السؤال: أدعو الله لكم بالعون والسداد، ونقدّر لكم مجهوداتكم الثمينة لما تقدّمونه، الأزمة التي نعيشها في هذا الزمان، وهي التزمّت والتعصب، أصبحنا نعيش القلق، ونحن نبحث عن العلم والمعرفة، بانت لنا أمور كثيرة، واتضحت أكثر، لكن أيضاً كثير من الأمور الأخرى بدأنا نشكك فيه داخليّاً، وهذا الشكّ دعانا للبحث أكثر، لكن في خوف وقلق يسبّب لنا توتراً، وهو تراكم قديم بأنه لو فعلت كذا ستدخل النار، ولو شككت في كذا ستدخل النار أو ستأثم، فيا ليت توضح لنا هذه الحالة التي نعيشها، هل هي صحيحة أو لا؟ وما هو توجيهك لنا؟ حتى عندما نريد أن نستدلّ برواية عندما نتحاور أو في كتابة مقال، لا نعرف الصحيحة منها، فكيف نعرف الرواية؟ وهل تنصح بكتب؟ جزاكم الله خير الجزاء (حسين علي الناصر).
الجواب: لا أعتقد أنّ البحث عن الحقيقة يجب دوماً أن يكون مصحوباً بالخوف والقلق (بالمعنى السلبي لكلمة القلق)، بل يمكن أن يكون مصحوباً بالشوق والحبّ والتطلّع. ما يدفعنا للقلق ليس اكتشاف الحقيقة في كثير من الأحيان، بل تخلّينا عن الخطأ الذي كنّا عليه، فالإنسان قد يشعر بالقلق من تبعات تخلّيه عن خطأ لطالما بنى حياته عليه وأقام شبكة علاقاته على أساسه، بل ربما يكون قد اعتاش عليه وارتزق منه. وبعد كشف الحقيقة يصبح التخلّي عن الخطأ وجعاً وضريبة وتحدّياً في الوقت نفسه، وكأنّك تنسلخ من نفسك ومن مجتمعك ومن تاريخك بحسب حجم الخطأ الذي اكتشفته في منظومة تفكيرك. هذا الجانب من المشكلة يمكن معالجته ليس في الإطار الفكري، بل في إطار بناء الشخصيّة القويّة (والمرنة) الواثقة من نفسها، وبناء الإرادة الشديدة المستعدّة للتضحية في سبيل الحقّ عندما يتطلّب الموقف ذلك.
وما يعزّز هذه الأزمة هو المحيط الاجتماعي الذي لا يسمح بتعدّد الرأي في بعض القضايا الفكرية على الأقلّ، فمثلاً المحيط الاجتماعي المذهبي قد لا يسمح لشخص أن يبحث جادّاً عن الحقيقة فيصل إلى عكس القناعة المذهبية السائدة، وبالتالي يصبح هذا الشخص منبوذاً اجتماعيّاً ومحارباً في محيطه، وهكذا إذا أخذنا شخصاً أراد تغيير ديانته في بلداننا، فإنّ هذه القضية ليست سهلة ولا هيّنة، بل قد يلزمه أن يقضي بقيّة عمره كاتماً لمعتقده ومضطراً لكبت كلّ فكرةٍ عنده إلى الأبد. هذا الحال أيضاً قد يحدث عندما يغيّر الإنسان مساره السياسي في قناعاته بقضايا الاجتماع السياسي في بلده أو في المنطقة التي يعيش.. إنّ المحيط هو الذي يثقل على كاهل الباحثين عن الحقيقة الحمولات، فلا يعطيهم هامشاً كبيراً في بعض الملفّات وقد يعطيهم هامشاً جيّداً في ملفات أخَر. الأمر الذي يختلف باختلاف المناطق والشعوب والبلدان والقضايا.
الجانب الآخر من الموضوع هو في المفارقة التي نعيشها في كثير من الأحيان بين العقل والنفس، والتي تظهر من ناحية أخرى في الصراع بين التفكير والتربية، فهناك شخص أدرك حقيقةً ما أو تشكّك في حقيقة قائمة، وبالرغم من أنّ عقله يذهب به نحو التشكيك في الحقيقة المزعومة من حوله لكنّ نفسه وتربيته يضغطان عليه ويخلقان له التبريرات التي تدعوه لعدم التشكيك أو للتوقّف، ويبتكران له الفروض، مثل: لعلّك مخطئ فيما توصّلت إليه، ولعلّ هناك من يفهم أكثر منك، ولعلّك لم تبحث جيداً، مع أنّ (لعلّ) هذه لا يجريها أحد على الطرف الآخر، ليس لشيء إلا لأنّ الطرف الآخر هو الحقيقة السائدة في المجتمع، فيصبح تبنّي المجتمع لحقيقةٍ ما عنصراً مهدّئاً نفسيّاً أحياناً فيما عدم التبنّي عنصر قلق.
الحلول هنا بسيطة في تقديري وتقوم على:
1 ـ عدم الكفّ عن السؤال في الموضوع الإشكالي الذي تواجهه، فأينما كانت الفرصة متاحة لك فاسأل عن هذا الموضوع؛ لمراكمة الخبرة ومشاركة العقول.
2 ـ إعطاء الفرصة للحقيقة السائدة ولمدّة زمنية طويلة كي توجِّه إليها الأسئلة، ثم تحصل على إجابات، بمعنى: لا تستعجل في الحكم.
3 ـ انتبه للعناصر النفسيّة التي يمكن أن تكون هي المحرّك الأساس لتفكيرك، وليس العناصر العقلية والعلميّة، فقد تكون محبطاً أو يائساً أو تشعر بفشل على المستوى الفردي أو الجماعي، فيرتدّ اليأس والإحباط نقداً لكلّ الواقع المحيط وتمرّداً عليه بطريقة غير موضوعيّة. وبكلام مختصر: حاول اكتشاف نفسك أكثر قبل أن تدّعي أنّك اكتشفت الحقيقة.
من الضروري أن تدرس قبل كلّ شيء سبب تشكيكك بأيّ حقيقة سائدة، فهل هو سبب معرفي حقيقي أو هو سبب نفسي قد يكون ناتجاً عن غضب أو ضعف شخصيّة أو غير ذلك؟ وإذا كنت متأكّداً من موضوعيّة تفكيرك فخذ موقفاً ولو بينك وبين نفسك، وإذا استجدّ أن عادت الحقيقة السائدة للثبوت من وجهة نظرك فبإمكانك العودة للاقتناع بها، واعلم جيداً أنّه لا توجد في الذهن الكثير جداً من الحقائق المطلقة التي لا تقبل التغيير، فالأفكار ليست هي الحقائق، بل الحقائق نحاول أن ندركها بالتفكير.
4 ـ حدّد مركز المشكلة أو الإشكاليّة، ولا تكن فوضويّاً في تفكيرك، فوجود خطأ في مكانٍ ما لا يعني أنّ المنظومة بأجمعها خاطئة. وبكلام مختصر: حاول أن لا تضحّي بالصواب الموجود في منظومةٍ معيّنة وأنت تحاول تفادي الباطل الذي في هذه المنظومة، اشتغل على التمييز بين الحقّ والباطل وحدودهما وتأثيراتهما، فليس لأنّ هذه المنظومة الفكريّة فيها ما هو حقّ فهذا يعني أنّها برمّتها حقّ، وليس لأنّك اكتشفت فيها باطلاً يعني أنّها برمّتها غدت باطلاً محضاً أو شرّاً مطلقاً.. إنّ قدرتنا على التفكيك القائم بالدرجة الأولى على هدوء الأعصاب، ضرورة عظمى لتحقيق تحوّلات فكرية منطقيّة في ذواتنا.
5 ـ إذا وجدت من نفسك بعد هذا كلّه أنّك غير مقتنع، فمن حقّك أن تتوقّف عن الإيمان بهذه الحقيقة. وعليك أن لا تشعر بالخوف في هذه المرحلة (بعد استنفاد العمل والمقدّمات)، بل عليك الشعور بالطمأنينة، أو على الأقلّ قل لنفسك: إنّ الخطر المحتمل في فكّ قناعتي بهذه الحقيقة المزعومة لا يقلّ عنه خطر محتمل في ربط قناعتي بها، والفرق النفسي هو أنّ الأخطار المحتملة الموجودة في ربط قناعتك بهذه الحقيقة صارت مألوفة لك ومتعوّداً عليها حتى أنّك بتّ لا تشعر بها، أمّا الأخطار المحتملة الناتجة عن ترك قناعتك بهذه الحقيقة المزعومة فهي غير مجرّبة لديك؛ ولهذا تشعر بالقلق منها.
6 ـ دائماً قل لنفسك: ليس هناك من يفكّر عنّي، وعليّ أن أفكّر عن نفسي في قضاياي الكبرى، وإذا قرّرت يوماً أن أوكّل أحداً في التفكير عنّي فيجب أن أفكّر في قرار التوكيل هذا: هل هو منطقي؟ هل هو صحيح؟ هل له مبرّر عقلاني؟ إنّ هذا الموضوع صعب علينا أحياناً بسبب تعوّد الشخص منّا في عالمنا الإسلامي على أن يفكَّر عنه، بل على أن يشعر بالخوف من أن يفكّر بنفسه.. لا أدعو إلى تفكير متمرّد، بل أدعو إلى تفكير حرّ.. وفرق كبير بين التفكير المتمرّد المتفلّت وبين التفكير الحرّ.. كن حرّاً وأنت توكّل غيرك في التفكير عنك.. كن حرّاً وأنت تفكّر في قضاياك.. واعلم جيّداً أنّ أكثر الحقائق لا تثبت بعدد أنصارها ولا بحجم جمهورها، بل بمنطقيّتها وجدواها.. الله والإنسان والضمير والتاريخ سيسألونك أنت عن هذه القضايا: لماذا اتخذت بنفسك القرار الفلاني؟ ولماذا فوّضت لغيرك القرار الآخر؟ وفي كلّ الحالات يجب أن يكون الجواب عندك وليس عند غيرك.
7 ـ ليس من الضروري أن أفتعل مشكلةً مع الناس كلّما اكتشفت حقيقةً غائبة عنهم، فأولو الألباب قد يكتمون في صدروهم حقائق أدركوها، لكنّ المحيط لا يتحمّلها أو لا يتقبّلها، فإذا كانت الفرصة متاحةً وممكنة تخدم الحقيقة نفسها فيمكن الحديث عن هذه الحقيقة المختلفة، وإلا فالصمت ليس عيباً في بعض الأحيان، وعليك التمييز واختيار الوقت والظرف الملائمين.
8 ـ تأكّد أنّ نزاهة تفكيرك نزاهةً أخلاقيّة كفيلةٌ بأنّ تعذرك أمام الله والضمير، والمفتاح هو تهذيب النفس وتربية الروح وتطهير القلب، فقد لا تتمكّن من إصابة كبد الحقيقة، لكنّك قادر على امتلاك نزاهة البحث عنها. والشرف الأخلاقي هنا ربما يكون أكثر أهميّةً من الشرف المعرفي الكامن في إصابة الحقيقة.. كن حريصاً على سلامة عملك الفكري والنفسي بنفس الدرجة التي تكون فيها حريصاً على إصابة الحقيقة.. لأنّ خباثة النفس لن يُعذر الإنسان عليها حتى لو أصاب الحقيقة بالصدفة؛ لأنّه ارتكب خطيئةً روحيّة، أمّا عدم إصابة الحقيقة فقد يُعذر عليه لو كانت نفسه سليمةً وطاهرة ومخلصة وصادقة، والتبست عليه الأمور؛ فلا يكلّف الله نفساً إلا وسعها.. والله يعذر المخطئ عندما لا يقصّر في المقدّمات، فهو سبحانه ـ وكلّنا ثقة به تعالى ـ أعدل وأحكم وأنصف من كثير من البشر الذين أخبرنا هو بنفسه في القرآن عنهم بأنّهم بخلاء يستكثرون على الناس الجنّة والنعيم والسعادة والعفو والرحمة، قال سبحانه: (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) (الإسراء: 100).
كلام من ألماس…
استفدت كثيرا من هذا الرد. الكلام عن الجانب النفسي في البحث عن الحقيقة مهم جدا. بارك الله في سماحة الشيخ حب الله.
جزيت خيرا , نعم هي الكلمات التي تخرج من القلب تقع في القلب
وهكذا هم اهل العلم والمعرفه والوعي
احسنتم … وجزاكم الله خيرا على هذا الرد الرائع .
نرجوا من الله لكم التوفيق
الشيخ حب الله آخر سلالة التنوير بعد ان عج الزمكان الاسلامي بالخرافة والعمى ! الشيخ حب الله ايقونة فكرية نادرة جدا ! فهو يكتب ليضيء كما هو ديدن عظماء الفكر البشري..محبتي الفائقة..
شكرا لاخونا الحبيب سماحة الشيخ حب الله اخوك الصغير د.عامر الطائي