السؤال: تحدّثت في كلمةٍ لك عن حصر الصراع في أماكن مغلقة بحسب ما فهمت منك، وهناك من يقول بمحبّة: لعلّ سماحة الشيخ حبّ الله في موقعه ينقل لنا هذا الصراع، ولا يقتصر به داخل الحوزة وبين أهل الاختصاص، فماذا تقولون؟
الجواب: يبدو لي أنّه قد حصل خلط بين مفهومين: نقل المعرفة ونقل الصراع، فأنا من المدافعين عن عدم حجب المعرفة عن عموم جمهور الأمّة، ومن المدافعين عمّا أسميتُه مبدأ البيان الديني مقابل مبدأ الكتمان الديني، وقد كتبتُ في هذا بحثاً في كتابي المتواضع (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 232 ـ 298)، فأن ننقل للأمّة المشهد المعرفي حول القضايا الدينية والكلامية والفقهية فهذا شيء جيّد ومطلوب، ولا يصحّ أن نعمل على تعمية أبصار الجمهور عن الحقائق الدينية بحجّة قصورهم أو ضعفهم أو كونهم لا يستحقّون أن يطّلعوا على البحوث الدينية. أمّا مبدأ (نقل الصراع) فهو شيء آخر، فأنت في مبدأ نقل الصراع لا تعرّف الأمّة بالخلاف الفكري في قضيّة معيّنة تعريفاً علميّاً هادئاً، بل تقوم بتوسعة نطاق الصراع، فتشرك الأمّة في الخلاف الدائر بعنف بين النخب الفكريّة والدينية، بحيث يكون هناك حالة صراع (لا حالة اختلاف معرفي في وجهات النظر)، فتقوم أنت بتوسعتها من الوسط النخبوي إلى الوسط الجمهوري العام، فيصبح الجمهور متصارعاً أيضاً، بعد أن كانت النخب متصارعة فقط.
سأعطي مثالاً: نحن قبل ثلاثين سنة تقريباً كان الخلاف السنّي ـ الشيعي موجوداً أيضاً، وكانت الكتب تؤلّف في القضايا الخلافيّة بين المذاهب، ويطلع عليها الناس، لكنّ الأمّة لم تكن تشارك في صراعٍ مذهبي، فعندما أقوم ببسط هذا الصراع من حالته النخبوية إلى أن يصبح صراعاً (وأؤكّد على كلمة صراع) عامّاً فهنا تكمن المشكلة.. إنّ القضايا الفكرية والدينية والمذهبيّة هي من حقّ كلّ مسلم أن يعرفها، لكنّ تعريفه بها شيء وإدخاله في صراعها وقضاياها شيء آخر، والعمدة في هذا الاختلاف بين المشهدين هو طريقة نقلنا للأفكار، فتارةً أنا أدخل المسجد أو قاعة الجامعة فأقوم بتهييج جمهورٍ من الناس ضدّ مرجع معيّن أو كاتبٍ أو مفكّر معين، فيضطرب المسجد أو يضطرب الحرم الجامعي بين فريقين، فيتشارك الناس في الخلاف بحدّة تبعاً لطريقة الحدّة التي طرحتُ فيها الموضوع، وهذا نقلٌ للصراع. ومرّةً أخرى أقوم بإلقاء محاضرة في الجامعة وأبيّن فيها أنّ في المسألة الفلانية خلافاً بين الباحثين، وأشرح مبرّرات كلّ فريق بهدوء، دون أن أخلق في المشاعر العامّة أو في الفضاء العام حالةَ صراع وتشنّج وجذب أو دفع متبادل، فهنا هذا نقل معرفي وليس نقلَ صراع، حتى لو كنت أدافع في هذه المحاضرة نفسها مثلاً عن إحدى وجهات النظر. وإذا حصل صراع فقد يكون سببه الآخرون الذين خلقوا ضدّي ـ بعد إلقاء هذه المحاضرة في الجامعة مثلاً ـ فوضى وضجيجاً وغوغائيّة.
هذا هو الفرق بين الأمرين، ولعلّني أكون قد أوضحت الفكرة، ولهذا فإنّني سمّيت الموضوع ـ كما ألمحتم في سؤالكم ـ بنقل الصراع، لا بنقل البحث الفكري والعلمي.
ويجب أن ألمح أخيراً، إلى أنّني لا أقصد أيضاً تغييب الأمّة عن قضاياها، فالأمّة يجب أن تشارك في كلّ مواجهة أو صراع نافع، إنّما الكلام في بعض الصراعات التي نجد أنّه لا فائدة من مواجهة الأمّة لها؛ إذ سيزيد ذلك من اضطرابها وتراجعها وتمزّقها بلا مقابلٍ يستحقّ ذلك، وتشخيص الأمور يتبع قراءة كلّ شخص منّا للأولويات الزمكانيّة.