صرّحت بالكلية رغم أنّها غير مرادة، فهل كانت التوراة شاملةً لتمام ما اشتمله القرآن أم لا بدّ من تقديرٍ ما أو حملٍ على المبالغة في الكثرة؟ وهكذا قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلَاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ﴾ (الأعراف: 145). فهل كانت الألواح حاويةً على تمام الدين مطلقاً؟! وهل اشتملت ألواح موسى ـ ولا ندري كم يمكن أن يكون عددها وهو راجع بها إلى قومه ـ على تمام قضايا الدين، بما في ذلك ما جاء في القرآن، وما حصل بعد ذلك، أم لابدّ من تقدير أمرٍ مثل «مما يحتاجون إليه» أو تكون الكلّية تعبيراً عن الكثرة البالغة؟! نعم، يمكن أنّ تكون الآية بصدد بيان أنّ الله قد كتب له موعظة مستخرجة من كلّ شيء، لا أنّها تحتوي كلّ شيء، فيقتصر الاستدلال هنا على قوله: تفصيلاً لكل شيء. ومن هذا النوع قوله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ (الكهف: 84). فهل أعطي ذو القرنين أسباب كلّ شيء مطلقاً، بكّل تطوّر العلوم وتقدّمها؟ إلا إذا قيل: أعطي السبيل بحيث لو سلكه لأخذ كلّ شيء. ومثله قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ﴾ (النمل: 16). فإذا بنينا على أن «من» ليست للتبعيض، بل حتى لو بنينا، فهل يتصوّر أنهم أوتوا من كلّ شيء في عالم الوجود بما لهذه الكلمة من سعةٍ واستيعاب؟! ومثله قوله سبحانه: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ (النمل: 23). فهل صحيح أن بلقيس كان لديها من كلّ شيء كما كان لسليمان، وحتى في الملك هل كان لديها فعلاً كلّ شيء تماماً؟! وكيف نقارن هذه الآية بالتي سبقتها حول سليمان، هل حصلت بلقيس على ما حصل عليه سليمان أم أنّه كان أقوى بكثير منها، وحصل على ما عندها وزيادة أيضاً؟ وهكذا قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (القصص: 57). فهل صحيح أن مكّة في ذلك العصر كانت تجبى إليها ثمرات العالم، أم أنّ المراد ثمرات منطقةٍ ما، أو أكثر الثمرات أو هو تعبير للمبالغة أو..؟! وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلَاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ الوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 68 ـ 69). فهل إنّ النحل يأكل من كلّ الثمرات؟ وهل صحيح أنّ هذا الكلام يقع على إطلاقه؟! وعليه فجملة هذه الآيات ـ بضمّها إلى بعضها بعضاً ـ تجعلنا على دراية أكبر بالاستخدام القرآني للتعميم، وهو ما يؤكّد ما قلناه مراراً من أنّ التعميم في اللغة العربية ليس كالتعميم المستخدم في لغة الفلسفة أو المنطق، إنّما يراد به الأكثرية، أو يمكن على الأقلّ أن يراد به المبالغة في الشيء أو بيان الأعم الأغلب، ما شئت فعبّر، وهو ما نسمّيه الموجبة الأكثرية في لغة العرب، بل في لغة العرف عامّة. ولا نقول هنا: إنّ كلمة «كلّ» لا تدلّ على العموم، بل نقول: إن عدم دلالتها عليه ليس أمراً منافياً لمعطيات اللغة، شرط تحقق مبرّر استخدامها، وهو الكثرة الكاثرة والأعم الأغلب. وعليه فمعنى الآية الكريمة أنّنا قد بيّنا لكم في القرآن الكريم أغلب دينكم.
شيخنا العزيز
لا أدري لو سرنا معك في هذا الفهم العرفي -البعيد عن لغة التقعيد الفلسفي والمنطقي- فأين سنصل؟
هل يمكن أن نستفيد -مثلا-عصمة أهل البيت عليهم السلام ومرجعيتهم العلمية من حديث الثقلين من خلال الربط بين الوصية بالتمسك بهما معا ومحاولة اسقاط الخصوصيلت القرانية – من عصمة وعدم اتيان الباطل له وكونه تبانا لكل شيء- على أهل البيت عليهم السلام،أم أن فهمنا العرفي والقريب من روح اللغة يفهم منه أسلوبا من أساليب بيان الأهمية ليس الا؟
وكذلك الأمر في حديث المنزلة فضلا عن الآيات القرانية،فلا نطيل،فهل ستتعامل معها -وهي مواضيع مفصلية-وفق هذه الرؤية وبنفس الأسلوب.
دمتم برعاية الله